الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنشودة للإنعتـــاق .. تغريــدة لأفق مفتوح 8 من 10

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2019 / 12 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


نسيم المرأة

تكون الحياة بعيداً عن المرأة قاسية، كئيبة وناقصة. هذا حُكْمٌ أراه منطبقاً مع الواقع ومنطقياً في التعامل الملموس. إذا كان المرء يسير في الشارع، أو في لجة العمل، أو في جلسة بريئة بحديقة أو مقهى، أو في مداولات سياسية أو إجتماعية أو فكرية أو في أي مكان بالمطلق، فإن وجود المرأة يفتح بابَ الإشراقِ والبسمةِ والعقلانية. ببساطة المرأة سراج الحياة، ولا تكتمل بدونها. لا يجري الحديث هنا عن الحقوق المتساوية، فهذا أمر مفروغ منه حكماً وقناعة. وهو قضية عادلة تستحق التضحيات على طريقها. لن يتقدم مجتمع والمرأة خارج موقع الإهتمام الأول. ولا يكون الوضع الإجتماعي في أي جماعة إنسانية سليماً وخالياً من الأمراض الجسدية والنفسية بدون النساء.

تضع النظرةُ الإجتماعية المسطحة بصدد سلوك النساء في الحياة عامة، موانعَ وتحذيراتٍ وقواعدَ متخشبة تكره الحياة. ولا تملك مسبباتٍ أو مبررات ذات إعتبار. تحول حياتهن من الناحية الواقعية الى سجن، تحرسه تلك القواعد والمواصفات والأعراف البائسة والبالية. وتكون تلك النظرة من جانب آخر أكثر شفقة ورحمة وتعقلاً بصدد سلوك الرجال إتجاه النساء. كما لا تأخذ تلك التصورات والقواعد الجامدة بنظر الإعتبار الحالات الملموسة لكل حدث منعزل، والظروف المحيطة به. ولا تنظر بإرتياح الى كل لقاء مشترك يجمع الجنسين: جامعة، ندوة، تظاهرة، معمل، مزرعة ... الخ. وهي من البديهي، ضمن تلك الرؤية، لا تقيم وزناً لتأثيراتِ الحرمان، وغياب المشهد النسائي الجميل في الحياة. ولا ريب في أن قائمة الإدانات طولية. وهي مفتوحة وتستوعب إدانات وقيود ومحرمات جديدة، كلما إنحطت شروط وظروف الحياة العامة.

ينظرون الى المناضل في سبيل شعبه كأنه صنم صخري بلا ذوق أو عاطفة. تندفع أو تتراجع العاطفة عند كل إنسان حسب ظروف الحالة القائمة. وهي تخضع لمؤثرات لا حصر لها، روحية منها ومادية. إن أصحاب النظرة الصنمية يعانون من نقص ما، أو لا يملكون الجرأة الطبيعية التواقة للجمال وإحترام الآخر وغير ذلك.

تتناول معظم الروايات، عربية كانت أم أجنبية، سيرة المرأة القوية التي تحترم إنسانيتها بذوق رفيع. وكذلك طرق إعداد نفسها لمعركة الحياة. وهناك روايات تتناول النقيض. ولا يقلل من القيمة الإبداعية لعمل فني ما، حين يتناول قعر المنحدر الإجتماعي، الذي تجد المراة أو الرجل نفسيهما فيه. لا يوجد سور صيني بين الحالتين. فالتواصل يظل قائماً بين الذروة والقعر، والسفح الذي بينهما. إن النظرة الى الصواب والخطاً متحركة بحكم حركة الزمن. وتغيّر معطياته وقيمه. تتبادل الحالتان التأثير المنظور وغير المنظور في الإتجاهين.

