الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الاقتصاد الريعي

مازن كم الماز

2019 / 12 / 12
الادارة و الاقتصاد


منذ بعض الوقت كتب أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة د. عمرو عادلي يقول أن الفساد و المحسوبية التي يقال أنها السبب المباشر وراء الاحتجاجات الأخيرة هي نتيجة أكثر منها سبب , نتيجة لأن كثير من دول المنطقة و العالم الثالث ذات اقتصاد ريعي يعتمد على مورد وحيد مرتبط بالخارج : نفط , مساعدات أو ديون خارجية , تحويلات العمال في الخارج الخ .. ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها أحد عن الاقتصاد الريعي في العالم الثالث , فقد استخدمه الاقتصادي الإيراني حسين مهدوي في مقالة عام 1970 ليشخص حالة الاقتصاد الإيراني وقتها الذي كان تحت هيمنة الشاه كما نعرف و ليحاول أن يفسر لماذا لا تثور الجماهير الإيرانية على حاكمها .. حسب مهدوي هذا و آخرون فإن الريع المرتفع الذي تستولي عليه السلطة يسمح لها بناء شبكة من المحاسيب و المرتزقة تتيح لها استقلالية كبيرة عن القاعدة التحتية أو عن المجتمع و استقرارا مؤقتا رغم أنه يبقى عرضة لهزات كبرى بالطبع الخ .. كان آدم سميث قد سبق مهدوي و عادلي إلى القول بأن الريع هو الدخل الذي يحصل عليه الفرد دون أن يزرع أو يحصد , اي الدخل الذي يأتي دون بذل أي جهد أو عمل .. و جاء بعده جورج قرم ليقول أن الاقتصاد الريعي هو اقتصاد يعتمد أو ينحصر في ميادين و قطاعات ذات ربحية عالية "دون أي نشاط إنتاجي أو إبداعي يذكر" .. و كالحديث عن أي شيء في هذا العالم , قد يتسبب الكلام عن الاقتصاد الريعي ببعض المشاكل لبعض الناس , في هذه الحالة لنا نحن .. قد يمكن اعتبار بلدان مثل السعودية و قطر و العراق و الجزائر و لبنان تعتمد بشكل كبير أو كامل على مورد وحيد و مرتبط بالخارج بأنها دول ريعية أو ذات اقتصاد ريعي .. حتى دولة لم تتأسس بعد كالسلطة الفلسطينية و أخرى تقول أنها ما تزال في طور الثورة كالثورة السورية و كل ما حررته من سوريا , تعتمدان هما أيضا بالكامل على المساعدات الخارجية و في كثير من الأحوال على ما يشبه التسول .. و قد يقول بعض من يحبون الاصطياد في المياه العكرة أن المساعدات الضخمة التي تحصل عليها مصر و الأردن بسبب مواقفها و خدماتها العسكرية و السياسية قد تصنف على أنها موارد ريعية أيضا .. و إذا وضعنا كل هذا إلى جانب تشخيص ابن خلدون لدولنا على أنها دول عصبيات تصعد ثم تزدهر و تسقط أخيرا أمام عصبية أو عصبة منافسة , فقد يذهب نفس محبي الصيد في مياهنا العكرة إلى أن بلادنا و دولنا ليست إلا دولا ريعية تتنافس فيها جماعات مختلفة , أهلية , طائفية , سياسية , شعبية , عشائرية على السيطرة على الدولة التي هي مجرد غنيمة يريد الجميع الاستيلاء عليها و على مواردها لبعض الوقت قبل أن تنجح مجموعة أو جماعة أو عصبة أخرى في الاستيلاء عليها و هكذا .. الحقيقة أن كثير منا , مثقفين و ناس عاديين , يشعرون بحساسية كبيرة من هذا المصطلح : الاقتصاد الريعي و الدولة الريعية , قد يكون الإخوة و الرفاق الأردنيون من أكثر هؤلاء الذين يرفضون إلصاق هذا المصطلح ببلادهم , و تجد كذلك مثقفين و صحافيين كويتيين يستنكرون تطبيق هذا التعريف على الكويت و يستخدم كثير منهم الاحتجاجات الأخيرة في العراق و لبنان و الجزائر و احتجاجات أصغر في الأردن و غيره كبرهان على كلامهم .. طبعا نعرف جيدا أن كلام مهدوي لم يكن صحيح تماما ففي النهاية ثار الإيرانيون و جاؤوا كما نعرف جميعا بعصبة أخرى حلت مكان الشاه في الاستئثار بعائدات النفط و قمع احتجاجات المهمشين و المتضررين من الشكل الحالي لتوزيع تلك العائدات أو الريع , ما يسمى اليوم بنظام الملالي , ما كان الثورة الإيرانية قبل أربعين عاما .. لكننا خلافا للكثير من المثقفين من غير بني جنسنا و عشيرتنا نملك حلولا لكل شيء , إذا بدت مشكلة ما عويصة و غير قابلة للحل لصالحنا يمكننا بكل بساطة تجاهلها و إنكارها .... هكذا تحول اليسار العربي أو ما تبقى منه أو ما نتج عنه , من شعار : من كل بحسب قدرته و لكل حسب عمله , إلى شعار أكثر انسجاما مع واقعنا العربي : لكل حسب نصيبه "العادل" من الريع العام , نقطة انتهى .. هذا لا يعني أن أحدا ممن يعيشون في دول ريعية و يحصل أو يطالب بالحصول على نصيبه العادل من الريع العام , قد توقف عن شتم العاهرات و مدمني الكحول و المخدرات و كل من يعيش على كيفه أو على طريقة البوهيميين بأنهم طفيليون و قليلو الأدب و الأخلاق , بالعكس تماما , هناك فورة أخلاقية عامة , الجميع تقريبا يتحدث عن قيمة العمل و العدالة و الأخلاق و القيم و المجتمع كقديسين , كشيوخ , بذقون أو بكرافتات .. يذكرنا هذا بالعهد البريجنيفي عندما كان المهم هو أرقام الإنتاج المسجلة على الورق التي ترفع للقيادة , عندما كان العمال الروس يتصنعون أنهم يعملون بينما كانت دولتهم العتيدة تتصنع أنها تدفع لهم , في مثل ذلك الوقت حكم النظام البريجنيفي على الشاعر جوزيف برودسكي عام 1964 بالسجن خمس سنوات بتهمة التسكع و التطفل و عدم القيام بعمل مفيد اجتماعيا .. في الحقيقة إذا استثنينا صهر ماركس بول لافارغ , القرنسي من أصل كوبي و الذي أنهى حياته منتحرا مع زوجته لاورا ماركس خوفا من الشيخوخة الأمر الذي أثار عاصفة من الاستهجان بين تلامذة ماركس و مريديه , و بعض الماركسيين الإيطاليين و غيرهم الأقرب إلى ما يسمى بالماركسية التحررية , فإن الماركسيين لم يدعوا إلى الامتناع عن العمل , بالعكس تماما .. رغم انتقاده للعمل في ظل الرأسمالية فإن ماركس عرف الإنسان حسب أسلوب الإنتاج و علاقات الإنتاج السائدة .. لسنا إلا منتجين , حتى غير المنتجين هم بالتأكيد ممن يعيشون على القيمة الزائدة المنتزعة ممن يعملون .. ليس الإنسان إلا جزءا من ماكينة الإنتاج أو علاقات الإنتاج .. مع ذلك يبدو من الصعب الحكم ما إذا كان من الممكن اعتبار استبدال اليسار العربي و العالم ثالثي شعاره القديم "من كل بحسب قدرته و لكل حسب عمله" بشعارخ الجديد "لكل حسب نصيبه العادل من الريع العام" على أنه تطور جديد في فكر و ممارسة هذا اليسار أم لا , عندما حكم ماركسيون روسيا و الصين و ألبانيا عاشوا حياة الأباطرة و الرأسماليين الذين اعتادوا على وصفهم بالطفيليين الذين يعيشون على عمل الطبقات الأدنى .. لكن ستالين و لينين و بريجنيف لم يكونوا وحيدين في محاربة المتسكعين و المتشردين و العاهرات و مدمني الكحول , كل من يوصفون بذوي السلوك المعادي للمجتمع .. النازيون أيضا اعتقدوا أنه يجب التخلص من كل من يشكل عبئا على الآخرين الذين يعملون بجد كالمصابين بالصرع و المرضى النفسيين و مدمني الكحول , كل من يرفض العمل لصالح المجتمع و كل من لا يستطيع أن يعمل .. حمل سجناء معسكرات الاعتقال و الموت الجماعي النازية من ذوي السلوك المضاد للمجتمع أي رافضي العمل إشارة سوداء .. أما العاهرات فقد استخدمن للترفيه عن الجنود , ما عدا ذلك كان مصيرهن كمصير بقية أعداء المجتمع و رافضي العمل لصالحه .. اعتقد النازيون أيضا أن الشعوب التي لا تملك وطنا يجب إبادتها هي الأخرى كاليهود و الغجر .. الفارق الأهم في حالة العاهرات و مدمني الكحول و المخدرات و من يعيش أو يفضل حياة التشرد و التسكع على حياة العمل عمن يعيش على حصة تكبر أو تصغر من الريع العام , هو أن العاهرات و المدمنين و المتسكعين يوجدون و وجدوا على الدوام بغض النظر عن وجود اقتصاد ريعي أو لا , و أنه رغم أن الغالبية في الدول الريعية لا تعمل شيئا بالفعل لكن تلك الغالبية تشعر بأنها تملك الحق في محاكمة الآخرين أخلاقيا و حرمانهم من نصيبهم العادل في الريع العام لأنهم مدمنون أو متسكعون أو عاهرات و ترفض بغضب أية مقارنة بينها و بين العاهرات و المدمنين و المتسكعين و أنه رغم كل الثورات و في كل الثورات لا يحسب حساب هؤلاء في أي توزيع جديد للريع العام أو للدخل يهدف كما يقول أصحابه إلى توزيع أكثر عدالة .. و أن هذا التوزيع سينتهي عاجلا أم آجلا بتوقف الحكام الجدد عن العمل , هذا إن كانوا يعملون أصلا , و إلى حصولهم على الجزء الأكبر من الريع العام , بانتظار الثورة القادمة .. كما قال جورج أورويل , كل الحيوانات متساوية , لكن بعضها أكثر مساواة من بعضها الآخر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا سرعت كوريا الشمالية في إنتاج السلاح النووي؟


.. عمال المحارة الترند عملوا فيديو جديد .. المنافسة اشتدت فى تل




.. أسعار الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024


.. الأسبوع وما بعد | قرار لبوتين يشير إلى تحول حرب أوكرانيا لصر




.. بنحو 50%.. تراجع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل