الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرغبة فى عبادة وتقديس السلطة الفردية.. مرض مزمن عالمى ومحلى

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2019 / 12 / 2
مواضيع وابحاث سياسية



لماذا نشعر بالحنين إلى حكم الفرد فى الدولة أو الدين أو العائلة أو المدرسة أو العمل، فى أى شىء؟. لماذا تفشل الثقافة العامة والإعلام والفنون والآداب، فى تحرير العقل المصرى من الخضوع للسلطة الفردية؟ هل هذا الخضوع مرض سياسى، يتحول مع مرور الزمن إلى مرض نفسى؟. بمعنى عدم رغبة الإنسان فى الشفاء من وضع الدونية التى تتلقى الأوامر والنواهى، دون تساؤل أو نقاش أو حوار؟ أيكون هذا الخضوع إلى سلطة عليا تتولى زمام الأمور فى كل شىء، خوفًا من الحرية، وتحمل المسؤولية؟ أيكون هذا الخضوع نتيجة تربية الطفل على الطاعة وقبول الإهانة من المدرس أو الناظر؟ هل تعشق

لقد استطاعت الثورة المصرية فى يناير 2011 أن تتخلص من رأس الدولة السابق، ومن بعض أعوانه. لكنها لم تتخلص من القيم الموروثة التى تكرس الرغبة فى الخضوع للسلطة المطلقة فى حياتنا الخاصة والعامة، فى بيوتنا ومدارسنا، وجامعاتنا، ومعاهدنا العلمية والدينية والأحزاب السياسية وجميع الكيانات الثقافية والفكرية والتعليمية والإعلامية والصحفية وغيرها.

الرغبة فى تقديس السلطة الفردية، مرض مزمن فى النفوس والعقول البشرية، لا يمكن لأى ثورة مهما عظمت أن تقتلعه. إنه يحتاج إلى ثورات وثورات، ليست سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، بل ثورات فكرية ونفسية، تقتلع جذور الخضوع للسلطة الفردية، من أجساد وعقول البشر، رجالا ونساء وأطفالا.

ما هذا التقديس للفرد الواحد الجالس على قمة أى شىء، حتى لو كان الجلوس على «كوم من القمامة»؟. فى أعماقنا نكرهه، أو لا نعترف به وبما يفعله، لكننا نطيعه، ونستمر فى ترسيخ أحكامه، وتفوقه.

منذ طفولتى وحتى الآن، وأنا أحلم بالثورة الحقيقية التى تبنى المساواة بين أفراد الشعب.

فى بلادنا، هل يحكم الشعب فى المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، التى هى أكثر المؤسسات تشكيلا للعقل المصرى؟ هل يحكم الشعب فى المؤسسات الدينية، أم أن هناك دائمًا طبقة من الوسطاء، بين الشعب وبين فهمه وتفسيراته للأديان، والعبادات، والطقوس الدينية والتراث الدينى؟

ثورة يناير 2011 أطاحت ببعض الوجوه القديمة فى مؤسسسات الدولة. وجوه عاشت وتضخمت واكتنزت الأموال، من تقديس الحاكم الفرد، وتدعيم سلطته الفردية المطلقة، وجاءت بوجوه جديدة، على رأس المؤسسات العامة، لكن متابعة الأحوال فى بلادنا تدل على أن أغلبية القرارات التى تصدرها المؤسسات فى الدولة، أيًّا كانت، لا تزال تعمل بالآلية القديمة نفسها. وهذا أشبه بالمرأة التى تغير ألوان الماكياج التى تضعها على وجهها، أو الرجل الذى يصبغ لون شعره. فى الحالتين، وجه المرأة هو هو، لم تتغير ملامحه أو نوع النظرة فى العيون، والرجل هو هو، لم تتغير أخلاقه أو أفكاره، لمجرد أن شَعره قد تحول من اللون الأبيض إلى اللون الأسود.

منذ ولادتنا، بدءا بالبيت حتى أعلى المناصب، لم نتعلم على القيادة الجماعية. ننتظر العائل الواحد والكاتب الواحد والمفكر الواحد والمناضل الواحد، لكى يحكم قيادتنا، ونمشى من خلفه، ونطيع أوامره، ونسير على نهجه.

شاهدت فى عيادتى النفسية الكثير من هذه الشخصيات: رجل ضخم الشاربين يشكو من رئيسته، لأنها طيبة، تراعى مشاعر المرؤوسن، وليست متسلطة، تريد أن تنفرد بالقرار. زوجة تشكو زوجها لأنه لا يشكمها، ولا يعنفها، ولا يقيد حريتها، وتصفه

بأنه «رخو»، «عديم النخوة»، «قليل الرجولة». تلميذ لا يحترم مدرسه لأنه لا يضربه، أو يهينه. هذه بعض النماذج التى توضح كيف تترسب قيم العبودية، فى العقول، والنفوس، إلى درجة أنها تكاد تصبح طبيعة ثانية للإنسان، أو صفة يتم توارثها مثل لون العينين، أو طول القامة، أو الاستعداد لمرض معين. قال لى أحد الأشخاص: «تصورى يا دكتورة أحيانا أشعر بالحنين إلى مبارك، رغم أنه وضعنى فى السجن وخلع عين ابنى فى ميدان التحرير».

إن الرغبة فى تقديس وعبادة الفرد، ليست فقط فى بلادنا. لكنها مرض مزمن عالمى، ومحلى، شرقًا وغربًا جنوبًا وشمالًا. وإن اختلف الأمر فى الدرجات والأشكال التى تظهر بها أعراض المرض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المجتمع الابوي
منير كريم ( 2019 / 12 / 2 - 20:29 )
تحية للمناضلة الفذة
تسود في مجتمعاتنا قيم المجتمع الابوي , وهذه موجودة في العائلة والمدرسة والاحزاب السياسية وعلاقة الشعب بالحاكم
لكني ارى ان الجيل الجديد المتاثر بالثورة المعلوماتية بدأ يخرج عن هذه القيم الاستعبادية
شكرا جزيلا لك
شكرا للحوار المتمدن


2 - الي الفاضلة د. نوال السعداوي
محمد البدري ( 2019 / 12 / 3 - 02:47 )
من الصعب عقد مقارنة بين المرأة في مجتمع العبودية الاصيل اي مجتمع العرب الاسلامي وبين المجتمع الرأسمالي الغرب او تلك التي في اقصي الشرق . اكتب هذا لان الفارق واسع جدا بينما كتاباتك تنطلق من ان الرأسمالية هي نفسها النظام الابوي الذي يكافح جميع الشرقيين للتخلص منه.
يمكن التخلص من الاستعمار، لكن كيف يمكن التخلص من ثقافة الشيخ والاب والسلطة السياسية العروبية الاستبدادية؟
فالفردية احدي مزايا الليبرالية التي لا يعرفها العرب باسلامهم الملازم لهم كآفة يصعب عليهم التخلص منها لانه ثقافة البداوة العربية، وهم غير مبدعين ولم ينطووا تحت هيكلية التطور التاريخي لعلاقات الانتاج. فالابوية هي علاقة انتاج لا تعرف التفرد والخروج عن القطيع. هل المرأة تباع وتشتري في الغرب كما هي في سوق النخاسة العربية؟
انه سؤال للمقارنة لا اكثر.
تحياتي

اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا