الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثوابت وضلالات

عمار مجيد كاظم

2019 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


ترددت كثيرا في كتابة هذه المقالة في الوقت الراهن الذي يتزامن مع ثورة تشرين المجيدة، خشية من الفهم الخاطيء لها، ولكني عدلت عن ذلك باعادة كتابتها لأكثر من مرة محاولا تبسيط المفاهيم، لكي لا تحتمل أكثر من معنى، ولتكون دليلا ان شاء الله للثائرين، وناصحا للمضللين.
تعرف النظم الاقتصادية كجزء أساسي وموجه للنظام العام السياسي والاجتماعي لأي دولة بكونها مجموعة القواعد والأسس الاقتصادية الرئيسة التي تتحكم بالتصرفات الاقتصادية في أي مجتمع وتنظيم علاقة الأفراد بالدولة من جهة وبعضهم بالبعض الآخر من جهة أخرى في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي وذلك خلال التحدي الذي يواجه المجتمع في علاج المشكلة الاقتصادية بأبعادها المختلفة. فضلا عن أن لكل نظام اقتصادي فلسفته الخاصة التي تحدد نظام الملكية وأسلوب الإنتاج السائد وطريقة التوزيع كما أنها تحكم القوى الاقتصاديـة وتحركها نحو الاستهلاك و/أو الاستثمار في أوجـه النشاط الاقتصادي المختلفة. ومن هنا فأن القضية الرئيسة التي واجهت الإنسان منذ فجر التاريخ والتي لازالت تواجهه لحد الآن هي كيف يلائم بين رغباته المتعددة وبين مصادر الثروة النادرة وكيف يوفق بين أهدافه الشخصية وأهداف المجتمع الذي يحيط به.
فمشكلة العالم هي مشكلة النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن الطبيعي أن تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير، وأن تكون في تعقيدها وتنوع ألوان الاجتهاد في حلها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها، لأن النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية ومؤثر في كيانها الاجتماعي في الصميم. ومن أهم المذاهب الاقتصادية التي يقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي على اختلاف مدى وجودها الاجتماعي في حياة الإنسان هي مذاهب أو أنظمة أربعة، وهي النظام الرأسمالي، والنظام الاشتراكي، والنظام الشيوعي، وأخيرا وليس آخرا النظام الإسلامي.
ومن خلال كتابي الجديد (قيد النشر): (الحكومة الاسلامية الرشيدة-دراسة اقتصادية واجتماعية وسياسية)، تناولت فيه الجانبين السياسي والاجتماعي للنظام الاسلامي فضلا عن خلاصة الجانب الاقتصادي اللذي فصلت فيه في كتابي المنشور: (رؤية جديدة للنظام النقدي الاسلامي)، والذي يرى وبايجاز: بأن هناك نظامان فقط: نظام اقتصادي رأسمالي حر وطبيعي هو الأقتصاد الأسلامي، وأنظمة فيها الطبيعي وغير الطبيعي تتمثل بالأنظمة الأقتصادية الثلاثة الكبرى الأخرى: (النظام الرأسمالي، والنظام الاشتراكي، والنظام الشيوعي)، هذا اذا اعتبرنا الطبيعي هو المعاملات والسلوك الاقتصاديان (الرشيدان) أي الحلال من وجهة نظر الشريعة المقدسة، وعكسه غير الطبيعي. لذا وكتوصيف للنظام الاقتصادي الاسلامي يمكن القول بأنه: (نظام رأسمالي حر لايمانه بأقتصاد السوق التنافسي الذي يحقق الأسعار والأجور العادلة، وهو كنزي تدخلي في سياساته التطبيقية لأيمانية بالملكية المزدوجة للقطاعين العام والخاص. وهو اشتراكي وانساني في منهجه الروحي لأيمانه باعادة توزيع الدخل ليس بصورة قسرية كالماركسية : "الاشتراكية والشيوعية"، عن طريق تأميم القطاع الخاص، بل بأسلوب حضاري وعلمي حلال وليس فيه ظلم التأميم، يتمثل بأنظمة: الزكاة والخمس والعشر والميراث، التي تتكفل بتفكيك أعظم الثروات واعادة توزيعها خلال عقود قليلة من الزمن.
ان مشكلة مسألة الحكومة الاسلامية الرشيدة تتمثل بماهية هذه الحكومة من حيث التصنبف السياسي لها، بكونها حكومة ديمقراطية مدنية أم ثيوقراطية (دينية) ملكية أو جمهورية، أم غيرها من الأنظمة السياسية المعروفة، أو كونها نظام مستقل بذاته.
تجيب عنها فرضية الدراسة بكون نظام الحكومة الاسلامية الرشيد هو: نظام مدني ديمقراطي دستوره دستور المدينة المنورة.
ان تجارب الأنظمة المختلفة على مر التاريخ هي تجارب انسانية تحاول الشعوب من خلالها أن تسعد بها في حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فمن خلال تجارب الشعوب الاوربية خلال عصر النهضة، من بعد الف سنة من التخلف والظلم والاستبداد عاشها الانسان في ظل سيطرة الكنيسة والحكومات الملكية القائمة على عقد اجتماعي يقوم على أساس ان الملك ينصب من قبل بابا روما، وبالتالي يصبح الملك ظل الله في الأرض، والراد عليه كالراد على الله .
