الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشهداء يرقبون من المطعم التركي ما يحدث في المنطقة الخضراء

عدنان حسين أحمد

2019 / 12 / 7
الادب والفن


أحرز القاص مشتاق عبدالهادي قصب السبق حين أنجز روايته القصيرة الأولى التي تنضوي تحت عنوان "الهبوط من المطعم التركي" الصادرة عن دار "الورشة الثقافية" في بغداد فهي أول "نوفيلا" تستوحي ثيمتها، وشخصياتها، وفضائها السردي من انتفاضة الأول من أكتوبر / تشرين الأول 2019، وقد استغرقته كتابة هذه الرواية القصيرة 41 يومًا لا غير! سبق لمشتاق أن أصدر ثلاث مجموعات قصصية وهي "ولادات" و "حربيات" و "سيرة الـ . . .هذا" وهو معروف بجُملته القصصية المشذّبة والمكتنزة التي تنطوي على قدْرٍ كبير من القوة والإيحاء، وقد فاجأنا في هذا النص بجُملته الروائية الليّنة التي غادرت الثيمة الضيّقة، والفضاء القصصي المحدود لينتقل بنا إلى أمكنة متعددة تبدأ من "المطعم التركي"، وساحة التحرير، وجسور بغداد، ومقبرة "سيد مبارك" في ناحية المنصورية، ثم يصحبنا إلى رابية على الحدود، وثمة نهر يصطاد فيه الراوي الأسماك، ثم يأخذنا في خاتمة المطاف إلى السماء التي تحتضن أرواح الشهداء وهم يتواصلون مع الثائرين في ساحة التحرير، ويُرقبون من طبقات المطعم التركي ما يحدث في "المنطقة الخضراء" التي أصبحت رمزًا للفساد، وبؤرة للشحن الطائفي المقيت.
لم يلجأ مشتاق إلى الحبكة التقليدية، فثمة أحداث تقع في المنطقة الرمادية التي لا يستطيع فيها القارئ أن يميّز بين الواقع والخيال، والحقيقة والحُلُم، فحتى السارد الذي يروي بضمير المتكلم لا يعرف إن كان هو قد قُتل أم لا؟ يزوّدنا المقطع الأول من الرواية بمعلومات كثيرة عن المطعم التركي الذي قصفته قوات التحالف عام 2003 واعتصم فيه شباب ثورة أكتوبر عام 2019 بعد أن أعادوا تأهيله بمدة قياسية لكن قوات مكافحة الشغب هاجمت المعتصمين وأشاعت بينهم الرعب والهلع فانسحب الراوي، وقادتهُ خطواته إلى مقبرة "سيد مبارك" الأمر الذي يوحي لنا بأنه قد استشهد ولكنه ظل حيًا بشكل من الأشكال إذا ما أعتبرنا أن روح الشهيد لا تموت. لقد تخلى مشتاق عن البنية الواقعية وزجّ القارئ في البنية الفانتازية التي تتيح إلى حدٍ ما أن يصبح اللامعقول معقولاً أو قابلاً للتصديق على نحو مجازي. يلج الراوي إلى العالَم الآخر ويقابل والدته المتوفاة لكنها لا تُجيب على أسئلته المؤرقة فهو يريد أن يعرف إن كانت هي في الجنة أم في النار؟ ولماذا ينهرهُ الرجل الغاضب كلّما أراد الاقتراب منها أو الحديث معها؟ ثم يدخل في لجة الأسئلة التي أعيّت كبار المفكرين من قبيل ماهية الروح؟ وأين تستقر بعد موت الجسد؟ وهل تلتقي روح الضحية بروح الجلاد؟
الشخصيات في هذه الرواية هم أحياء وأموات في الوقت ذاته فقد كان الراوي متظاهرًا وحبيبته أحلام مُسعفة وقد التقيا أكثر من مرة في المطعم التركي قبل أن يضطّرا للهبوط في جوٍ مشحون بالخوف والقلق الأمر الذي يبرّر ضبابية هذا التداخل الغامض بين الموت والحياة.
تفقد الكثير من الأحداث العامة بريقها إذا ما استهلكتها الوسائل الإعلامية المعروفة، ويصعب تحويلها إلى مادة إبداعية لأنها تفتقر إلى المفاجأة وعنصر الإدهاش ومع ذلك فإن الكاتب المحترف يستطيع أن يؤثث الفضاء السردي بالقصص والحكايات المتداولة، تمامًا كما فعل مشتاق عبدالهادي حينما ضمّن روايته ظواهر وحوادث معروفة مثل التواصل الاجتماعي، واللجان التنسيقية، والمندسّين، والقناصين، والقنابل المسيّلة للدموع، واختطاف الناشطين والمُسعفين، والدعم اللوجستي للتُجار، وسائقي التُكتك ودورهم البطولي في هذا الحراك الجماهيري الواسع لكنه شيّد بنيته الرئيسة على قصة الحُب التي تنمو بين الراوي وصديقته أحلام في العالَم الآخر، وخلق أكثر من انعطافة خلال معضلة الاتصال بين الأموات والأحياء، واختراق أحلام الآخرين، وسبر أفكارهم، ومعرفة القرارات الفردية التي يفكر بها بعض القيادات الفاسدة. وقد ساهمت هذه البنية الفانتازية ذات النَفَس العجائبي بنقل الرواية إلى نص مركّب يبحث في قضايا الروح، ويتعمّق بأسئلة الوجود البشري، ويقدّم نبوءته باقتحام المنطقة الخضراء من قِبل الثوار الذين تمركزوا في ساحة التحرير والجسور المحاذية لها.
يرسم مشتاق عبدالهادي نهاية روايته بحذقٍ كبير حينما يسحب المتلقي إلى المنطقة الرمادية التي تترجّح بين الغموض ونقيضه ويأخذ البطلين إلى غرفة تحضير الأرواح بعد أن طلبا الظهور الإعلامي واشترطا أن تُبثّ الجلسة مباشرة على الفضائيات كلها ليُعلنا أن الحالة الغريبة والغامضة هي التي ساعدت في إنجاح الثورة. وبعد أن يتأكدا من وجودهما على الهواء مباشرة أمسك الراوي بيد أحلام وأعلن صرخته المدوّية للجميع:"نحن معكم . . . إنها ثورة السماء والأرض." هذه الجُملة الختامية المدروسة تؤكد الشرعيتين الأرضية والسماوية لهذه الثورة التي تتآزر فيها أرواح الشهداء مع المنتفضين أو المحتجين أو المتظاهرين مهما اختلفت تسمياتهم وصفاتهم لتؤكد شيئًا واحدًا لا غير يعزّز نبوءة الروائي أن الهبوط المجازي من المطعم التركي سيكون في خاتمة المطاف اندفاعًا باتجاه المنطقة الخضراء التي ستشهد قصاص الخونة، والمأجورين، وسرّاق المال العام.
لا يمكن قراءة هذه الرواية قراءة واقعية فقط لأنها تتعدى الجانب الواقعي وتتألق في الجانب الفنتازي أو العجائبي، إن شئتم، على الرغم من الفوارق المعروفة بين الاثنين. كما أن النص الروائي يحتفي بدلالاته الرمزية التي تعمّق الأفكار والشطحات والمضامين الثانوية التي تؤازر الثيمة الرئيسة وتغذّيها وهي "ثورة السماء والأرض ". ولنأخذ "اصطياد الأسماك"،على سبيل المثال لا الحصر، كثيمة فرعية حينما يخاطب الراوي حبيبته قائلاً:"صيد الأسماك، يا أحلام، انتظار وصبر ودراسة للآخر الذي لا تراه ويبعد عنك أمتارًا في عمق المياه" ثم يمضي في حديثه عن نشوة الفوز بعد التعب والقنوط والانتظار الطويل لينتهي إلى القول بأنّ صيد الأسماك هو ثورة أكتوبر ذاتها التي ولدت من رحم الفوضى واليأس واستهتار الفاسدين الذين لم يُدركوا طوال ستة عشر عامًا أنّ العراقيين يحتقرون ذيول الأجنبي وبراثنه القذرة التي تنهش في أجساد المنتفضين الذين ثاروا لاستعادة كرامتهم وهيبتهم المفقودة.
لو تأملنا حديث الراوي وإشاراته لوجدناه قد فقد أمه قبل ثلاث سنوات تقريبًا، أما حبيبته أحلام ، فهي الأخرى قد فقدت أبويها منذ الطفولة وكأنّ مشتاق عبدالهادي يريد أن يوحي لنا بأنّ هذه الثورة لا أبَ لها لأنها تقترن بالشباب فقط، هذا الجيل الجسور الذي أزاح الجيل السابق وأحرجه وجعله يشعر بالخجل لأنه لم ينتفض أو يحرّك ساكنًا في أقل تقدير.
ثمة مقاربة بين "المطعم التركي" وجبل أُحد أفضت إلى معنىً رمزي عميق لهذه البناية الشاهقة وأنّ الثوار الذين تزاحموا في طوابقها الستة عشر لا يختلفون كثيرًا عن الرماة الذين كانوا يرابطون على الجبل وينبغي عليهم ألاّ يتخلوا عن مواضعهم إلاّ بعد أن تضع الحرب أوزارها كي لا نقترف الخطأ نفسه الذي اقترفه الرُماة الذين سال لُعابهم على الغنائم فخسروا المعركة وتبددت منهم نشوة النصر.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ رواية "الهبوط من المطعم التركي" هي نص سردي يتوفر على اشتراطاته الفنية، وقد حاول الروائي أن يستثمر أكبر عدد ممكن من المواقف والأحداث ويوظّفها في النسق السردي لهذه الرواية التي ستكون فاتحة عهد جديد للأدب العراقي الذي لا يخشى من الطغاة المارقين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81