الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثًلاثُونَ عَاماً من عُمري قدْ مَضَيْن - سِيرة التّشظّي، القلقْ ، الوِلادةِ والتّحول

احمد يعقوب ابكر
قاص وناقد

(Ahmed Yagoub)

2019 / 11 / 29
الادب والفن


ثًلاثُونَ عَاماً من عُمري قدْ مَضَيْن
سِيرة التّشظّي، القلقْ ، الوِلادةِ والتّحول
أحمد يعقوب
في تلك العصور السحيقة ؛قلت للكأس الذي استمنى على صوت موسيقى الليل : لتوي الان أخرج من محار الجسد ، مدركاً ان ثلاثين عاماً من عمري مضت كأميبا مقذوفة في عمق الاطيان المروية والدهور الصدئة وأنني الان ادخل أزمة منتصف العمر .
عواء الريح العقيم يخترق هدوء الليل ، تتحول الامسية الى سقم ،اتنفس اوكسيجيناً مسموماً ومخلوطاً بالقبح والحداثة،يذبل الجسد كزهرة الصباح التي طلعت عليها شمس السافنا الفقيرة خلسة، اتصبب عرقاً مالحاً اتذوقه بطرف لساني، افتح الكمبيوتر وادوس على موسيقى كينجي التي تداعب اوتاري الداخلية ، الموسيقى التي تنعش مسامات جسدي وتجعله متفتح كوردة، هي نفسها التي ستدخل عبر شراييني مروراً الى الوريد الذي يضخ هذه الهمسات الى القلب، يعتدل مزاجي، اتنفس بعمق صوت كمنجة تعزف ما بين نهدين بايدي مصقولة ومشذبة جيداً في يوم خريفي صحو على شواطئ النهرين العتيقين، وصوت الفلوت يهز روحي المتعبة ويجعلها تستدعي تواريخاً نسيت في ارخبيل متاهات ذاكرتي المثقلة والمتعبة، ادرك انه يوم مولدي وانه علي ان احتفل بطريقة ما بهذا اليوم الذي يعذبني ويؤرقني ، لا ادري اذا كنت اكره يوم مولدي ام لا ولكنني احس بانني تائه ومخنوق، اذاً يجب ان اكتب لدي رغبة بالكتابة عن تواريخ موغلة في ذاكرة النسيان البشري، تواريخ تشظت وتناثرت كالزجاج تواريخ تهمني وتهم اشخاص غيري ، هذه شهادة يجب ان تقرأ وتحرق.
(1)
وفي زمهرير الشتاء القارص من نهايات نوفمبر؛ كانت امي والوطن يشهدان مخاضاً صعباً ، كانت البلاد لتوها تكابد للعيش في ظل الانقلاب الذي مر عليه خمس اشهر ونيف وباعلان الطوارئ كانت اجواء الوطن ملبدة بغيوم ثقيلة جاثمة على انفاس الشعب اصبح الهواء ثقيلاً واحذية العسكر الثقيلة تجوس الارض معلنة انها ظل الله على الارض، وان البلاد قد رجعت الى نور الخلافة الاسلامية الراشدة بعد ان كانت تحكم تحت ظلام ديمقراطية الفرنجة ، وان الملائكة الان تلازم امير المؤمنين الذي يرتدي البزة العسكرية وقد حضر كبير الملائكة ليكون شاهد اً على الخطاب التاريخي الذي القاه خليفة المسلمين ، وان كان الملاك ممتعضاً من البزة العسكرية التي تتناقض مع جلبابه الابيض وريشه الناعم حتى ان امير المؤمنين داعبه مداعبة سمجة قائلا له: ريشك هذا يصلح للوسائد التي ترقد عليها الحور، واجابه كبير الملائكة بضيق لم يستطع اخفائه ان بزته العسكرية هذه تصلح لقيادة غزوة احد التي هزم فيها المسلمين شر هزيمة .
وفي تلك الازمنة الحالكة واجهت امي مخاضها الخاص ،فقد اكملت تسعة اشهر في بطنها وكنت أرفض الخروج في هذا الجو الملبد بغيوم الطوارئ ، حيث كنت اسمع قرع نعال العسكر وهم يجوبون الشوارع ، اضافة الى طقس الرحم الذي كان يعجبني ، كان ابي يجوب انحاء البيت قلقاً على شئ واحد وهو ان تنجب امي ذكراً ليكون طبيباً وها هي امنيته قد تحققت . اتت القابلة وبيدها حقيبة ادواتها لتوليد امي ، الطقس بارد والقلق هو سيد الموقف ، وبعد لأي خرجت من رحم امي على مضضٍ دون ان اصرخ ،ورفعت اصبعي الاوسط عالياً ثم لعقتها، رددت القابلة تعويذات وتسبيحات لم ادري كنهها ولم اركز معها.
(2)
واليوم قد بلغت الثلاثين من العمر سبحاني ! أُجهز مائدتي ، افتح القنينة اصب كأسا اتجرعها دفعة واحدة احس بطعمها اللازع يحتج لساني تحتج معدتي. يهب نسيم من أقاصي المدينة استنشق الهواء العليل المعطون والمعجون بروائح السافنا الغنية وشئ من بقايا ثمار المانجو المتعفن وطمي النيل. ابحث عن الولاعة اشعل سيجارتي بارتباك ، النفس الاول يوقظ في جهرا لقائي بنفسي في ذات موج يحن الى عناق الشاطئ ، ابلل سيجارتي بالوسيكي بعد النفس الخامس اخذ استرحة مدخن ، تقبع السيجارة مابين الوسطى والسبابة ، ذهني يستدعي شكل اللقاء الاول وويسكي جون والكر يسانده في تواطؤ مريب. احتج اصرخ عالياً تتجمهر افكاري خلسة تتكور في اعلى ( الهيبوثلاموس) يقود عقلي مظاهرة احتجاج واسعة بمساندة من القلب ،وإذ اتساءل كيف استطعت ان أقاوم المد والجذر لعقود ثلاث وانا باسط زراعي للحياة ؟ كيف استطعت ان اخرج من الحرب اللعينة في تلك الاراضي والغابات التي اعرفها كراحة يدي سليما الامن ندوب داخلية عميقة؟ ، كيف طوعت الحزن والاسى ليكون دليلي الذي لايتوه في تلك الطرق الملتوية ؟ ومابين الاسئلة والبحث عن اجابات في قعر زجاجة الويسكي ، كان الكأسُ يجيب ماخلقنا هكذا عبثاً لننزوي في الاركان القصية بل؛ كان الوطن والارض والحليب والحزن الراشح والدم موعدنا، وفي تلك الايام التي ستتلوها أزمنة لايُسبر غورها ، سيُروى عن ليالي تستقبل بالبكاء والنحيب ودعوات لن تستجب اطلاقاً حين مضت الالهة هاجعة في مضاجعها الفردوسية ، حين أُنتهكت أديانها وبدلت بدين البنْكنوت و السرير أو الصرير ، حين غضب نبي ورمى وصايا الالهة ، وحين كان ما يسمى بالشيطان يختبر آليات الايمان عند المسيح تارة بالخبز وتارة اخرى بممالك الدنيا ، ومحمد في بادية العرب يتلو فرقانه على نفر من الجن وقبل ان يطرد من مكة ، وبودا يجلس تحت شجرة التين يشاهد تفتح أزهار اللوتس والاوركيديا ويعمّد نفسه وقد بلغ النيرفانا وغادرالسمسارا ( عالم تناسخ الارواح)،وعندما تحولت الانهار الى دماء وماتت الحيتان والاسماك ،كانت الاوطان قد تم إخصاؤها وكنا ضحايا زمن العفن والخراء والطحالب المتيبسة والدم الحيضي.
(3)
زمناً ولدنا فيه عبثاً او قدراً أو مصادفة ، حقب ٍ من السفاد والشهوة والخيانات الوطنية وسيوف التتار والمغول وافلام السكس التي يغتصب فيها الوطن نهارا تحت اضواءٍ شاحبة صنعتها الرأسماليات في اكاديميات الفساد المعاصر ، وسيلعن صبي يختلس النظر الى ساقي إمرأة وهي تغتسل على ضفاف النفاق الوطني نفسه قائلاً: ايتها البغي أيها الكلب الوالغ في حيض الكذب والاباطيل!! ناظرين هكذا في آفاق ذلك الملكوت المتداعي ،مستذكرين آن كانت الاوطان آلهتنا نلج كهوفها الحميمة حين عبدناها في سنوات النسيان، حين كنا نتلاشى فيها كمتصوفة قارئين أورادها الليلية والمسائية المقدسة، يتجلى لنا الله في الخلوة – العراء ،وعبر هذه الانبهاقات- الذكرى التي تمر الان كوميض اشعة صفراء متآكلة تنفثُ دخاخين السجائر من مساماتها كان الوطن متماسكاً وصلباً وطاغيا ملاذاً ومعبوداً كالّلات والعزى ،واحة من الخضرة والظل في الصحراء، والان نتساءل؟ من أين أتت تلك الاضطرابات؟ وكيف تولدت وانبثقت؟ في افاق انفجار الدم السديمي والتوهان المعاصر.
(4)
وفي فعاليات يوم القيامة قال كأسي الاخير المعتكر بمزاجي ، اعرف انك اليوم اتممت الثلاثين من عمرك ‘وعندما نظرت في مرآتك المكسورة رأيت خط الشيب وتجاعيد الروح على وجهك. حقا كانت سني عمرك حافلة بالمتناقضات والافكار اللزجة واعرف ايضا ان ذاكرتك ملتاثة بقهوة الغروب ووجودية سارتر واشتات من الماركسية وموسيقى هولباخ واحيانا فاغنر وموسيقى الفصول الاربعة لشتراوس، واعرف ايضا ان عقلك ملتاث ٌبمفاهيم الثورة وخطابات كاسترو ومذكرات جيفارا كما اعرف ان الادب لعب دورا كبيرا في حياتك وان الديالكتيك هو سر بقاءك حيا حتى الان. ولكن هل تتذكر ذاك اليوم عندما كنت احدثك عن قلق الموت واجبتني بان الموت لحظة شاعرية يجب ان نعيشها ‘ اي مجنون كان سيقول هذا. واردف الكأس مستهتراً بي :اسمع يا صديقي انا اعرفك جيدا وبالرغم من ان مشاعرك باردة وقاسية فأنا ادرك الان وانت تقرأ رسالتي انك تبكي وتشتاق الى امك. ولكن هذا يومك اشرب قهوتك كالمعتاد واستمتع برزيلتها وحدق طويلا في الافق ثم نم يا ابني مغفورة لك خطايا العمر والصمت والرسم والشعر.
أحمد يعقوب 20 نوفمبر 2019
جوبا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا