الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الأول/ 4

دلور ميقري

2019 / 11 / 28
الادب والفن


امرأة رمضان آغا، المماثلة له في العُمر تقريباً، كانت أملاكها تضاهي أملاكه. لكنها ببساطتها وطيبتها، أودعت كل ما يتعلق بها في عُهدة الزوج. لقد استسلمت بوداعة ورضا لحياةٍ أسرية، لم يكن يحدّ من رغدها وسعادتها سوى الافتقار لذريّة مذكّرة ـ وهذا أيضاً، كان تضامناً منها مع شعور الرجل. ولو أنه القدرُ مَن أخذ أرواحَ ذريتها، الواحد بأثر الآخر. برغم مرضها، كانت ما زالت تأمل بإمكان إنجاب الصبيّ المأمول: لكن حينَ حصل ذلك مؤخراً، طالت عُمرَهُ الغض يدُ الموت بلا رحمة.. وها هيَ تحاول إلحاق أمه به.
إنها الآنَ منهكة القوى على أثر النفاس، لا تكاد تغادر فراشها إلا لماماً. فيما مضى، كانت تستعيد حيويتها بمجرد وصولها إلى الزبداني سواء أكان الوقتُ ربيعاً أو صيفاً. كان هذا المكان، المنفتح على طبيعة خلابة لا مثيل لها في بر الشام، يعوضها عن الأسر بين جدران دارها في الحي. كذلك كان حال غيرها من النسوة، اللواتي يتكرّم عليهن الأزواج كل عام بنزهة من عدة أيام إلى بضعة أسابيع إن كان في الريف أو الغوطة. إلا أن امرأة رمضان آغا، بأي حال، لم تفتقد السلوى ومشاعر الأمومة في آنٍ واحد، وذلك بوجود الابنة الحبيبة، التي بقيت لها من دون أشقائها الراحلين.

***
من هذا الباب بالذات ـ باب الابنة الوحيدة ـ دخل رمضان آغا في ذلك اليوم، المعقّب خفقان قلبه بشعور الحب غبَّ لقائه، مصادفةً، الفتاة الريفية الفاتنة؛ سميّة حوريّة الفردوس السماويّ. وجد امرأته، كالعادة، ملتزمة الفراش في حجرة النوم، المعبّقة برائحة الأعشاب الطبية، المعدّة بوساطة امرأة البستانيّ. ومثلما حالها المألوف أيضاً، استقبلت الزوجةُ رجلها بشيء من الخوف الممزوج بالابتهاج: المسكينة، كان يسرّها أقل التفاتة يُظهرها الرجلُ نحوها، ولو مجرد إلقاء نظرة عن بعد. لكنه الآنَ يتقدّم إلى سريرها، فيجلس على طرفه فيتناول يدها، الظاهرة فوق اللحاف. ظل ينظر إليها للحظات، وكانت السعادة تغمر محياه جميعاً. أسعدها ذلك، ولا غرو، وأنعشها؛ فعل الصوت والصدى في الوادي.
" أنتِ تحبسين نفسك هنا أكثر من اللازم، مع أننا وضعنا خصيصاً لك أريكة على التراس "، قال لها بلهجة حافلة بالحنو والشفقة. احمرت قليلاً، وكانت يدها ترتعش تحت يده.
" أنا أحاول الاعتياد على العزلة، لأنني قريباً سأكون في مكان تحت الأرض، عميق ومظلم ورطب ومتوحد "، نطقتها في صوتٍ وانٍ ينضح بالألم والتسليم بالمقدور.
" سوف تتحسنين بقدرة الله، ولو شئتِ لجلبت لك طبيباً من المدينة؟ "، قال ذلك مرتبكاً.
" كيف السبيل إلى الأطباء، وقد نُكبوا مذ بعض الوقت بما حدث لحي النصارى؟ "
" ثمة أطباء يهود، وكان أحدهم قد تولى سابقاً معالجتك "
" كان يقيم في نفس الحي المنكوب، وربما قضى مع من قضى من ساكنيه؟ "
" مهما يكن، سأكلفُ الوكيلَ بالأمر. فلعلّه يهتدي إلى أحد الأطباء هنا في الزبداني، أين يعيش العديد من أبناء الملة النصرانية "، أوضح الآغا وقد غلبته عاطفة الشفقة فسلا ما جاء من أجله. هكذا نهض واقفاً، ثم ما عتمَ أن ترك المريضة وغادر الغرفة.

***
حوريّة، ولسببٍ تكهّن هوَ به يومئذٍ ـ ثم علمَ به يقيناً فيما بعد ـ كانت قد تأخرت عن اللحاق بصُحبة صديقاتها، العائدات من النبع. صار رمضان آغا بمواجهتها على جواده، وذلك بحركة مقصودة بغيَة المداعبة. لكنها انزلقت بخفّة إلى طرف الطريق، فيما بسمتها تتألق على ثغرها المنمنم، الذي بلون تفاح الزبداني ذي الاسم المُتوَّج بهالة الشهرة. عوضاً عن شبكة الطرائد الدامية، كان يمسك بيده هذه المرة باقةً من الأزهار البرية، المحزومة بشريط نباتيّ.
" هذه لكِ..! "، قالها في صوتٍ مرتفع مع قذفه الباقة باتجاهها. كانت حركة طائشة، مثلما قدّرَ لاحقاً بكثير من الأسف، جديرةً بإنسان افتقد الدِرْبَة والخبرة فيما يتعلق بالتعامل مع فتاة يانعة السنّ. مع ذلك، تواترت ذبذبات قلبه حينَ التفتت، بلمحةٍ خاطفة، صفحةُ وجهها إلى جهته وكانت البسمة ما فتأت مغروسة فيها ـ كما كان حال الأزهار البرية، التي اقتطفها من السهل الممراح، المنسابة فيه الجداولُ من كل فجّ عميق انسياب الحب في قلب المرء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