ومن النقطة الأخيرة وهي العقد الاجتماعي الجائر سابق الذكر، بدأت صرخات فلاسفة وعلماء عصر النهضة في محاولة تغيير العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، حيث بدأت بشك ديكارت وهيوم وجان جاك روسو وجون لوك وشك (كانت) الذي شك في كتابه الأول: (نقد العقل المحض) بكل شيء أي بالحواس بل حتى بثوابت العقل، ثم استدرك في كتابه الثاني: (نقد العقل العملي): بأنه يشك بضلالات الحواس وبالتالي بضلالات العقل فقط، ولكنه لا يشك بثوابت أو قوانين العقل المتمثلة بقانون عدم التناقض وقانون الثبات فضلا عن المصادرات الرياضية، والتي لولاها لما تطور العقل والعلوم.
ومن بدايات عصر النهضة بدأ الفلاسفة وبعض رجال الدين تزامنا مع ضعف سيطرة الكنيسة بالشك في ثوابت الديانة المسيحية أو الشك ببعض عقائدها. فالفلاسفة الماديون شكوا بعقيدة الثالوث نفسها التي تعد أصل وجوهر الديانة المسيحية، وثابت من ثوابتها، واعتبروها من ضلالات العقل، لأنها تناقض ثوابت أو قوانين العقل بعدم التناقض فالواحد لا يساوي ثلاثة وقانون الثبات بأن الواحد يساوي واحد والثلاثة تساوي ثلاثة، وبالتالي فأن ما حاولت الكنيسة فرضه في ألف سنة بالقوة واللين في العصور الوسطى من كون الله  مركب من ثلاثة أقانيم هي الآب والابن والروح القدس، وكل أقنوم أي جوهر قائم بذاته، وبالرغم من ذلك فهو محتاج الى غيره من الأقنومين الآخرين، كما أن الأقانيم الثلاثة تساوي أقنوم واحد هو الله . حيث يقول المسيحي المتدين نؤمن بالآب (الله الخالق )، والابن (السيد المسيح الله  المتجسد)، والروح القدس (روح الله )، اله واحد آمين. فكما الانسان مركب من روح وجسد وفكر وهو بالرغم من ذلك انسان واحد، فالله  أيضا الذي خلق آدم على صورته ومثاله كما جاء في سفر التكوين: "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم" ( تك 1 : 26 ، 27)، هو أيضا  متكون من ثلاثة هي ألاقنوم الأول الآب الخالق، وفكر أو كلمة أو جسد هي السيد المسيح هي الأقنوم الثاني، وروح أي الروح القدس وهو الاقنوم الثالث، وهذه الثلاثة هي واحد هو الله . وكانت نهاية شك بعض الفلاسفة الماديون هو الكفر بالثالوث وبالتالي الكفر بالمسيحية وبعضهم توصل الى التوحيد كديكارت وكانت، وبعضهم أصبح ملحدا كنيتشة وسارتر، وبعضهم لا أدريا كرسل. أما رجال الدين كالقس مارتن لوثر فحاول أن يشكك ثم يصحح بعض العقائد المسيحية في الكنيسة الغربية (المسيحية الكاثوليكية ورأسها بابا الفاتيكان)، كسر الاعتراف، وسر التناول، وصكوك الغفران، وغيرها، فانشأ كنيسة جديدة تنسب باسمه أو باسم البروتستانت أو الانجيليين، فهم لم ينقضوا الثالوث أي جوهر المسيحية بل نقضوا بعض العقائد المبنية علي الثالوث بغية تصحيح المسيحية لكي تستوعبها العقول ولا تكفر بها.
أما القسيس والفيلسوف المثالي هيجل فحاول أن يوجد فلسفة كما يدعي بانها ستحاول تفسير الثالوث، بان الواحد يمكن أن يساوي الثلاثة، فادعى بانه جاء بفلسفة تنقض ثوابت العقل وهو عدم التناقض، بل أنه جاء بفلسفة التناقض، حيث أدعى بان الحركة لا تقوم الا بالتناقض أي صراع المتناقضات، وليس كما يدعي الفلاسفة بانها خروج الشيء من القوة الى الفعل بل بسبب التناقض، وجاء بأمثلة للبرهنة على ذلك، ولكنه في الحقيقة بعلم منه أو من دون علم كانت جميع أمثلته عن الضد وليس التناقض، وشتان بين المصطلحين، وفي الحقيقة تعد محاولة هيجل هذه لانقاذ ما تبقى من المسيحية في أوربا الواعية، بعد أن رأى حركة الالحاد تنتشر في المجتمعات الأوربية في عصره القرن الثامن عشر والتاسع عشر انتشارا واسعا.
