الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الصحة النفسية... الأهمية مُقابل الإهمال!
هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث
(Hashem Abdallah Alzben)
2019 / 11 / 27
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
هل يُعقل أن تخلو مدينة من مُستشفى أو مركز صحي في أقل تقدير؟
وما أهمية المستشفى/المركز الصحي للفرد داخل الدولة؟
في كل يوم تمتلأ المُستشفيات الحكومية والخاصة بآلاف المُراجعين، وفي كل لحظة هُناك حالة صحية طارئة تستدعي تدخل طبي عاجل، وتُعنى الدولة "الحديثة" بصحة المواطنين وعافيتهم وتوفير الخدمات الطبية لهم كحاجة إنسانية في المقام الأول وكحق وطني رئيسي نصّت عليه الدساتير الوطنية؛ خدمات طبية مُستمرة طوال اليوم بعدد أيام العام كاملة.
لا يوجد يوم تتعطل فيه العناية الطبية وتُغلق أبواب المُستشفيات أمام الناس، كما يحدث في باقي المؤسسات الحكومية والخاصة على حدٍ سواء... من هذا الواقع نُدرك أهمية الصحة وأولويتها في حياتنا، ونقصد بـالصحة فيما ذكرت، الصحة الجسدية، ولكن ماذا عن الصحة النفسية؟
نعم، هُناك إهتمام وعناية أسرية/إجتماعية/حكومية بصحة الجسد وعافيته، ففي كل مدينة ثمة مُستشفى مُجهز بطاقم طبي وتمريضي كامل وجاهز لأي طارئ وذلك في أفضل الأحوال، وفي اسوأها، في كل تجمع سكاني ثمة مركز صحي أو عيادة حكومية أو عيادة دكتور خاص،
لا أُقلل من شأن الرعاية الصحية الجسدية، ولا من أهميتها التي لا تقل عن أهمية الصحة النفسية والعقلية بل ترتبط بها وتتكامل معها،
فالثانية تكاد تنعدم ولا يتم التطرق إليها كأنها تَرف ورفاهية لا تتوافق مع واقع الحال البائس والمُعدم... ففي الواقع هُناك تقصير كبير؛ فالمستشفيات لا تتسع للمُراجعين، وحالات الطوارئ لا تحتملها الطواقم الطبية، وثمة نقص في عدد الأسرة والغُرف المُخصصة للمرضى، والبُنية التحتية للمستشفيات بحاجة إعادة بناء لا ترميم فقط، والأخطاء الطبية تحدث في كل حين... الخ،
لستُ هُنا بصدد قراءة واقع الحال الصحي بشكل عام، بل سأتطرق للحديث عن جُزئية في المجال الصحي الواسع والمُتشعب،
جُزئية تكاد تكون مجهولة في واقعنا الحياتي، رغم شيوعها، الا وهي "الصحة النفسية".
ما هي الصحة النفسية؟
يُمكن إختصار مفهوم الصحة النفسية بسؤال واحد تطرحهُ على نفسك:"كيف حالي اليوم؟".
قبل تعريف المُصطلح، وبحسب منظمة الصحة العالمية، تتصدر الدول العربية العالم في نسبة تفشي مرض الإكتئاب، مع تفاقم العنف فيها وغياب الإستقرار على المستوى الفردي والجماعي، والزيادة السريعة للطابع الحضري للحياة، هذا الطابع الذي يعزل الإنسان عن ذاته، ويُغرقه في الضوضاء والضجيج والتسارع، المُفضي للضغط النفسي المُستمر.
ولكن في المقابل، تشهد المنطقة العربية إنتشاراً متزايداً وإن كان خجولاً لموجات التوعية بالصحة النفسية، بما يُسمى "شهر الصحة النفسية"، الذي يُصادف شهر أيار/مايو.
