الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلمي أبيض بنقاء جبال (بولير) فكتوريا

دينا سليم حنحن

2019 / 12 / 10
الادب والفن


ذاكرة مكان

عتبتي بيضاء وشمسي بيضاء والهموم من حولي طلّ ورذاذ.
- يا لهذا التفاؤل! قالت لي رفيقتي، تتهمني بجريمة اقترفتها دون أن أدري.
- يا لهذا النهار الجميل! أجبتها دون تردد.
كان يوما ربيعيا، قررت السفر إلى منطقة ثلجية داخل قارتنا الأسترالية، القارة التي يتهمونها بقسوة العيش وفصول صيفها المستمر، استقللت طائرة منتصف الليل من بريزبن واتجهت نحو ولاية فكتوريا.
سألتني رفيقتي:
- لماذا نسافر ليلا؟
- حتى نشعر بالفروق بين وضعيتين أساسيين في الحياة، الخير مقابل الشر، المحبة مقابل الضغينة، اللون الأسود مقابل اللون الأبيض، النقاوة مقابل الشوائب، من يحب الحياة عليه أن يمر في تجارب مضنية ليصل إلى مرحلة مضيئة، قال سيدنا (إن الماء يطفئ النار، كذلك الحلم يطفئ الغضب - لا يجتمع الماء والنار في إناء واحد، كذلك لا يجتمع الفقه والعمى في قلب واحد)، خصصت هذه الرحلة لتجديد هواء القلب وتبييض النية. أجبتها.
- تبييض النية؟ تحدثينني اليوم بالألغاز وصراحة أنا ماشية خلفك مثل العمياء! قالت رفيقتي.

لم تعلم رفيقتي أن كل مرء يحتاج إلى عطلة تطهيرية، يطهر نفسه من جميع الشوائب التي علقت فيها بواطنه، إن تكدست سوف تخنقه أو تصنع منه إنسانا عنيفا فاقدا للضمير.
حسب نظرية التحليل النفسي، على الفرد مجابهة العنف بالعنف لكن بأساليب سلمية، ما يدور من حولنا من أحداث مؤسفة، مظاهرات ومجابهات وقتل متعمد وشراسة في المعاملة يؤجج دواخلنا العنيفة الساكتة قد تُحوّل الإنسان إلى وحش.
داخل كل نفس حية خامة عنيفة نائمة، تماثل الخلايا الساكتة عندما تتضخم وتتحول إلى أمراض خطيرة، لذلك علينا إطلاق المشاعر العدوانية للتقليل من الاجهاد العقلي، الإنسان الذي يحتاج إلى ممارسة العنف، عليه إيجاد طريقة صحية للتنفيس عن تلك الرغبة الجامحة دون أن يضر بالآخر.

نظرية الشخصية والمسماة بنظرية أرسطو، تحث الفرد الماثل إلى ضغوطات عدائية أن يصرف تلك الطاقات لتنقية دواخله بطريقة (التطهير أو Catharsis )، أي معالجة الداء بالداء وإثارة المشاعر وعدم كبتها.

لنعد إلى مشروع الرحلة،
قررت السفر إلى منطقة بيضاء تذكرني بأعياد الميلاد في أوطاننا، تعيدني إلى أيام الطفولة، ذهبت مع والدي إلى حقل في يوم شتائي قارس البرودة بنية شراء شجرة الكريسماس، ارتجفت من البرد في حينه فسقطت في حضن والدي أرتجي منه الدفء، صرخت وولولت (دفيني بابا)!
ما تزال رنة ضحكة والدي ماثلة في ذاكرتي، لكنني عندما رأيت المعول بيده صرخت ورجوته ألا يفعل، خشيت من الآلة الحادة التي استخدمها حتى يقوم بقطع الشجرة، تخيلته رجلا آخر عنيفا وشرسا، عندما قرأ ما يدور في خاطري وضع الشجرة على الأرض وحضنني قائلا:
- آسف يا ابنتي لأنني أوجعت مشاعرك، مضطرون أحيانا إلى ممارسة القسوة، لكن شريطة ألا نسمح لأنفسنا إراقة دماء أحد، لنحافظ على نقاوة ذواتنا، ستصبح هذه الواقعة ذكرى، احمليها معك فلا يوجد ورد بلا شوك!

حملت الذكرى معي، كلما حل عيد الميلاد ابتسمت كثيرا ورحلت بتفكيري إلى أيام الطفولة، أيام الطهارة والصفاء والنقاء، لا حقد فيها ولا ضغينة.

لنعد إلى أستراليا،
وصلت جبال Mount Buller صباحا، واقعة في ولاية فكتوريا، ظهرت أمامي المدينة المكسوة بالأبيض، تبعد عن شرق ملبورن حوالي 208 كم، مدينة عبارة عن منتجع سياحي هام جدا، يبلغ تعداد السكان 300 شخصا فقط، تحتوي المدينة على عدة منتجعات، يقدر عدد الأسرة فيها 7000 سريرا، تبقى شاغرة تقريبا جميع فصول السنة، يؤمها السياح والمواطنين للإستجمام والتزلج والمشاركة في مسابقات رياضية وترفيهية.

نفضت الثلوج عن معطفي وهممت دخول غرفتي، لكنني توقفت فجأة عند العتبة، عادت بي الذكريات، وجدت نفسي هذه المرة مع جدتي التي رددت هذه الجملة:
- لتكن عتبتك بيضاء حيثما حللتِ!
- عتبة بيضاء يا جدتي! سألتها باستهجان.
- نعم مثل قلبكِ، لتكن خطواتك مدروسة وإياك أن تدوسي على أحد! قالت.

ركضت فوق مساحات شاسعة غمرتها الثلوج بخطوات ثقيلة فأضعت الطريق، سقطت قدماي في العمق وشلت حركتي، حاولت الخروج فأخفقت، أحسست بالخوف، حاولت مجددا فأخفقت وصرخت، لم يسمعني أحد، ناديت رفيقتي حتى تخلصني مما وضعت نفسي فيه، لكنها آثرت دخول صالة البخار للإسترخاء، تركتني وحيدة تماما في عالم شديد البياض، بقيت على ذات الحال حتى بدأ الليل يحفر أنفاسه على الكون، اختلط اللونين، الأسود بالأبيض، يا لهذا التنافس، الأبيض يفاخر الأسود ويباريه!
قررت الاعتماد على نفسي، حاولت الخروج من الحفرتين لكنني أخفقت، صرخت لم يسمعني أحد، صرخت كثيرا، أخرجت حنقي المتكدس داخلي، تبرمت واختنقت، صرخت وبكيت واستنجدت، داهمني وهن غير متوقع فأغمي علي.

عندما استفقت من غيبوبتي،
نظرت إلى السماء الملبدة بالغيوم، بحثت عن الشمس، توارت تماما، تكحل الليل بالسواد وشملتني الظلمة، قلت، ليكن الصبر ملاذي والحلم نجاتي، ابتسمت ثم ضحكت، سكنت مكاني وهدأت.
- هل أنت بخير؟ سألني أحدهم.
- متى يأتي بابا نويل؟ سألته في غباء.
- سيأتي أكيد فالليلة هي ليلة الميلاد. أجابني باختصار.

صمت المنقذ الذي ساعدني على الوقوف وداخل عينيه ألف سؤال وسؤال، لولاه لضعت بين أشجار بيضاء صامدة في عالم شديد السواد، عتبتي بيضاء، لا شك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على تقييم الناقد طارق الشناوي لنجوم رمضان .. -الحشاشين-


.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح




.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال


.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص




.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..