حيث يقول هيجل: يتضمن التطور الجدلي ثلاث لحظات تسمى غالبا "الأطروحة"، "والطباق"، "والتركيب". وكان "هيجل" يدعوها عادة "التأكيد أو الإثبات"، و "النفي"، و "نفي النفي". "فالأطروحة" تطرح، "والطباق" ينفي ما كان مطروحا. وهكذا نجد وجودا ولا وجود، حربا وسلام. ولكن اللحظة الأكثر أهمية، والتي تتطلب كل انتباهنا، هي لحظة "التركيب" أو "نفي النفي". فهذا "التركيب" يتجاوز التناقض، مع الاحتفاظ داخل مستوى أعلى، بكل ما تم تأكيده في "الأطروحة"، وتم نفيه في "الطباق". انه نفي مشتمل "للأطروحة" و "الطباق" المدمرتين من قبله، كما أنه في الوقت ذاته تأكيد عميق على صحتهما. "فالأطروحة" و "الطباق" تموتان فيه، لتولدان من جديد وهما أكثر صفاءا وأشد اتحادا. ويعتبر "الطباق" أي "اللا" هو اللحظة الأكثر جوهرية بين هذه اللحظات الثلاث لأنها تمثل المبدأ المحرك للجدلية، خاصة وأنها تبقى في قلب "التركيب" الذي يعتبر المبدأ الأعلى الموحد. وقد بدأ "هيجل" بالمفاهيم العامة، فطبق عليها هذا "الديالكتيك" واستنبطها بطريقة جدلية قائمة على التناقض، ومن أشهر ثواليثه في هذا المجال وأولها هو الثالوث الذي يبدأ من أبسط تلك المفاهيم وأعمقها، وهو مفهوم الوجود. فالوجود موجود، وهذا هو الإثبات أو الأطروحة، بيد أنه ليس شيئا ، لأنه قابل لأن يكون كل شيء. فالدائرة وجود، والمربع والأبيض والأسود والنبات والحجر، كل هذا هو موجود. فليس إذن شيئا محددا، وهو بالتالي ليس موجودا، وهذا هو الطباق الذي أثارته الأطروحة، وهكذا حصل التناقض في مفهوم الوجود، ويحل هذا التناقض في التركيب بين الوجود واللاوجود. الذي ينتج موجودا لا يوجد على التمام، أي صيرورة وحركة، وهكذا ينتج أن الوجود الحق هو الصيرورة.
وبإلقاء نظرة بسيطة على الأطروحة والطباق والتركيب في قضية الوجود سابقة الذكر، نستدل بوضوح على أن "هيجل لم يفهم "مبدأ عدم التناقض" في المنهج الشكلي حق الفهم حين ألغاه ووضع موضعه مبدأ التناقض. فمفهوم الوجود مفهوم عام دون شك، وهو لذلك قابل لأن يكون كل شيء. ولكن هل معنى هذا أن هذه الأضداد والأشياء المتقابلة مجتمعة كلها في هذا المفهوم، ليكون ملتقى للنقائض والأضداد؟ طبعا لا، فان اجتماع الأمور المتقابلة في موضوع واحد شيء، وإمكان صدق مفهوم واحد عليها شيء آخر. فالوجود مفهوم ليس فيه من نقاط السواد والبياض، أو النبات والجماد شيء، و إنما يصح أن يكون هذا أو ذاك لا أنه هو هذا وذاك معا في وقت واحد. أضف إلى ذلك أن هذا التناقض المزعوم في ثالوث الوجود، يرتكز على خلط آخر بين فكرة الشيء، والواقع الموضوعي لذلك الشيء. فان مفهوم الوجود ليس إلا عبارة عن فكرة الوجود في أذهاننا، وهي غير الواقع الموضوعي للوجود. وإذا ميزنا بين الوجود، وواقع الوجود زال التناقض، فان واقع الوجود معين ومحدود لا يمكن سلب صفة الوجود عنه مطلقا، وأما فكرتنا عن الوجود فهي ليست وجودا واقعيا، و إنما هي المفهوم الذهني المأخوذ عنه.
لكن الواقع يثبت أن مبدأ عدم التناقض القائل بأن التناقض مستحيل هو أعم القوانين وأكثرها شمولا لجميع مجالات التطبيق، ولا تشذ عنه ظاهرة من ظواهر الوجود والكون مطلقا، فلا يمكن أن يتفق النفي والإثبات في حال من الأحوال. وكل محاولة "ديالكتيكية" تستهدف الرد عليه، أو إظهار الطبيعة بمظهر تناقض، فهي محاولة بدائية، قائمة على سوء فهم لمبدأ عدم التناقض، أو على شيء من التضليل. ولكن هل أن كل نفي واثبات هو تناقض يرفضه هذا المبدأ، ولا يمكن للعقل قبوله ؟. والجواب على ذلك هو ليس بالضرورة أن يكون تناقضا، حيث أن كل نفي لا يناقض أي إثبات، وكل إثبات لا يتعارض مع كل نفي، و إنما يتناقض الإثبات مع نفيه بالذات، لا مع نفي إثبات آخر، ووجود الشيء يتعارض بصورة أساسية مع عدم ذلك الشيء، لا مع عدم شيء آخر. ومعنى تعارضهما أنهما لا يمكن أن يتوحدا أو يجتمعا. فالمربع ذو أربعة أضلاع. وهذه حقيقة هندسية ثابتة، والمثلث ليس له أربعة أضلاع، وهذا نفي صحيح ثابت أيضا، ولا تناقض مطلقا بين هذا النفي وذاك الإثبات، لأن كل منهما يتناول موضوعا خاصا، يختلف عن الموضوع الذي يتناوله الآخر. فالأضلاع الأربعة ثابتة في المربع، ومنفية في المثلث، فلم ننف ما أثبتنا أو نثبت ما نفينا. و إنما يوجد التناقض إذا كنا نثبت للمربع أضلاعا أربعة، وننفيها عنه أيضا، أو نثبتها للمثلث وننفيها عنه في نفس الوقت. وبهذا الاعتبار نص المنطق الشكلي، على أن التناقض إنما يكون بين النفي والإثبات الموحدين في ظروفهما. فإذا اختلفت ظروف النفي مع ظروف الإثبات، لم يكن الإثبات والنفي متناقضين. ومثال على ذلك: الأربعة عدد زوجي بينما الثلاثة ليست عددا زوجيا. فالنفي والإثبات في هاتين القضيتين، لا تناقض بينهما، لاختلاف كل منهما عن الآخر بالموضوع الذي يعالجه. فالإثبات تعلق بالأربعة، بينما النفي تعلق بالثلاثة. ومثال آخر للنفي والإثبات المختلفين في ظروفهما، هي قولنا أن الطفل ليس عالما بالفعل، ولكنه عالم بالقوة. أي يمكن أن يكون عالما. وهنا أيضا نواجه نفيا وإثباتا غير متناقضين، لأننا في القضية الأولى ننف نفس الإثبات، الذي تحتويه القضية الثانية، فالقضية الأولى تنفي وجود صفة العلم لدى الطفل، والقضية الثانية لا تثبت وجود هذه الصفة، و إنما تثبت إمكانية وجودها، أي قابلية الطفل واستعداده الخاص لاكتسابها. فقوة العلم هي التي تثبتها هذه القضية للطفل، وليس وجود العلم لديه فعلا. وبالتالي يمكن القول بان التناقض بين النفي والإثبات، إنما يتحقق فيما إذا اشتركا في الموضوع الذي يتناولانه، واتفقا في الشروط والظروف المكانية والزمانية وغيرها. وأما إذا لم يتحدد النفي والإثبات في كل هذه الشروط والظروف، فليس بينهما تناقض. ولا يوجد الشخص أو المنطق الذي يحكم باستحالة صدقهما في هذا الحال.
وقد تأثر ماركس كثيرا بأستاذه الفيلسوف "هيجل" صاحب المنطق المثالي الجدلي وبنى عليه فلسفته المادية الجدلية ولكن بالمقلوب أي بالنقيض تماما حيث لم يأخذ منه سوى منطقه الجدلي الذي يرى أن التاريخ هو عملية محركها نضال الأفكار المتناقضة، فهناك الفكرة التي تقابلها الفكرة النقيضة فتخرج من نضالهما فكرة ثالثة هي الفكرة التوفيقية التي توفق بين الاثنتين وهذه ما تلبث أن تقابلها فكرة مضادة أخرى وهكذا يستمر الجدل وبالتالي يستمر تطور العلوم والمجتمعات على مدى التاريخ، وفي ظل هذه القناعة لا وجود للقناعة المطلقة أي أن الأفكار نسبية.
"فهيجل" كان مثاليا ومتدينا يؤمن بالجوهر الروحي وبأسبقية الفكر على الطبيعة، أي أن طبيعة التاريخ الإنساني بالنسبة إليه لم تكن سوى تجلي الفكرة الأزلية، فهو والنزعة المثالية عموما، تعتقد أن الحركة والنشاط والقدرة الخلاقة إنما هي من مميزات الروح فقط، وأن المادة هي عبارة عن كتلة جامدة سلبية لا صورة لها، وهي بحاجة لنسيم الروح الذي يحييها كي تتخذ صورة معينة. ولهذا فأن المادة لا يمكن أن تنتج أي شيء بنفسها فإذا ما أخذت تتحرك فان ذلك بفضل الله أو الروح.
وهكذا تظل جدلية "هيجل" روحية. بينما "ماركس" كان ماديا لا يؤمن إلا بالمادة فالطبيعة لديه هي العنصر الأولي الأصيل والأزلي والغير القابل للنفاذ أما الفكر فهو مظهر من مظاهر الطبيعة ومشتق من مشتقاتها، فرفض أولا القول بالنظرة المثالية للعالم التي ترى في الكون المادي ثمرة للفكرة ثم أدرك أن قوانين الجدلية هي قوانين العالم المادي. ويقول "ماركس" في هذا: "لا يختلف منهجي الجدلي في الأساس عن منهج "هيجل" فقط، بل هو نقيضه تماما، إذ يعتقد "هيجل" أن حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس هو سوى الصورة الظاهرية للفكرة. أما أنا فأعتقد على العكس؛ أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان". فالفلسفة المادية إذن هي التي ترى أن المادة سابقة على الفكر، وهي التي ترى أن المادة لم يسبقها في الوجود شيء يمكن أن يعتبر بمثابة السبب لها، إذ هي سبب كل موجود، والمادة بذلك أبدية. فإذا كانت المادة أسبق من الفكر فأن الفكر نفسه انبثاق عن المادة في طور من أطوارها العليا. فالمادة إذن هي الأساس الذي نشأ عنه الفكر والذي يبني عليه الفكر ويتأثر به تأثرا أساسيا. وان كان ذلك لا يمنع أن يعود الفكر فيؤثر على المادة. فالمادة على هذا النحو لها وجود موضوعي، أي وجود حقيقي مستقل عن الفكر وغير معتمد عليه. فالقلم الذي أكتب به الآن له وجود مادي مستقل عن كوني أراه أو أحس به أو أتخيله أو أشعر به، أي هو موجود بصرف النظر عن ذلك كله، ووجوده مستقل عن ذلك كله. والفلسفة الماركسية باعتبارها مادية أيضا، فهي ترى أن المادة هي أصل الوجود، فضلا عن كونها أبدية. وهذه النظرة المادية للعالم ترفض بالضرورة أي إضافة غريبة على هذا العالم المادي. ومن هذه الإضافات الغريبة فكرة الإلوهية. فالعالم المادي معرفته ممكنة للإنسان. والإنسان يعرف أشياء عن عالمه ولا يعرف أشياء أخرى، ولكن الذي لا يعرفه اليوم سيعرفه غدا، ولن تستحيل على معرفته شيء. وعلى هذا الأساس فالفلسفة الماركسية ترفض بالضرورة الغيبيات تأسيسا على أن العالم مادي، وإنما العالم ممكن المعرفة، وأن ما لم يعرف الآن فأن التقدم العلمي بسبيله إلى كشف أستاره والإحاطة به.
بالرغم من استعمال ماركس نفس منطق أستاذه هيجل ولكن بالمقلوب بتحويل منطقه المثالي الى مادي من باب من فمك أدينك، الا انه يجيب استاذه بسبب نقضه لثوابت العقل لاثبات بان الثلاثة تساوي الواحد، في كتابه: (العائلة المقدسة): بالهجوم على جوهر المسيحية المتمثلة بالثالوث، بسخرية لاذعة، حاله حال جميع الفلاسفة الماديون المؤمنون بالمنطق وثوابت العقل.
من هنا ننتقل الى المسلمين كعقلية عربية بدوية تؤمن بالقوة والاستحواذ، وليس الى الاسلام كجوهر توحيدي خالي من أي شائبة شركية، ومؤمن بالشورى كسبيل ديمقراطي في تداول السلطة، فلتخريبه من الداخل، أسس بعض المسلمين خلال تاريخه ضبابية حول النظام الاسلامي، وتقريبه من خلال الأنظمة الاسلامية التي حكمت باسم مصطلح الخلافة، من الأنظمة الملكية الدكتاتورية، حيث كان الخليفة يحكم الامبراطورية الاسلامية باعتباره خليفة رسول الله، أي خليفة أو ظل الله في الارض، أي نفس المقاربة التي حكم فيها ملوك أوربا في القرون الوسطى، والتي أخذت داعش نفس نهجها المدمر والظالم.
تنازعت فلسفة نظام الحكم الاسلامي مدرستان فقهيتان هما مدرسة الصحابة ومدرسة أهل البيت، أما المدرسة الاولى وتتمثل بمدرسة أهل الحديث في المدينة، ومدرسة أهل الرأي في الكوفة، تفرعت عنهما أربع مدارس أو مذاهب فقهية، هي المذهب المالكي (للامام مالك بن انس) في المدينة ،ومذهب تلميذ مالك، وأبو حنيفة الشافعية (لمحمد بن أدريس الشافعي)، ومذهب تلميذ الشافعي الحنبلية (لأحمد بن حنبل) في بغداد ومذهب الرأي والقياس الحنفي (لأبو حنيفة النعمان) في الكوفة، وكل هذه المدارس تؤمن جازمة بنظرية عدالة الصحابة ، بدرجة تقترب من عصمة جميع الصحابة ولو في تأكيد وعصمة نقلهم الحديث عن رسول الله ، حتى لو صدر عنهم في حياتهم بعض الكبائر كشرب الخمر أو القتل أو الكذب. في حين أنهم كانوا يحاسبون التابعين ويعدون عليهم أنفاسهم عند نقلهم الحديث وتراث رسول الله، بعلم الجرح والتعديل أو علم الرجال باعتبارهم غير معصومين، فيضعفون الكذاب وشارب الخمر والقاتل، أي جميع الصفات التي تتناقض مع عدالة الإنسان فهو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ. أو علم رجال الحديث ويسمى أيضا علم الجرح والتعديل أو علم الجرح والعدالة وهو أحد فروع علم الحديث، يبحث فیه عن أحوال رواة الحديث من حيث اتصافهم بشرائط قبول رواياتهم أو عدمه. وقيل في تعريفه أيضا: هو علم وضع لتشخيص رواة الحديث، ذاتا ووصفا، ومدحا وقدحا.
أما المدرسة الثانية والمتمثلة بمدرسة أهل البيت فتفترض عصمة اربعة عشر معصوما فقط، هم: الخمسة أصحاب الكساء محمد رسول الله وابنته فاطمة الزهراء وزوجها وابن عمها علي بن أبي طالب وأولادهم الحسن والحسين وأولاد الحسين علي بن الحسين زين العابدين وولده محمد الباقر وولده جعفر بن محمد الصادق وولده موسى بن جعفر الكاظم وولده علي بن موسى الرضا وولده محمد بن علي الجواد وولده علي بن محمد الهادي وولده الحسن بن علي العسكري وولده محمد بن الحسن المهدي عليهم الصلاة والسلام، الذي له غيبتان الأولى الصغرى كان يتصل فيها بأتباعه عن طريق أربع سفراء، انتهت سفارتهم بوفاة السفير الأخير، ووفاته تعد بداية الغيبة الكبرى الى الآن والى أن يشاء الله بخروجه، وما خلاهم من صحابة أو تابعين فهم ليسوا بمعصومين ينطبق عليهم شروط علم الرجال، عند نقلهم الحديث من هؤلاء المعصومين.
وتعتقد مدرسة أهل البيت بأحقية الأئمة المعصومين الأثنى عشر في الخلافة عن غيرهم، وقد حكم منهم ثلاثة، هم: محمد رسول الله ، والامام علي ، والامام الحسن .
ومن خلال خلافة هؤلاء الثلاثة عليهم السلام، واللذين يتفق عموم المسلمين بكل مذاهبهم على عدالتهم، يمكن وبكل موضوعية، تلمس نوع نظام الحكم الاسلامي اللذي يريده الله  أن يسود، ويمكن أن يطلق على الخليفة اللذي يحكم بأسمهم بشرط السير على سنتهم ونهجهم، لقب خليفة الله في أرضه، والذي يعد جواب لمشكلة الدراسة واثباتا لفرضية الدراسة القائلة: (ان نظام الحكومة الاسلامية الرشيد هو: نظام مدني ديمقراطي دستوره دستور المدينة المنورة)، وليس نظاما دكتاتوريا يعد الخليفة فيه ظل الله في الأرض، ويكون مرشدا عاما او وليا فقيها، معصوما او شبه معصوم، كما يردد كالببغاوات أنصار الاسلام السياسي منذ تاسيس الاخوان المسلمين على يد حسن البنا، مرورا بتاسيس حزب الدعوة الاسلامي في العراق في الخمسينات من القرن الماضي، حتى ولادة القاعدة مع من كان يسمى بالجهاديين في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي عند محاربتهم الاتحاد السوفيتي السابق، حتى ولادة داعش والنصرة في القرن الحادي والعشرون، من خلال الآتي:
1- من خلال دستور المدينة أو صحیفة المدینة: هو أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية. تمت كتابته فور هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره أغلبهم مفخرة من مفاخر الحضارة ألإسلامية ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.
ويهدف دستور المدينة إلى تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، وعلى رأسها المهاجرين و الأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، حتى يتمكن بمقتضاه المسلمون و اليهود وجميع الفصائل من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة. وبإبرام هذا الدستور، وإقرار جميع الفصائل بما فيه، صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول ، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله . خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده، وقد نصت هذه الوثيقة المدنية على الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
1- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
2- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
3- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4- وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6- وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
7- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9- وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
10- وبني الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
11- وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
12- وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13- وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
14- ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن.
15- وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
16- وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
17- وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
18- وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضاً.
19- وأن المؤمنين يبئ بعضهم عن بعض بما نال دماؤهم في سبيل الله.
20- وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
21- وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
22- وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول (بالعقل)، وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا قيام عليه.
23- وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وأنه من نصره أو أراه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
24- وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
25- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
26- وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
27- وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
28- وأن ليهود بن الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
29- وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
30- وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
31- وأن ليهود بني الأوس مثل ليهود بني عوف.
32- وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
33- وأن جفته بطن من ثعلبة كأنفسهم.
34- وأن لبنى الشطبية مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم.
35- وأن موالى ثعلبة كأنفسهم.
36- وأن بطانة يهود كأنفسهم.
37- وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.
38- وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا.
39- وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
40- وأنه لا يأثم أمره بحليفه وأن النصر للمظلوم.
41- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
42- وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
43- وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
44- وأن لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
45- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
46- وأن لا تجار قريش ولا من نصرها.
47- وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
48- وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
49- على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
50- وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
51- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو آثم.
52- وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله.
وإذا نظرنا إلى بنود المعاهدة إجمالاً وجدناها تحتوي بوضوح على المبادئ الآتية:
أولاً: حرية العقيدة في الإسلام
يُشير البند (26) من هذه الوثيقة إلى هذا الأمر بوضوح: (يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. مواليهم وأنفسهم). وهذه هي القاعدة الأولى؛ ومعناها أن حرية العقيدة في الإسلام حقيقة كبرى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: آية 256)؛ فللمسلمين دين، ولليهود دين.. وفي هذا إشارة واضحة إلى أن اليهود بموجب هذه الوثيقة يتمتَّعُون بحرية ثقافية وحقوقية كاملة، وأن موقفهم من الناحية الدينية والقانونية التي تُنَظِّم حياتهم الخاصة ثابت لم يتغيَّر، ولهم كامل الحرية في التعبير عن آرائهم في ظلِّ القانون والثقافة التي تحكم مجتمع المدينة في ذلك الوقت.
ثانيًا: استقلال الذمة المالية
وفي البند (39): (وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)،: أي أن ذمة اليهود المالية مستقلَّة ومحفوظة تمامًا.. بعيدًا عن ذمَّة المسلمين المالية, فليس معنى أننا عاهدناهم, وأن الزعامة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن نأخذ حقًّا لهم، أو أن نصادر ممتلكاتهم أو نُؤَمِّمها؛ بل إن لهم حرية التملُّك ما داموا على عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية.
ثالثًا: التعاون في حماية الوطن حالة الحرب
يكون الاستقلال المالي الذي كفله البند السابق في حال السلم؛ أمَّا في وقت الحرب فإن الأمر يتغيَّر, فإذا حدث هجوم على المدينة المنورة فإن الجميع بمقتضى حقِّ المواطنة يُدافع عن المدينة المنورة؛ فما داموا يعيشون معًا في بلد واحد, فإن عليهم التعاون في الدفاع عن هذا البلد لو تعرَّض لعدوان خارجي، وذلك كما يُشير هذا البند وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)، ولا يكون هذا التناصر عسكريًّا فقط، وإنما يُنفق اليهود مع المسلمين من أجل الدفاع عن البلد؛ فقد أكَّد البند (41) هذا المعنى: (وأن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)، ولا يصحُّ أن يُجير أحد من أهل هذه المعاهدة أحدًا من قريش، أو أحدًا نصرها؛ وذلك حفظًا لأمن المدينة من العدوِّ الوحيد الذي يُعلن العداوة لها؛ حيث كانت باقي القبائل على الحياد، وإلى هذا يُشير البند (46) من الوثيقة: (وإنه لا تُجار قريش ولا مَنْ نصرها)، ويُؤَكِّد البند (47) و (48) و (49) أيضًا على معاني الوطنية، والمسئولية التي تقع على كاهل كل طرف من الأطراف التي تسكن المدينة؛ وذلك حتى يشعر الجميع أن هذا وطنه، وأنه يجب عليه حمايته: (وإن بينهم (أهل هذه الوثيقة) النصر على من دهم يثرب‏،‏ على كل أناس حصَّتُهُم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ).
إن هذه البنود تُؤَيِّد وتُوَضِّح تمامًا أنه لا يُوجد طرف يتميَّز على الآخر، ولا يُوجد طرف يشعر أنه غريب في هذا المجتمع؛ بل إن الجميع -دون استثناء- يشتركون في حماية الوطن والدفاع عنه.
رابعًا: العدل التام
ومن البنود (50)، (51)، (52)، يستفاد بأن العدل هو أحد الأسس العظيمة واضحة البصمات في هذه الوثيقة؛ وذلك لأنه أحد مقوِّمات الاستقرار في المجتمعات والشعوب، وبدونه يُصبح الضعيف مغلوبًا على أمره، فاقدًا لحقوقه، بينما يرتع القوي في حقوق الآخرين دون وجه حقٍّ، وقد كانت المجتمعات الجاهلية تقوم على نُصرة القريب؛ سواء كان ظالمًا أو مظلومًا؛ وذلك بدافع العصبيَّة والقَبَليَّة، فلمَّا جاء الإسلام هذَّب هذه القاعدة بِإقرار نُصرة المظلوم، وجَعْل نُصرة الظالم بالأخذ على يديه ومَنْعِهِ من الظلم؛ ومن ثَمَّ فقد كان أحد البنود في هذه المعاهدة هو: (وإن النصر للمظلوم)، وأُطلق هنا لفظ المظلوم ليظهر لنا أحد معالم العظمة الإسلامية في إقرار حقوق الإنسان في هذه الوثيقة؛ فسواءٌ كان المظلوم مسلمًا أو يهوديًّا فإن له النصرة، وعلى ظالمه العقوبة، فلو أن مسلمًا ظَلَم يهوديًّا فإنه يُعَاقَب على هذا الظلم، ويُرَدُّ الحقُّ إلى اليهودي، وكذلك لو ظَلَم يهوديٌّ مسلمًا فإنه يُعَاقَب ويُرَدُّ الحقُّ إلى المسلم.
هذا هو التشريع الإسلامي العظيم الذي يحفظ لكل إنسان حقوقه، دون النظر إلى ما يعتنقه من دين، أو ما يحمله من أفكار، وهذا هو عدل الإسلام وإنسانيته.
وعلى كل طرفٍ أن يتحمَّلَ مسئولية ما يقوم به من أعمال، ففي البند (40): (وأنه لا يأثم أمره بحليفه وأن النصر للمظلوم)، فلو أن إنسانًا ارتكب إثمًا أو خطأً ما متعمِّدًا؛ فإنه وحده يتحمَّل مسئولية عمله كاملة، وليس على حلفائه الذين لم يشاركوه في هذا العمل أدنى مسئولية، وإلا كان هذا مساعدة على انتشار الإثم والبغي، وهذا بخلاف ما إذا كان ما قام به عن طريق الخطأ كالقتل غير المتعمَّد؛ ففي هذه الحالة ومثلها على حلفائه أن يُساعدوه، ويُقَدِّموا له العون؛ كالمشاركة في أداء الدية معه مثلاً، وهذا أيضًا من العدل، ومن مقتضيات التحالف.
ومن البنود التي تُؤَكِّد معنى العدل، البند (51): (وإنه لا يَحُولُ هذا الكتاب دون ظالم أو آثم)، فهذا الدستور ليس ملاذًا للظالمين والآثمين، يحتمون به من المظلومين وأصحاب الحقوق؛ بل على العكس من ذلك فإن هذه الوثيقة تردُّ (بموجب بنودها) الحقوقَ إلى أصحابها.
خامسًا: التعاون والتناصح وحفظ الوطن
وفي البند (39) (وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)‏؛ أي أنه بموجب هذا العهد يكون على الأطراف المتعاهدة التناصح فيما بينها، ويشمل هذا الأمر إسداء النصح للأطراف الأخرى بصدق وإخلاص، وقبول النصيحة منهم، وأن يحمل كلُّ طرفٍ النصائحَ التي يُسديها إليه الآخرون محمَلاً حسنًا، ويُؤَكِّد هذا البند -أيضًا- على أن بين الأطراف المتعاهدة البرَّ دون الإثم، أي التعامل بالإحسان، والتعاون على الخير فيما بينها، دون التعامل بالسوء.
وإذا كان من مُقَوِّمات حفظ الوطن عدم اندلاع حروب داخلية؛ فإن الوثيقة احتوت أيضًا في البند (42) الذي يُحَرِّم نشوب قتال داخل الوطن: (وإن يثرب حرام جوفُهَا لأهل هذه الصحيفة).
سادسًا: مرجعية واحدة
يُؤَكِّد البند (45) من الوثيقة هذا المعنى: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله  وإلى محمد رسول الله ، وأن الله  على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره)، وهو بند مهمٌّ يكفل توازن العلاقة، ووضوح معالمها بين الدولة الإسلامية ومواطنيها غير المسلمين؛ فمع ما قرَّرته البنود السابقة من حريات وحقوق، إلاَّ أن هذا البند يكشف جانبًا آخر مهمًّا من العلاقة، وهو أن المرجعية القضائية القانونية والفصل في الخصومات إنما يكون كل ذلك إلى شريعة الإسلام، وقضاء الدولة الإسلامية المتمثل حينذاك في رسول الله ، ما لم يكن الأمر من خصوصيات دينهم.
ولعل اللافت للنظر من استعراض هذه البنود السابقة أن عناية الإسلام بحقوق غير المسلمين كان مسألة مبدئية لا يعمد إليها المسلمون مضطرين أو مهزومين؛ بل هي ركن أصيل من الفقه الإسلامي جاء به الدين الحنيف من اليوم الأول لقيام دولة الإسلام الوليدة، وأن تلك الكفالة التامَّة لحقوق الأقليات غير الإسلامية في المجتمع الإسلامي أمر واقع من قبل أن يخطر على بال الآخرين تفكيرٌ في مثل هذه المبادئ بقرون طويلة.
كانت هذه هي المعاهدة بين رسول الله  وبين اليهود العرب من قبيلتي الأوس والخزرج، أمَّا نصوص المعاهدة مع قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة فليس هناك نسخة محفوظة منها، مع الإقرار الكامل بثبوتها واقعيًّا، ولا يُوجد نقل صحيح يُشير إلى بنودها التفصيلية، وإن كان الغالب أنها البنود نفسها؛ لأن شواهد التعامل مع يهود تلك القبائل الثلاث بعد ذلك كانت تُشير إلى وجود مثل هذه البنود في معاهداتهم.

2- نجد رسول الله ، نبيا وقائدا وسيدا نبيلا ومسالما وديمقراطيا في تعامله مع الناس، من خلال كثير من الروايات الصحيحة المنقولة عن سيرته العطرة ، فمن خلال قصته مع عبد الله بن الخويصرة التميمي، حيث روى البخاري (3610) ومسلم (1064) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ ، فَقَالَ : ( وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ) ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَقَالَ: ( دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ (أي تضطرب) وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ"." يَقُولُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)، (وَمِنْهُمْ): أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ (مَنْ يَلْمِزُكَ) أَيْ يَعِيبُ عَلَيْكَ فِي قَسْمَ الصَّدَقاتِ إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُتَّهَمُونَ الْمَأْبُونُونَ، وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يُنْكِرُونَ لِلدِّينِ، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ؛ أَيْ يَغْضَبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ .. " تفسير ابن كثير" (4/ 144).
ومن خلال ربط سيرة رسول الله بسيرة الامام علي عليهما السلام ونبؤة الرسول لعلي بحربه للخوارج، من خلال كتاب: (فتح الباري في شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني وهو من كتب تفسير الحديث وأجمعها في شرح صحيح البخاري.): باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه 6534 "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله فقال ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه قال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل إحدى يديه أو قال ثدييه مثل ثدي المرأة أو قال مثل البضعة تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم قال فنزلت فيه ومنهم من يلمزك في الصدقات") ص 304 ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير