الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 5

دلور ميقري

2019 / 12 / 12
الادب والفن


في الخريف المستهل سبعينيات القرن التاسع عشر، بينما الموجة الأولى من الأمطار تهاجم السفحَ لتطرد آخر المصطافين المتنعمين، القادمين من دمشق، كانت والدة سارة تهنئ نفسها بالحصول على الحرية مع طفلين في كنفها. حقاً إن طليقها سبقَ واستفاد جملة وافرة من المال، بعيداً عن رقابة صاحبته، لكنها لم تفرط بأيّ من أملاكها وعقاراتها، سواءً المورّثة من الأم أو الأب. هذه المرأة، القوية الشكيمة والشديدة المراس، لم تكن على الأرجح لتقدّر ما سجّلته من مآثر وهيَ في ذلك العُمر الربيعيّ، قياساً إلى حالة ندّاتها في السفح الآخر؛ أينَ ولدت ونشأت كابنة لأسرة كردية من الوجهاء، اختار قطبها أن يلوذ في حمى الزبداني كي يؤسس فرعاً جديداً من سلالته قبل أن يتوسد جثمانه ثراها.
سأتدخل هنا، كالمتطفل، على هامش سيرة والدة جدتي لأبي، لأعقد مقارنة بينها وبين النبيلات الروسيات، المُعرَّفات أدبياً ب " نساء تورغينيف "، اللواتي لم يُظهرن سوى في الريف ما حُبينَ به من موهبة وإرادة ودهاء ومكر!

***
شوكة كأداء، كانت ما تنفك منغرسة في ظهر أديبة، وعليها كان أن تتفرغ لها الآنَ بعدما ظفرت بقضية الطلاق وحضانة الأطفال. في هذا السبيل، أوحى لها ذهنها أن تشيع على الملأ قصة أرملة الأب مع عشيقها، بوصفها واقعة زنا كانت سبباً في قرار القاضي، المعلوم. الزوجان العاملان في خدمتها، المربية والبستانيّ، كلاهما أخذ على عاتقه نشرَ الخبر في البلدة كونه من ساكنيها الأصليين والأقدر على فهم العقلية المحلية. مثلما ينفذ ضوء الشمس من خلال سحب الخريف، كذلك كان حال الحكاية الشائنة التفاصيل، التي راحت تنتقلُ في البلدة من فم لفم، وصولاً إلى سمع والد حوريّة. فيما سلف، كنا قد نوهنا بما اتصف به هذا الفلاح البسيط من شيمة الكرامة والاعتداد بالذات، وذلك بملء شرطه على رمضان آغا لما جاء ليخطب ابنته الوحيدة. ردة فعل الرجل، فيما يتعلق بقصة ابنته وعشيقها، كانت فورية واتسمت بالصرامة ـ كما نمى لغريمة حوريّة، استناداً لمعلومات من العم عمر. هذا الأخير، كان ما زال في وهم الأرملة أنه في خدمتها ويواظب على مخاتلة سيّدته.
استدعى إذن الرجلُ الملول ابنته، ليفهم منها ملابسات تلك المزاعم الماسّة شرف الأسرة. تفطنت المرأة بذكائها، إلى أنها أضحت مثل ظبية محاطة بوحوش مفترسة. فلم تجد سبيلاً للنجاة، إلا في إنكار أيّ علاقة ربطتها برجل خارج إطار الزوجية. وإذا الوالد يفاجئ الابنة بطلبٍ ملح، وهوَ أن تترك منزلها كي تأتي لتعيش في مسكنه مع طفلها. فيما كادت تغلق بابَ النميمة، فُتِحَ لها بابٌ آخر وهذه المرة سيُفضي لتأكيد نصر غريمتها وما يتبعه من شماتةٍ وتشفٍّ. لكنه طلبٌ لا راد له، وعليها كان أن تتقبله صاغرةً. رجت والدها أن تُمنحَ مهلة من الوقت، لتتدبّر أمرَ الانتقال من منزل إلى آخر. في حقيقة الحال، أنها شاءت بذلك الانفراد خفيةً مع عشيقها بغيَة محاولة الخروج من المأزق. هذا ما تحقق لها بعد بضعة أيام، حينَ تسلل السيد سليم إلى بيتها.
البستانيّ العجوز، في المقابل، أخفى عن أديبة سر اللقاء. وكان ذلك، عقبَ تمعّنه جيداً في عواقب انفضاح ستر العشيقين مع دليل ملموس: بمكره ودهائه، أيقنَ أن الفضيحة ستترافق بجريمة على أغلب تقدير، وأن التحقيق لا بد ويكشفَ أمر تورطه فيها ولو بشكل غير مباشر.
ما لم يعلمه العجوز الماكر، أنّ حوريّة المجروحة القلب والكرامة، وصل إليها عبرَ شخص آخر غيره، خبرُ استعانة غريمتها بالوجيه الدمشقيّ، طراد آغا، وذلك للوساطة عند القاضي. كان الوقت بداية الخريف، وقد أملت الأرملة الجميلة أن تتصل بالآغا، بطريقة ما، قبيل عودته إلى الشام: حدسها كامرأة، أوحى لها أنّ أديبة ربما تفكّر بذلك الرجل المزواج ـ كقرينٍ مناسب، تستعيد من خلاله الاعتداد بالذات بعدما خانها الرجلُ، الذي كانت قد تزوجته وفرت معه برغم أنه من خدم والدها.

***
من ناحيته، كان سليم يأمل أن يجمعه بأرملة سيّده مجدداً مخدعُ العشق والوصال. لكن حوريّة، للسبب المذكور آنفاً، صدّت رغبته وليسَ بغير قليل من الازدراء. وضعته بعدئذٍ في صورة الحال، وأن الحل الوحيد أمامهما هوَ الافتراق نهائياً. ارتاع العشيق من الفكرة، مبدياً استعداده للذهاب منذ الغد لخطبتها من والدها. قالت له حوريّة بنبرة ساخرة: " تأخر الوقت، ولن تفعل شيئاً بذهابك إلى أبي سوى توكيد حكاية الزنا! "
" إذاً نتقابل على فترات متباعدة، لحين أن تقطع ألسنة الوشاة وتنسى الحكاية؟ "
" لِمَ لم تفكّر بحل آخر، أنتَ مَن كانت لك سابقة الهروب مع الحبيبة والزواج بها في سرغايا؟ "، تساءلت بدَورها وبنفس اللهجة المتهكّمة. أجابَ بعد وهلة صمت، ضائعاً محتاراً: " بوسعنا ترك البلدة إلى مكان أبعد، لا يُخامر الشك أحداً بوجودنا فيه. وأعني الانتقال إلى الشام، بعد بيعنا ما نملك هنا في الزبداني "
" على علمي، فلا أملاك لديك هنا أو في أيّ مكان آخر؟ "
" لديّ المال، لكنني أطمح للمزيد منه كي يتسنى لي العمل بالتجارة في دمشق "، قالها متلعثماً ومتضايقاً أشد الضيق من طريقتها في الكلام. بقيت نظرتها تجول في سحنته ملياً، قبل أن ترد بحسم وشدة: " لستُ في حاجةٍ للمال ولا لصاحبه! أريدُ رجلاً، وليسَ شبه رجلٍ يخون امرأته الشابة، ابنة سيّده، التي هربت معه وكان من الممكن أن تفقد حياتها لا أسرتها حَسْب ".
ذلك، كان اللقاء الأخير للعشيقين، اللذين افترقا وكل منهما يحمل الضغينة والحقد على صاحبه. حوريّة، عقبَ اجتيازها للمحنة، راحت إذن تخطط بهدوء للانتقام من ابنة زوجها الراحل؛ ممَن كانت سببَ كل ما حاق بها من مشاكل، غبَّ ترملها، إن كان بخصوص الإرث أو الأقاويل الملوثة للشرف، المؤدية لتخليها عن منزلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