مصطلح الصحة النفسية فضفاض ولا يُمكن تعريفه بشكل مُحدد، كما هو حال العاملين في مجال الصحة النفسية، فهم يتراوحون ما بين أطباء عقليين، وإختصاصيين نفسيين عياديين، وإختصاصيين في الإرشاد النفسي (علم النفس الإرشادي)، وإختصاصيين إجتماعيين طبيين عقليين... الخ، كل أولئك يقومون بأدوارهم المُختلفة في مجال الصحة النفسية، وهي ببساطة حالة التعافي النفسي/الوجداني من الإضطراب والخلل، والتي تُؤدي للفعالية الحياتية والإتزان الإنفعالي والسلوكي.
الصحة النفسية والواقع...
لم يتم الإعتراف بعد بأهمية الصحة النفسية وحاجة الإنسان الأساسية إليها. ما زالت كمفهوم تُعاني إبهامًا ونظرة سلبية (وصمة عار)، ويرتبط مفهوم المرض النفسي/العقلي بما يُصطلح عليه إجتماعيًا "جنون".
"المجنون" هو شخص منبوذ/موصوم إجتماعيًا، وهو بالتالي يفتقد للقيمة الإنسانية، ويتم سجنه وأحيانًا عقابه، إلى أن يموت، ليستريح هو و المُجتمع منهُ ومن أعباءه!.
إذن نحنُ إزاء صورة نمطية عامة وخاصة، تصوّر كل ما هو نفسي بصورة مغلوطة ومُشوهه،
لذلك لا يُمكن قبول الإعتلال النفسي، فما بالك بالإضطراب النفسي أو العقلي: إكتئاب وقَلق مَرضي ورُهاب إجتماعي وصولًا للفُصام وإضطرابات الشخصية والهوس الإكتئابي،
بدايةً، الصحة النفسية ترتبط بشكل رئيسي بالتكيف الإجتماعي والطمأنينة القاعدية، وتبدأ منذ وجود الجنين في رحم أمه وتمتد لآخر العمر،
فالدراسات والأبحاث العلمية في مجال الصحة النفسية أثبتت تأثر الجنين بصحة أمه النفسية، وبعد الولادة وحتى عُمر الخمس سنوات، يكون الطفل في هذه المرحلة ذا حساسية مُفرطة بشأن صحته النفسية كما الجسدية، هذه المرحلة تُشكّل قاعدة صحة الفرد نفسيًا، فإما أن يخرج منها صحيحًا نفسيًا ذا مناعة نفسية عالية، أو العكس، وذلك يرتبط بالوالدين ومدى ترابط الأسرة وإنسجام أفرادها ووضعها الإجتماعي والإقتصادي والثقافي.
مرحلية حياة الإنسان تتطلب الإستمرارية، فالطفل عندما ينتقل من مرحلة البيت (الأسرة) إلى مرحلة المدرسة، يحتاج لدافعية ترتبط بالمرحلة السابقة وتتوسع في بداية المرحلة الآنيّة، يعني ببساطة، تهيئة الطفل للمدرسة لا من حيث أنها إنفصال عن واقع مألوف ودخول في مجهول، بل وكأن المدرسة تطور إيجابي في مُحيط الطفل المعرفي-المهاري،
ففي سنواته الماضية، تم إشباع رغباته المعرفية وتم إعطاءه مجال حُر ومفتوح للتساؤل والإطلاع والتعبير اللغوي والفني، وأعتاد مُشاهدة البرامج الكرتونية الهادفة... الخ، فجائت بيئة المدرسة (المُجهزة تربويًا)، للإنطلاق في المعرفة والفهم والتعلّم،
الإعتلال النفسي يحدث هُنا، كأول حالة "المرض النفسي" في غُربة الطالب المدرسية، وتبدأ المُعاناة الوجودية بالتشكّل والظهور، عندما تتظافر عوامل خارجية (بيئة مدرسية سلبية، وأساتذة غير مُؤهلين، عدم توافق مع رفاق الدراسة، وأسرة مُفككة أو مُضطربة)، وعوامل داخلية تتمحور في الحاجة النفسية غير المُشبعة وإستعداد نشوء مرض نفسي، كل هذه العوامل تُنتج إنسان/طفل بدأت مُعاناته النفسية تتشكل وستتفاقم تدريجيًا، ببساطة لأنها "غير مُعترف بها"، فهذا هو الواقع وعليه أن يحتمل ويتنكر لشعوره، ويتصنع القوة والجَلد...!
كما هو واضح، الأسرة هي أساس صحة الفرد النفسية، وبالتالي هي جوهر الصحة النفسية العامة، وبعد الأسرة، تأتي المدرسة كثاني مُقوم للصحة النفسية،
الواقع مُغاير تمامًا للتطلعات، وقد تبدو تطلعاتنا محضُ خيال أو تَرف لا يتوافق وواقعنا هذا المليء بالتحديات والصعوبات... الخ،
وهذا ما دعاني لكتابة هذا المقال، والذي أعلم بأنه لن يُعالج قضية "الصحة النفسية" في العالم وفي عالمنا العربي تحديدًا، وبالأخص في وطني الأردن، ولكن هي مُجرد مُحاولة بسيطة لدق ناقوس الخطر وللتذكير بأهمية الوجدان/النفس في عافية إنساننا، والتي تصب في إعمار الأوطان وأزدهارها، فالأوطان هي صورة الفرد، والفرد هو جوهر الأوطان،
أعود للمدرسة ودورها في الصحة النفسية، الواقع التعليمي منذ عقود يُعاني من الجمود والثبات، إلا قليلًا من التطوير والتحديث الخجول هُنا وهُناك، وهُنا لا مجال للتخصيص والبحث المُعمق، فقط سأتناول الواقع التعليمي/المدرسي بشكل عام،
المدرسة تتكون من؛ مباني وغُرف صفية، إدارة وطاقم تعليمي، ومناهج دراسية، وطُلاب، وبطبيعة الحال الطالب هو محور العملية التعليمية، وكفاءة المُعلم (المعرفية، والسلوكية، والإنفعالية) هي عمادة هذه العملية،
نجومية المدرسة (التفوق) تحدث من خلال تربية مهارات معرفية ضيّقة، ويُبذل كل الجهد في تصنيف الطلاب في رُتب تتعلق في مدى حفظ المعلومات وأستذكارها، يقول هوارد جاردنر صاحب نظرية الذكاءات المُتعددة، بأنه قد آن الأوان لكي نصرف وقتًا أقل في تصنيف رُتب الطلاب، ووقتًا أطول في مُساعدتهم على إكتشاف كفاءاتهم ومواهبهم الطبيعية وتنميتها. يبدو بأن هذا الطرح مثاليًا جدًا، وبأننا تعليميًا ما زلنا في مراحل بدائية، وحاجاتنا لم تزل أساسية! ولكن هذه الحقيقة، حقيقة أن واقعنا التعليمي بدائي ولا يَرقى للواقع المطلوب يُحتم علينا المُضي قُدمًا في تطوير وتحسين العملية التربوية، لتتعزز صحة الأفراد النفسية، وبأن تقوم المدرسة بتنمية مهارات الحياة والنجاح فيها، ومن أهم هذه المهارات "الذكاء الإنفعالي" وهو يُشكل قطاعًا كبيرًا في الصحة النفسية، وهي جوهر حديثنا في هذا المقال، فضلًا عن الإعتراف بأهمية وجود عناية نفسية مُخصصة للطلاب تعمل جنبًا إلى جنب مع الهيئة التدريسية،
فالطالب الذي يكون في العملية التعليمية مُجرد آلة معرفية وكائن مُباريات تحصيلية وأختبارات، بالمُقابل فإن الفلسفة التعليمية المُنمية تتعامل مع التلميذ/الفرد ككيان كُلي يتقدم في جميع خطوط نموه بشكل مُتكامل،
فمشروع التنشئة للمُستقبل، يبدأ في الإهتمام والتركيز على الصحة النفسية النمائية، بحيث لا ينشأ الطفل في بيئة مُعززة للإضطراب والخلل، بل في بيئة تُعزز مناعته وكفاءته النفسية والعقلية، من خلال بناء الإقتدار المعرفي لدى التلميذ، وترسيخ ثقافة الإنجاز والإبداع والإنطلاق، والجُهد المُنتج، وبناء صورة الذات الفاعلة والمُنتجة والمُبادرة والمُنفتحة على تغيرات الحياة المُتسارعة وتحدياتها.
لقد أستغرقت في الكتابة عن دور الأسرة والمدرسة في الصحة النفسية، لما لهما من دور رئيسي ومحوري في حياة الفرد الأولية كمدخل للإنخراط في الحياة الإجتماعية والتأثر والتأثير بها.
نحن في مجتمعاتنا العربية، الشرق أوسطية تحديدًا، نُعاني "أزمة وجود"، فأوطاننا ترزح تحت وطأة الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية المُعقدة والمُتشعبة،
حروب وصراعات مُستمرة، وواقع إقتصادي مُتأزم، وحداثة غريبة ترتطم بعادات بائدة وصراع طبقي وثقافة إستهلاكية، وعبثية حياتيه، تجعل من حياة الفرد مُجرد سلسلة من المآسي والمحن ومُحاولات النجاة والتعلّق بالآمال والرغبات، التي تتحول شيئًا فشيئًا لمُستحيلات، ليستسلم في وضعية كائن مهزوم، ومحكوم بأقدار حتمية وقوى إعتباطية تُحرّكه وتدفعه للحياة كاَلة مُبرمجة وتعمل وفق آلية مُحددة،
هذا الواقع يجعلني أشعر بتفاهة التطرق للصحة النفسية، مع أنني بالمُقابل أعلم دور الصحة النفسية وإرتباطها الوثيق في كل ما ذكرت،
فحالات العنف الإجتماعي بكل أشكاله، والتطرف والإرهاب والهدر الإنساني والقهر الذي يُمارس على الشعوب والأفراد، ونسب الإنتحار والموت المُبكر وإنعدام قيمة الحياة، كلها تدور في دائرة كبيرة أسمها "الصحة النفسية"، فكل تلك الظواهر هي مُؤشرات لحال الصحة النفسية، وفي حالة مُجابهة تلك الظواهر لابد من أخد موضوع الصحة النفسية بعين الإعتبار، وكأولوية في مشاريع النهضة والتنمية بكل أنواعها.
يبدأ العلاج بالإعتراف بالخلل، ومن ثم التشخيص ووضع آلية علاج مُتكاملة وواقعية، وقبل ذلك الإيمان بالفكرة، فكرة أن العلاج مُمكن،
فمن المُمكن تغيير الصورة النمطية عن المرض النفسي والعلاج النفسي، وبأن الصحة النفسية كما ذكرت سابقًا لا تقل في أهميتها عن الصحة الجسدية،
وبأن المريض نفسياً أو عقليًا، يستحق العناية الفائقة والحثيثة، للوصول لحالة العافية اللازمة، ليعود ويقوم بدوره الحياتي، وينسجم مع محيطه الإجتماعي ببساطة، أو في حالة المرض الخطير، لا يتعرض للإقصاء وكأنه مُجرم، بل يلقى العناية والرعاية الصحية التي يستحقها كأنسان، غير فاقد لقيمته الإنسانية.
ومن هُنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، بل ودور الدولة ككل، في إعطاء الصحة النفسية أهميتها والعمل وفق برامج وخُطط تُعنى بصحة الأفراد نفسيًا.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لماذا أجّلت الجزائر اجتماعا هاما مع مفوضية الاتحاد الأوروبي؟
.. عودة العلاقات التجارية بين الجزائر وإسبانيا بعد قطيعة تجاوزت
.. ليبيا: جدل وانقسامات حول انتخاب محمد تكالة رئيسا للمجلس الأع
.. موريتانيا: إعادة محاكمة الرئيس السابق ولد عبد العزيز أمام مح
.. -حفل العار-...شعار تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ومناهضة لحفل داع