الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الحرب والحب والخوف (16)

حسين علي الحمداني

2019 / 11 / 29
الادب والفن


ظل محمد الصديق ألأقرب إلي،لم نفترق سواء في المدرسة أو بعدها،شكلنا ثنائي متفاهم جدا وحاولنا جاهدين أن نخرج من الإطارات الضيقة التي حوصرنا فيها.
كنا معا نكتب في الصحف العراقية والعربية،ولكل منا صندوق بريده ورسائله،لم نكن نكتب في السياسية التي لا يحق لنا الكتابة عنها وفيها،كل كتاباتنا كانت تأخذ طابع الهروب من الواقع وتفعيل الخيال،هذا الخيال الذي كان بإمكانه أن يتحول إلى عابر للقارات.
ساعدنا في ذلك ما يصلنا من صحف ونشرات دورية من دول عدة في مقدمتها تونس،كانت لنا مقالات أسبوعية هي عبارة عن أعمدة في سياقات أدبية منحتنا حق التحليق بعيدا عن هذا العالم الذي يعيشه الذين من حولنا.
اكتشفت إن لا أحد يفهم معنى الكتابة وتبادل الآراء،ربما وضع الحصار جعل أولويات الناس في البحث عن الغذاء،لم تكن هنالك أولويات غير هذه،ذات مرة قال أحد المعلمين إن سعر سيارة المرسيدس سبعة مليون دينار،ضحك المدير وقال له أستاذ نحن لا يهمنا سعر المرسيدس ما يهمنا فقط أسعار الطحين والرز والزيت والبطاطا والباذنجان.
قلت مع نفسي فعلا بكم تكون المرسيدس فهي ليست بضاعتنا التي نبحث عنها،بات الجميع لا يفرق بين حقوقه وأمنياته.
هذا الوضع كان مريحا للسلطة التي نجحت نوعا ما في أن تحول هزيمتها في حرب الكويت إلى إنتصار،هذا الوهم كان قائما على إن هدف أمريكا إسقاط النظام وبما إن النظام بقي إذن نحن إنتصرنا،ربما فشل بوش الأب في الفوز بالانتخابات أوحى للسلطة إن هذا هو النصر العراقي.
شعرت إن الحصار جعلنا نكبر بسرعة،بدأ الشيب يظهر هنا وهناك،ملامحنا توحي إننا أكبر من أعمارنا. الناس لا هم لها سوى إكمال يومهم المرهق،من الصعوبة أن يكتمل اليوم بكل تفاصيله،الأمهات كن الأكثر معاناة،ذات مرة قالت لي أمي أنتم الرجال لا تعرفون معنى أن يكون هنالك في البيت مطبخ دون طبخ،الكثير من النساء كن يفتعلن الطبخ،البعض منهن يسردن ذكريات الطبخ والأكلات اللذيذة دون توفر القدرة الشرائية على عمل هذه الأكلات مجددا.
إختفت من السوق الكثير من الحاجيات وبات التمر الغذاء الرئيسي للكثير من الناس الذين أكتشفوا فوائده الصحية دفعة واحدة،الكثير منا كان لا يحمل علبة سجائر كاملة،بل عدد قليل منها،حتى فواتح الموتى سابقا كانوا يضعون علبة كاملة أمام كل من يأتي للعزاء،الآن يقدمون له سيجارة واحدة فقط ومن يريد ثانية عليه أن يمتلك جرأة عالية في طلبها أو أخذها عندما يمرق الموزع من أمامه.
كل هذه تجعلنا نبحث عن عالم آخر نلجأ إليه نحاول أن نكون كما نريد لا كما يريدون أن نكون مجرد ناس لا يفكرون.
كنت أعرف إن كل الرسائل التي نكتبها أو التي تصل إلينا يتم مطالعتها من الجهات الرقابية،محمد قال لي إن بعض الرسائل التي تصله قد فتحت،قلت له هي الرقابة على كل شيء،هذه ألأنظمة يا صديقي تخاف من أي شيء مكتوب وتتعامل معه بحيطة وحذر.
بدأت أضع رسائل حنان في مكان خاص بها وبقية الرسائل التي تصلني في مكان آخر،لا أبالي بباقي الرسائل جاءت أم تأخرت أو انقطعت نهائيا،أغلبهم كان يتعامل معنا على إننا أبطال تمكنا من تحدي أمريكا وضربنا إسرائيل،لكن لا أحدا منهم كان تحت الحصار،أو يشعر بذلك،بعضهم يريد منا أن نظل نقاتل.
أنضم مثنى إلينا وأحب المراسلة وكان له صندوق بريده،بدأت تونس تبدو إلينا حلم بعيد المنال،حفظنا ولاياتها،وحلمنا إننا قد زرناها،حكيت ذلك في أحدى رسائلي لحنان التي أرسلت لي بعد حين رسالة قصيرة تحمل صورتها،كنت أرتجف وأن أنظر إليها من بين أصابع يدي تلك الملامح الشرقية المعطرة برائحة أفريقيا، قالت في رسالتها من حقك أن ترى الآن حنان،ضحكت وقلت في سري هذا أول حق يعطى لي في هذا الزمان.
هي الأخرى بدت في بعض رسائلها لا تعرف شيئا عن الحرب والحصار،كنت أتخيل إنها تفاخر نفسها بصديقها العراقي ذلك المحارب الذي كان يقص عليها قصص الحرب لتكتشف في لحظة ذكاء منها إنه أكبر من عمره،سألته ذات مرة كيف عشت الحرب مع إيران وانت الآن عمرك أحدى وعشرون سنة؟سؤال منطقي جدا كان الجواب يحتاج لمراجعة ومعرفة إننا في العراق حينما نكتب بأيدينا الأرقام الهندية التي نحن نسميها العربية نكتب رقم ثلاث مثل الأثنين بلا ركزة كما يقولون،وضحت لها هذا اللبس الذي يجعل فارق العمر بيني وبينها اثنا عشر سنة،حينما وصلتها رسالتي،تخيلتها تفتحها وتقرأ من جديد ما كتبته لها عن عمري وبدأت أستخدم الأرقام العربية التي يسمونها الإنجليزية الآن وفي تونس يستخدمونها حتى في مناهجهم الدراسية.
قلت لمحمد ربما فارق العمر بيني وبينها يجعلني لا أتأمل وصول رسالة جديدة،ضحك وقال لا تقلق يا صديقي،لما لا أقلق يا محمد وأنت تعرف جيدا إنني أحتاج لنافذة أطل منها على البحر الذي جعلتني أراه،كانت رسائلي إليها يوميات كما هي رسائلها.
في المساء فكرت أن اصحبها في رحلة إلى قرية بعيدة عنا،لا يقطنها إلا بني حمدان،قلت لها تعالي نزور مضارب ألأهل هناك،سحبتها من يدها،ضحكت وقالت وهي ترى الأرض الخضراء في تلك القرية التي احتفظت بتقاليدها،الجميع كان ينظر إلينا لعل كانوا يبحثون عن إجابة عن تلك الفتاة التي جاءت مع أبن عشيرتهم الذي يزورهم كلما تزوج أحد أبنائهم أو مات أحد رجالهم أو عجائزهم،قلت لها دعيهم يتساءلون فنحن سنقضي يومنا ونتغدى في أي بيت من هذه البيوت الطينية.
قبل غروب الشمس كنا قد رجعنا أنا ذهبت لغرفتي وأوراقي ومكتبي وهي عادت لمدينتها التي يحتضنها البحر بهدوء.
قبل أغفو كنت أكملت الرحلة ووضعت على مظروفها طابعا بريدا وفي الصباح الباكر وضعتها في دائرة البريد،كنت بحاجة لأن أكتب إليها يوميا،أولا لكي تجدني دائما في صندوق بريدها،وثانيا كي أزيل فارق العمر الذي يقلقني جدا.
مضت الأيام ثقيلة بانتظار رسالة منها تبدد ذلك القلق الذي بدأ يشاركني إياه محمد جراد، أنتهى ألأسبوع دون وصول رسالة.
بدأ الأسبوع التالي،كنا نذهب معا أنا ومحمد للبريد كل يفتح صندوقه، فتح صندوقي كانت رسائل عديدة،أنا لا أبحث عن رسائل، أبحث عن رسالة واحدة فقط تزيل جبل القلق الذي يساورني.
تفحصت الرسائل ونظرت لمحمد الذي قال ها؟ قلت له رسالتين منها،مشيت مسرعا للبيت بحثا عن غرفتي التي بدت لي بعيدة جدا.
فتحت الرسالة الأولى،بطاقة جميلة جدا عليها فقط عبارة عيد ميلاد سعيد،تذكرت غدا عيد ميلادي الذي لا أحد يتذكره حتى أنا لم أتذكره،لكنها تلك التونسية تذكرني به.
الرسالة الثانية كانت تشكرني على الرحلة الجميلة لمضارب بني حمدان ومن بين اسطرها كانت هنالك عبارة تقول،عندما تجولنا في الحقول الخضراء لم أشعر إن الفارق بيننا أثنا عشر سنة،شعرت إننا بعمر واحد.
لم أكن أحتاج لشيء أكثر من هذا كي أواصل رحلتي في الحياة بعيدا عن القلق الذي سببه لي فارق العمر،ضحكت كثيرا وقلت ولماذا أقلق أو هي تقلق أننا أصدقاء والصداقة لا تعترف بالعمر،هي لا تحتاج سوى لتبادل أفكار وأراء.وجدتها تبدد القلق الذي عشته وعاشه أيضا معي محمد،بدأت بكتابة رسالة جديدة وضعت بين أصابعي سيجارة عملتها بنفسي تذكرني بأفلام الكاوبوي ألأمريكي، ضمنت سطري الأول عبارة أكتب إليك وبيدي سيجارة،لم أكن أمتلك ورق رسائل كالتي تصلني منها،كانت أوراق عادية اقتطعها من الدفاتر،حتى مظاريف الرسائل لم تكن نوعية جيدة،فيما بعد قمنا نصنعها بأيدينا لتوفير ثمنها.
قلت في نفسي في محاولة الإقناع ليس المهم نوع الورقة،المهم ما يكتب عليها،بدت كلماتي متفائلة في هذه الرسالة التي حطت في صندوق بريدها بعد أسبوع لتصل منها رسالة تؤكد إن لسجارتي عطر لا يشبه عطر كل المدخنين.
كنت أتخيل الأماكن التي تمر بها حنان،لأنها كانت تنقل لي يومياتها وتقرأ يومياتي بكل تفاصيلها،تلك التفاصيل التي حفظ كل منا ما للآخر،البعض كان يشاركنا فيها محمد الذي كان شاهدا على يوميات ظلت محفورة في الذاكرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر : المسرح جزء من الثقافة المصرية ونعمل على إعادة جم


.. إيمان رجائي: النسخة السابعة من مهرجان نقابة المهن التمثيلية




.. لقاء سويدان : خشبة المسرح الدافع الأول للتألق والإبداع الفني


.. نرمين زعزع : رعاية المتحدة للمهرجانات الفنية والثقافية يزيد




.. استعدوا للقائهم في كل مكان! تماثيل -بادينغتون- تزين المملكة