كلما ينحدر الوعي المعرفي والثقافي والإجتماعي، ويسود الجهل، وتتراجع أو تنقص أو تغيب المداخيل الى حد عدم إمكانية توفر إقامة الأود، نرى مقابل ذلك الفجور المستتر بكل قباحاته ورعونته وعدم أصالته. نرى الإغتصاب القهري، وبيع الجسد، والتشهير بالضحايا، وقتل الناس، وإنعدام الثقة بالنفس والآخرين، وغيرها من الظواهر المؤلمة. ألم يصل القهر الإجتماعي للنساء في بعض البلدان والحالات حد إقدامهن على حرق أجسادهن الطرية والجميلة والشريفة، بالمعنى الدقيق والضيق والملموس لكلمة الشرف. لا حصر للأضرار الإجتماعية المترتبة على قهر النساء. من المناسب أن نشير الى حالة واحدة كمثل. ففي المجتمعات التي نالت فيها المرأة جزءاً كبيراً من حقوقها العامة تعلمت الصراحة. وهذه خاصية عظيمة. إن الصراحة تنتقل عبر العائلة الى الأجيال الجديدة. إنها ركن أساسي في الأخلاق القويمة، وهي تمثل أو تخلق عملية توارث للخصائص الطيبة.

تحكي لنا رواية الكاتب يحيى علوان قصة إنسانٌ عاشَ بين الجبال العصية، خارج حدود الحياة الطبيعية للناس في بعض جوانبها. حتى إذا صادف سيدة أو رفيقة درب، على ندرة ذلك المشهد أو المصادفة، فإنه لا يرى فيها غير صورة المحاربة العنود. وهي أمانة عنده وعند كل مَنْ حولها، وفق المعايير المعتمدة. إنها أخت ورفيقة في وقت واحد.

ولكن، هل من العدل؟ أن نُطالب مَنْ عاش سنوات طوال، فاقداً لبعض جوانب الحياة الطبيعية. وبعد "تسريحه" من الخدمة العامة، بأن يحجب نظره عن الجمال. حين يمر من أمامه، أو يجالسه في حافلات النقل العام في المدن وبينها. يطرح المقاتل العائد ذاته على نفسِه الكثير من الأسئلة، تحت وطأة قوة العادات الإجتماعية العامة. ويجتاحه التردد من أي مفاجأة نسائية. وفي حالات تجتاحه الرغائب المتأججة وأمواجها العالية والعاتية دون مقدمات. يستغرب هو نفسه، من تلك القوة التي تسيطر عليه، أو يمتلكها فَجْأةً دون سابق عزم أو تخطيط.

أُجَادِلُ هنا الروايةَ من خلال الصور الإبداعية لمشاهدها. هل أجادت السرد؟ هل نَقَلَ الكاتبُ القارئَ الى جوارِهِ خلال لحظات ذات طبيعة سينمائية أو درامية أو لمحة عاطفية؟ هل حقق الكاتب نوعاً جميلاً وراقياً من الدهشة؟ هل إنطوى الحدث بأكمله على إحترام حقيقي لمشاعر الجانبين؟ الواقع أن الكاتب سجل بعناية بالغة مشاعر إنسانية جميلة وخالية من الأغلفة المعتادة. كأنه أقرب ما يكون الى طير أفلت للتو من قفصه محكم الإغلاق. يحدق بالمارة، بالأسواق، بالقرى، بالمياه، بكل ما يقع أمام ناظريه. وتاج الجميع الإنسان نفسه، وما أبدعه في الحياة، وإن كانت تلك الحياة غير مكتملة الأركان. وتظل ميداناً للعمل من أجل تطويرها وصيانتها. وفي كل الأحوال تظل المرأة الراية الأعلى والأجمل. وهي التي تمنح للحياة خصوبتها وعذوبتها وأحلامها.

تُتاحُ لأول مرة أمام بطل الرواية فرصة ركوب حافلة بين مدينتين. وقبلها سيّاراتُ الأجرة (لاندروفر)، التي تنطَلَقُ من پيربينان أَزواجاً، لأسباب تتعلق بأمن الركاب في ظروف الحرب. بدأت رحلته من عالم مغلقٍ إضطراراً، الى عالم واسع بكل مكابداته ومخاطره وآلامه، وأفراحه الصغيرة منها والكبيرة أيضاً. من أَشْنَوِيَّـة الى الرضائيَّة (أَرومْيَـة)، ومنهـا بالباصَ صـوبَ طهـران. يمكن مجازاً وصفها برحلة الحرية النسبية، أو حتى صوبها. أو هكذا تمنى المُطارد. إذ كان حتى لظلمة ليل طريق السفر، التي تحجب النظر الى جمال الطبيعة، طعمها الخاص وحتى اللذيذ.

جلس المُطارد في الجهة اليمنى من الباص. ربما من حيث لا يعلم إختار الجهة الأكثر أمناً عند إحتمال وقوع حوادث في الطريق. وربما سيكون خلال الرحلة المقعد الأكثر جمالاً ومتعة. مَنْ يَعلم؟ إن للسفر مصادفاته وإرتياحاته ومتاعبه. بات السفر على طريق عام متعة قائمة بذاتها. تمس بحنان سويداء القلب، بعد ذلك الحرمان المديد. تمر لحظات ينسى فيها المُطارد مخاطر الطريق. تلك المخاطر التي لا ترتبط بحوادث الطرق على كثرتها، ولكن بالهاجس الأمني. اللعنة، كل الطغاة تكمن سعادتهم في مُطاردة أي هدف ممكن. هم يصنعوه أحياناً لخلق متعة المُطاردة. ربما هذا مرضهم الدائم.

من المصادفات الجميلة في الحافلة، أن جليسته في الجوار سيدة ثلاثينية، بعطرها ونعومة ملابسها، التي تجسدها بالكمال، أو هكذا يتخيل المَحْرُّمُ. وكم هو جميل الإحساس الذي تخلقه صدفة تماس خفيفة بينهما، متعمد أو غير متعمد. وكأن لسان حاله يقول: آه وألف آه مضى دهر لم تقترب فيه سيدة الى مثل هذه المسافة التي بيننا الآن. إنها بداية لأنفاس جديدة حُرِّمَ منها سنوات طوال. هذا على الرغم من أن الطريق الى طهران ليس كله متعة. هناك الكثير من أسباب القلق: الوثائق الشخصية المزورة، وقفات التفتيش، السرعة التي تتطلبها وقفات الإستراحة، ضغوط المثانة و و و.

وفي هذه الدوامة، لم ينس الكاتب حسه بمعاناة الآخر. يمكن إلتقاط ذلك الإحساس من غير عناء. عند وصفه لحالة التفتيش: "قبـلَ أنْ نصلَ طهـران بحوالي ساعةٍ ونصفِ الساعة، توقَّفَ الباصُ فجأةً عند حاجز للتفتيش تابعٍ لما يُسمَّونَ بـ "حرّاس الثورة".. صَعَدَ شابٌّ بوجهٍ ريفيٍّ، كَـدَّه التعَبُ والسَهَرُ، بسَحنةٍ خشنةٍ، تحنُّ لكفٍّ من المـاء.. راحَ يتفَرَّسُ في وجوه المسافرينَ، ويَتَشرَّبُ سَحناتِهم، أو هكذا درّبوه.". (الرواية ص 116 ـ 117) أرى في هذا الوصف ما يشي بأن الفقراء هم وقود لغيرهم، سواء للذين جاؤوا الى السلطة بإسمهم، أو عبر قهرهم.

في كل الأحوال لم يَنْسَ الكاتبُ سيدةَ الباص الثلاثينية. بدا لي من سَرْدِ الحالةِ. كأنها بالنسبة له نسمة عذبة في صيف قائظ، كتب: "سيِّدَةٌ تجلِسُ لوحدها عندَ الشبَاكِ ناحيـةَ اليمينِ، في الصفِّ، الذي أمامي.. عندما صَحَتْ، إنزَلَقَ الشالُ "الأيشارب"، الذي كانَ يُغَطّي رأسها فبانَ شعرُها الوفيرُ مع خِصَلٍ من الميش المُذَهَّبِ، سَحَبَتْ طَرَفَ الشال تُغطّي شعرَها، مُمتَعضَةً.. كَمَنْ إنتُزِعَ من حُلُمٍ جميلٍ لَمْ يكتَمِلْ.. فتَرَكَ في الصـدر غَصَّـةً.. دَمدَمَتْ بشيء لَمْ أَفهمهُ، لكنني أَحسَستُ بأمتعاضها..". (الرواية ص 114).

لا تبخل الرواية بوصف سيدة الباص: "لا هِـيَ نحيفةَ القَـدِّ ولا سمينةً.. بلْ بأمتـلاءٍ حُلـوٍ.. جَسَدٌ يتعرّى مُحجّباً بصمتٍ ضاجٍّ..! ساكنةً كانتْ، لكنَّ ما فيهـا من الإغراءِ، يُحرِّكُ الهـواءَ من حولها.. إيذاناً بإنفلاتِ رغبةٍ، طال إحتباسُها..!". (الرواية ص 114).

يأتي تَحَرُّكُ المشهدِ صوب الإقتراب الممكن بعد مضي بعض الوقت. هذا ما يتطلبه التواصل عن بعد، بين إثنين غريبين. وضع حد للتردد، أمر طبيعي بأن لا يأتي عجولاً. فالتردد يطبع كل بداية. ربما ذلك لإستيعاب الحال حول القادم الجديد المتوقع، الذي قد تسفر عنه الحالة.

إن ستة أعوام من العزلة حوَّلت المُسافر المُطارد الى غشيمٍ، في مضمار تحويل المحتمل الإنساني الى حالة حقيقية كاملة ومحببة الى نفسيهما. أو أقلة توفر القدرة على أن يتخيل الحال كمجرد سردٍ روائي. في لحظتها كانت سيدة الحافلة مجرد أنثى جمعتها معه الطريق حسب. فجاء الوصف بأنها ليست صارخة الجمال. ولكن هل الشوق الى حواء كان دافعاً كافياً لتلامس الأقدام. ربما الحرمان الذي يُفْرَضُ على سيدة في مجتمع يُضَيقُ قدرةَ المرأة على التعبير عما يجول في خاطرها. ويقابل ذلك كهل تواق للحياة، عايش الحرمان في أكثر صورِ غيابِ المرأة.

إن الجميل والإنساني أن الطرفين إستطابا تلك الحالة أو اللعبة، لعبة تلامس أقدامهما، التي جاءت محض صدفة أو بتعمدٍ، في مكان له خصوصيته. إن الحافلة ستصل الى نهاية رحلتها، بعد أقل من ساعة ونصف الساعة. فإستثمار الوقت للمداعبة "البريئة" يُسْعِدُ ولا يؤذي أحداً.

قد يسرح خيال النقاد الى تصورات خاصة بهم، وقد لا يرتقون الى أحاسيس مَنْ كانا في الحافلة. قد يوصف تلامس الأقدام، بأنه رغبة في شيء عبثي، أو نوع من الصبيانية العذبة، أو رغبة في العودة الى الحياة، أو نوع من التحدي البسيط للحرمان، الذي لا يهدد السلطات القمعية والكابحة. وقد يكون حالة تَجًلٍّ صوفية، فسحة ضد القهر، هنا ربما أضحت سيدة الحافلة أنثى بالمعنى الكامل للكلمة، أو كل ما ذكرته الرواية من أوصاف. وربما شيء آخر لم يصل إليه إلاّ أصحابه، أي هما، وهما فقط.

بعد كل حدث يستطيبه الإنسان تظل صورته عالقة. وربما تكتسب جمالاً إضافياً. ولا يغيب بعض الأمل والتمني بلقاءٍ آخر تهبه الحياة. يتذكر المُطارد نوع جلد حذائها، نعومة ملمس باطن قدمها، إبتسامتها التي تنضح رقة وخجلاً ورغبات وغيرها. بما هو كائن في الواقع أم مجرد خيال عابر. تتكرم الحياة أحياناً على أبنائها وتمنحهم فرصاً جديدة. نعم تجدد لقاء الصدفة بصدفة أخرى في طهران. وأبدعت الرواية في تسجيل تفاصل اللقاء في الشارع، وراء الأبواب المغلقة مع سميرَةِ السَفرةِ ـ روشنك.

سجل الكاتب مشاهد جميلة على مدى خمس وعشرين صفحة. تقع بين الصفحات 155 ـ 180. تستحق القراءة كلمة كلمة. وإختصارها يضير بجماليات النص. إختار لها الكاتب عنوناً من كلمة واحدة ـ روشنك. هو أسم بطلة حافلة السفر الى طهران، التي وصفها بـ "سميرَةِ السَفرةِ". هذا هو التقويم النهائي لتلك الصفحات، بأنها صفحات مشبعة بعطر الحياة، تسعى لكبح مراراتها وصدماتها وحتى التأسي على بعض تضحياتها، ولمد الحياة بزادٍ جديد، ونبض لذيذ وقوة للتطلع، نحو مستقبل أفضل، والمساهمة في صنعه.

ليس بوسعي، ولا من واجبي النقدي، أن أنقل كل ذلك الجزء أو النص وأحداثه. ولكن وجدت حلاً وسطاً. يتمثل بنقل مراحل اللقاء في طهران مع روشنك، الذي قد يساهم في بناء تصور حول الرواية، خاصة لمَنْ لا تتوفر لديه فرصة الإطلاع المباشر على الرواية:

ـ "فجأَةً إلتَقَتْ نَظراتُنا، مَسّتني بإبتسامةِ من كرنفالِ عيونها الرمادية المائلة للزرقة.. رَفَّ القَلبُ كَنَطيطِ أرنبٍ مفزوعٍ.. إرتَبَكَ النَبضُ. حاولتُ أَنْ أَصرُخَ، بَيدَ أَنَّ خَرَسَاً شَـلَّ لساني وما عَرفتُ كيفَ أُناديها.. غابَتْ بينَ الجُموعِ.. رُحتُ أقفُ على رؤوسِ الأصابعِ وأنُطُّ عَلّي أرى رفيقةَ السفرةِ من الرضائية إلى طهـران؛
ـ حَمَلتُ نفسي، بقلبٍ كسيرٍ، أَسحَلُ خيبَةَ طفلٍ لَمْ يَهنَأ بهديِّةٍ مفاجئةٍ، إنتزَعَتها منه قوةٌ خَفِيَّةٍ؛
ـ كُنتُ أنتظرُ عند الإشارة الضوئية للعبور، لَمّـا لاحَتْ لِي في الجانب الآخر من الشارع، أحسستُ بما يشبه صعقةً كهربائية، بعثرتني، فلم أدرِ ما فعلتُ؛
ـ تَعَشَّقَتْ أَصابِـعُ يدينـا، بعدَ أَنْ تَلَعثَمَتْ في البداية.. عَبَرنـا شارعَ مصطفى خُمَيني، بإتجاه سوقِ الخُضار، ودَلَفنا في الحارَةِ، التي أُسكِنتُ فيهـا.. كانت مُتردِّدَةً؛
ـ وصلنـا البيت، وحينَ فَتحتُ البابَ تَمَنَّعَتْ؛
ـ جفَّ نبعُ كلامٍ كادَ ينفَلِتُ.. إكتفينـا بما تبوحُ بـه اليدين؛
ـ دخلنـا الغرفَةَ. كانَ الظلامُ يَتَمطّى فيها وقد إستفاق تَوّاً.. أَغلَقتُ البابَ، إتكأتُ بظهري إليه، أَغمَضتُ عينيَّ وسحَبتُ نَفَسَاً أعمَقَ من قاعِ كَعْبيَّ؛
ـ أَشرَقَتْ عيناها بأبتسامةٍ تُسكِرُ النبيذَ، تُربِكُ النَبضَ.. يا إلهي !.. ما هذا الحَوَر؛
ـ مَرَرتُ بأناملي فوقَ رُمّانتيها، رقَّ لحمها، فأنحلَّ جسدها؛
ـ رُحتُ أَتَهجَّى كلَّ تفصيلٍ فيها، لَمْ تُبدِ مُمانَعَةً.. أَحسَستُ بأَنفاسها تَلفَحُ وَجهي".

حسمت الدكتورة روشنك مغامراتهما، التي إستمرت بضعة أيام. ورسمت في ذاكرتهما صوراً ولحظات جميلة. قدم كل منهما مفاهيمه وأحاسيسه واضحة وسافرة للآخر، بكل رقة ووضوح وجلاء. لبت رحلة تلك الأيام الثلاثة نداءآت مشتركة من أحاسيس رقيقة ونزوات عارمة ورغبات وإندفاعات فلتت من قيودها. روشنك ويحيى علوان تركا حرية التذكر أو نسيان أيامهما المشتركة لكل منهما.

في تجربة أخرى، بعد فشل محاولة العبور من زاهدان. وما رافقها من جهد وإعتقال وتهديدات ومحاولات التخلص من مآزق تلك المحاولة. لا خيار غير تجديد المحاولة. ولكن هذه المرة يكون المرور عبر مدينة مشهد. ومن قرية السلامات تحديداً. وفي هذه المرة أيضاً يجدد القلب نبضات خاصة. ذاق طعمها الحلو صدفة. وكأي صدفة ليس من السهل التحكم بمشهدها الأخير.

كانت كلمة السر "أبو فلاح" عند الوصول الى قرية السلامات، على الحدود الإيرانية ـ الأفغانية. حَلَّ الطريد ضيفاً على مُهْرِبِه إيهاب. كانت قواعد اللعبة عند إيهاب واضحة. تقوم على الكسب المالي حسب. كما في الليلة الظلماء يتمنى الإنسان البدر. لاحت ضمن الحالة القلقة والكئيبة نافدة تطل على أفق يبدو جميلاً. تهب منها نسائم تشبه تلك التي هبت عليه، بين الرضائية وطهران، وتحديداً في النزل الذي يقع في أحد أحياء طهران الفقيرة. نعم تعالى بدر جديد في ليالي قرية السلامات الحالكة الظلام.

حين قررت روشنك سيدة الحافلة وضع خاتمة. بعد تلك اللحظات السعيدة. التي قد لا يُفَسرُها، كل ما سَطَرَهُ الفلاسفةُ مدارسَ وأشخاصاً عن اللذة، حيث تَعِبَ تاريخ فلسفة الحياة في تفسير فلسفة اللذة والألم، من أبيقور الى مدني صالح. ولم يتعب الكاتب من عمليات رسم تفاصيل إيقاعاته. وعلى نحو غير متوقع ظهرت سعيدة زوجة المهرب إيهاب، لتمنح أجواء القلق والألم والترقب نفحة، تذيب ثلج الأيام والسنوات السابقة، وتثلج لظى صحراء الأيام الجديدة العابسة.

"دَلَفَ "إيهاب" يدُقُّ الأرضَ بعكّازه، كأنَّه يمتحنُ صلابَتَها. دفَعَ الباب، فأصدرَ صريراً مُتقطّعاً، صاحَ ساييدا (سعيدة) وبَربَرَ بكلامٍ لم تَفهَمه. خرَجَتْ من غرفةٍ، بابُها في الممَرّ المظلم وتَطِلُّ بشبّاكٍ على باحة الدار، إمرأةٌ، حَسِبتَها إبنَتَه، تحملُ سِراجاً، فَضَحَ صدرُها، الناهض بوجهكَ، ما حاولَ إِزارُهـا سِترَهُ. أَحسَستَ بحرارةِ أنفاسها.. هَرَبَتْ عيونكَ رهبةً، لكنّكَ ـ ودون وعـيٍ إنغرزتَ في المكان مثلَ نخلةٍ عتيقةٍ.. إرتَبَكْتَ، صيَّرَتكَ صَنَمَاً تحتَ وابلِ بهائها وسحرِها الفَتَّان، لاسيّما ظلالُ إبتسامةٍ غامضةٍ، كأنها أَحَسَّتْ بما يعتملُ بداخلِكَ من صراخٍ عَتِيٍّ، يفوقُ ما يفعله هيامٌ مُلتّاعٌ!.. إبتسمَتْ لَكَ، فَرَشَّتْ وَجَلَكَ على الزَرعِ في باحة الدار.. فَتَحتْ بصدرِكَ حُجراتٍ مُغبَرّةَ الأَقفال، كُنتَ نسيتها، فأَرسَلَتْ إليها صعقةً من دفقِ فِتنَتِها.. فَتَّتَتْها ومَشَتْ... كانتْ تَلِفُّ إِزارَها حول قِوامها بمهارةِ الطَهرانِيّات، فَتُبْرِزُ من مفاتِنِ الجسدِ، ثَنْيَاته ومُنحنياته أكثرَ ممّا "تَستُرْ"، خاصةً ذلكَ الإمتلاءُ الحلوُ عندَ الصدرِ وضِيقُهُ نزولاً عند الخصرِ، ثمَّ تلكَ الإستدارة الساحرة لِما تحته، ممّا يشي بقوامٍ مُتقَنُ "الصَنْعَةِ"!.. مشيةٌ مِغناجٌ، تُشَعلِلُ ما ظَنَنْتَ أَنَّ سنواتِ الجَبَلِ أيبَسَته.. صَرَخَ بها إيهاب، وقبلَ أنْ تَتَوارى، أطلَقَتْ ضحكةً صغيرةً تفوحُ غَنَجاً.". (الرواية ص 284).

ينظم المُطارد قصيدة عن "الفاكهة" الدانية قطوفها. عن الغنج. الدعوات لتمالك النفس. التَماسَكِ والتصابَرِ. يُخاطب الذات، بقوله: إطرح شيطانك وتريث. ينصب كمائنه لإقتناصِ نظرةٍ خَفِيَّةٍ نحو سعيدة. يرتفع نِباحُ الشهوةِ. يهزم الجسد المتعب. عند الوليمة تسحَبُ سعيدة جزءاً من إزارها فتُغَطَّي وجهها، وتميلُ بجسمها قليلاً ناحيةَ اليسار. حركةٌ مُحتَشِمةٌ، حتى لا يرى الغريب فاهَهَا عندما تأكل.

تتواصل عمليات رسم حركات وإيقاعات وقياسات متخيلة عن أميرته الجديدة: "ستَفَرِشُ لكَ سعيدة في الَمَمَرّ، قريباً من الغرفة الوحيدة في "الدار" حيث ستُلقي بتَعَبِكَ،هُمومكَ ومخاوفِكَ على فَرشَةٍ بسيطةٍ فوقَ حصيرٍ.." ... سيقولُ لكَ إيهاب أَنَّ عليكَ أَنْ تأكلَ وتشربَ جيداً، طالما أَنه متوفِّرٌ، لأنَّ مشقّةً كبيرة ستنتظركَ غداً، عند العبور، وما بعده... وقبل أن يخرجَ، سيخبركَ أنه ذاهبٌ لإستطلاع المنطقة والحدود وتهيئةِ ما يلزم لليوم التالي، وإذا ما حدث طاريءٌ، عليكَ بزريبةِ البَقَر !...". (الرواية ص 286 ـ 287).

"ستراها جنبكَ، تملأُ كأسَ الشايَ. وعندما تَهِمُّ تُقَدِّمه لكَ، ينفَلِتُ إزارُها، الذي كانت تُمسِكه تحتَ الحِنْكِ، يَتَدحرَجُ الصمتُ، حتى يستقرَّ في حِجرها.. فَتُطِلُّ قُبَّرَتانِ، نافرتَين بنَزَقٍ من باحَةِ بَلّورٍ.. فالمسافةُ بينَ حلمتينِ هي المسافةُ ذاتها بينَ قُبلتينِ.. خطيئتين". (الرواية ص 286). "تَرتسِمُ على مُحيّاها ظلالُ إبتسامةٍ حَيِيَّة، فيها من الدعوة أكثر من الصَدّْ.. تَدنو منها، فَتَقولُ: "نيست، نيست" (كلاّ، كلاّ).. وتروحُ تَهُشُّ الهواءَ بيديها، لكنَّ الغولَ بداخلها يدفعها نحوكَ، فَتَتَمنَّعُ بغنَجٍ يُجنِّنُ أُمَّةً. (الرواية ص 290). وبعد تسجيل دقيق يملك من الجمال والقوة كل ما يدهش، ويقرب المسافات، ويملأ الجو حركة وحياة. تاهت وضاقت المسافات بينهما في عالم واقعي أو متخيل.

قد تبدو تلك القصائد مجرد حلم ضائع. إذا لم يقرأ الخيال الخصب جيداً: "إنِزَلَقَتْ إلى جانِبِكَ، تَتَنَهَّدُ مُهَشَّمَةً، مُقَطِّعةَ الأنفاس.." وهنا تشي العبارات بأن صاحبنا يحلم ليس إلا: "صَحَوتَ منقوعاً بعرَقٍ باردٍ، تَرتَعِشُ من رؤياكَ، كأَنَّ أَحَداً ضَبَطَكَ مُتَلبِّساً بحُلمٍ، فما عَرِفتَ كيف تَتَّقي سِهامَ "التُهمة"!.. أنتَ الذي يهوى تُفاحَ الغواية.. كاهن المغامرة والغربة.. مَنْ حفِظَ أرصفَةَ الوحشة وأدمَنَ الرقصَ على شَفيرِ المدى!.. (الرواية ص 296).

يردع اليقين فيما قد تسرب من شك، بأن اللقاء والإنصهار مع سعيدة. لم يكن مجرد حلم لمحروم لم يرتو بعد ليوغل في القول: إيهاب "أيكونُ الآنَ خَلَعَ رجله الخشبَ وإنكفأَ عليها؟!.. أتُراه الآن يتهجّى رائحةً غريبةً في جسد سعيدة، مثلما يتشمّمُ الذئبُ رائحةَ الطريدة؟!" (الرواية ص 299). ثم يعود الى سيرة التيه وإنعدام المسافة بين اليقين والتخيل والحلم. إن الذكريات قد تذوب ولكنها لا تدفن.

قد تبدو الصورة غير متكاملة عن الشخصيات النسائية في الرواية. دون الإشارة هنا الى أن المرأة لم تعامل فيها كمجرد جسد. حتى من هذه الزاوية كانت اللمحات الجمالية مؤنسة وعفوية الإنسياب وجميلة النحت والصياغة. وعلى الرغم من أن هذه الحلقة تناقش المصادفات النسائية خلال رحلة العذاب. فحتى في هذا الجانب كان للمرأة تقديراً كبيراً. حين يصف الواقع أو خلال مداهمات الأحلام أو التجاذبات بينهما. والمرأة في الرواية هي صاحبة القرار في نوع التواصل. وهي التي تقرر المواصلة أو القطع. كما كان شأنُ المرأة هاماً ورفيعاً وحميماً. وقد تم تناول الموقف من المرأة الأم والزوجة والبنت والصديقة ورفيقة الواجبات الحياتية والإنسانية في الحلقات الأخرى.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار