الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لَم تلتَفِت

علي الكرملي

2019 / 12 / 12
الادب والفن


كانَ جالِساً (يتَقَهقَه) مع أصدقاءه، حيثُ لم يكُن يعرف غير الابتسامَة التي لا تُغارق شفتَيْه حَتى هذيكَ الصباح. طَلَّت بِفُستانِها الأزرَق، كَـ فَراشَةٍ حائمة. أبصرَت عَيناه، انصَكَّت أسنانه، وانطبَقَ فمُه، مُنذَهِلاً مِمّا رَآه.

كانَت عيناه تُلاحِقُها، تُلاحِقُ وَجهها (المَلائكي)، ارتعَشَت كل مَفاصل جسده وهي تقترب من طاولته، لَم يُصدّق ذلك، وصلَت إليه، لكنها سُرعان ما انعَطفَت يميناً، سحبَت كُرسيّها وجلسَت تُقابلُ رفيقتها. ارتاحَ قلبه الذي لم يعرف من قبل سرعَة في النبض كما تلكَ اللحظَة.

نظرَ (يُمنَةً ويُسرَةً)، الكُل منصَبٌّ نَحوَها، كأَنّها أصبحَت قبلَتُهُم أو كعبتُهُم، حتى من يُجالسانه على طاولَته، غارَ منهُما ومن كل من في النادي، لكنها غيرَةٌ صامِتَة، سارِحاً يُفَكّرُ فيما جعلَهُ يفكّرُ فيها، وهو الذي لم تلفِتهُ أُخرى قَبلها.

بينما كان مُنغَمسا في سرَحانِه، فجأةً يلحَظُ صديقته تُجالسُهُ ومعَها هي! ولا في العجَب، كما ولا في الأحلام! بل حلسَت في الكرسيّ الذي يُلاصقُهُ، قبلَ أن يتفوّه بشيء قالَت له صديقته، إنها ابنَةُ أيامها الأولى في الجو الجامعي، في صفها الأول، وتحتاجُ لمُساعدَةٍ لم أجِدها في غيرك.

”أستاذها طلبَ منها كما من بنات وأبناء صفها كتابة خبر صُحفي، بعد أن زودهما ببعض التفاصيل، ومحاضرتها بُعيد دقائقٍ عشر، هي لا تعرف الكتابة الخبرية بعد، لا أحدُ غيرَك يُنقذُها“. كتبَ لها الخبَر، شكرَتهُ بخجَلٍ مع ابتسامَةٍ أَخّاذَة، وراحَتا.

لا يدري إن كان كل ذلك حقيقة أم مَحضُ خَيال، كما لا يدري ما الذي أَصابَه، انعزَلَ من دُنياه كُلّها وبقى مُنهَمِكاً فيها، لا ريبَ أنَّهُ وقعَ فيها، أعجبَتهُ وسرَقتهُ من نفسه! في تلك اللحظة بالذات، اكتشَفَ أنهُ لدَيه قلبٌ وعَواطِف، لم يكُن يُؤمن بكل القصص العاطفية قبل ذاك، لكنها هي من جعلَتهُ يُؤمن!

في النادي، وبُعَيدَ المُحاضرَةِ الأولى، في استراحَةِ ما بينَ المُحاضرَتين، بينما كان يرتشِفُ شايَهُ بِراحَتِهِ، لمَحَها تركضُ نحوَهُ كالطفلَة التي تُسرعُ لمُعانقَة أبيها، تركَضُ وابتسامَتُها تكاد تطيرُ إلى الأَعالي! ”شُكراً منُ القُلب، أعطاني الأُستاذ (٥ من ٥) على خبَري الذي كتبتَه، مُتفوقَةً عليهم أجمَعين، لا أحدَ تعدى الثلاثَة“، قالَتها بكُل حُبٍّ ورحلَت.

كانَ ذلكَ في إحَدِى أُصبوحات كانون الأول/ ديسمبر الأخيرة/ ٢٠١٧، كل شيء لديه تغيّر منذُ ذلكَ اليوم، صارَ عاطِفياً أكثرَ مِنَ اللازِم، لم يعد يضحَكُ بهيستيريا كما السابق، كما لم يعد يستمتع بالضحكِ كُلّهُ منَ الأَصل.

هيَ جميلَةً للحد الذي لا حَدَّ لَه، تمتلِكُ عينان خَضراوَان، لا تُضاهيهما أيّما عينان أُخرَيتان من بَنات لونها في هذه التبانَة! شُعرُها بُنّيٌ لَمَعانه يسرقُ العقول قبلَ القلوب، كأنَّهُ حَريرٌ نادِر، أمّا وجهُها، فنصفُه من عشتارَ الجنوب، والثاني من سميرا ميس الشَمال، سرقَت منهُن جمالهُن الذي يُنافسنَ بعضهن به، لتجمعهُ فيها وحدها.

كان يُديرُ صفحَة الكُليّة الرسميَّة، عثرَ على حسابها، وأضافها، لكن كيفَ يُراسلُها لأول مرّةٍ، وبِماذا يُسَطّرُ مفردته الأولى في الدردشة، قرّرَ أَن يُخصّصَ فقرَة يوميّة تحت وسم ”رسائلُ المُحبّين“ ينشر كل يوم بعض من رسائل من أحَبّوا، ممّن تَلاقوا، ولَم يتَلاقوا على حَد سواء.

منها ”رسائل ميلينا وكافكا“، ومنها رسائل ”جُبران خَليل ومَي زيادَة“، وغيرهُما من رسائل الشرق والغرب، ينشر تلك الرسائل طيلَة العُطلة الربيعية (منتصف السنَة) كُلّ مَساء، عبر صفحَة الكُليّة، عُلّقَت للصفحَة، وبدأَت تُعلّقُ على كل الرسائل، كانَت الصفحة ترُد على تعليقها بأسلوب مُتفرّد، دونما بقية التعليقات.

ما أثارَها اندهاشاً، أن اسمُ حسابها بدلَعِها، بينَما الصفحة ترد على تعليقها بذكر اسمِها الحقيقي، من أين لصفحة الكُلّية المعرفة باسمها؟ تتسائل مذهولَةً، انتهَت العُطلَة ومعها انتهَت فقرَةُ الرسائل. في أول صباحٍ من بعد العُطلَة، جاءَتهُ معَ رفيقتها، والابتسامة لا تُحاذي شفَتيها.

- هل أنتَ أدمنُ صفحة الكُليّة؟“.
- همممم، نعَم.
- حَدسي أصاب!
- ولكن كيفَ ذلك؟
- من تعليقاتك لصديقتك بنت صفّك الدراسي، كنتُ أُتابعُ تعليقاتك لها، هو ذات أسلوب التعليق الذي تقوم به صفحة الكُليّة.


ألقَت عليه التحيّة وراحَت، كان ذلك كافياً لأن يبدأَ رحلته في التحادث معها في غُرف الإنترنت، ازدادَت علاقتهما، وتوثّقَت صداقتهما، حتى جاءَت العُطلة الصيفيّة، التي فصلتهُما واقعياً، لكنها لم تفصلهُما افتراضياً، بقيَ يتواصل معها آخرَ كُل ليل، يتكلّمان بأشياء مُفيدة، وغير مُفيدَة.

جاءَ العام الدراسي الجَديد، جاءَهُ وهو يحمِلُ الأَسى، كما يحمل الفرَح، الأخيرَة الفرح بلُقياها، والتصبُّح بوجهها كُل إشراقة شمس. الأولى، يُفكّر ويتنهَّدُ كيفَ سيحتملُ فراقها بعد انقضاء العام، فهو في مرحلته الجامعية الأخيرة، أما هي في مرحلتها الثانية، لكنّهُ قرّرَ أن يعيش الأيّام هذه معها بكُل حَلاوَة.

أَيُّ حَلاوَةٍ أجمَل، من أن يكون أول يوم لهما في العام الدراسي الجديد، هو يوم ميلادها! أهداها هديَّة الميلاد، بحثَ عن فيلها الذي تُحِب، لكن لم يلقاه، فأَهداها قطَّةٌ لطيفَة، شكرَتهُ وشكرَتهُ وشكَرَته.

لم تمر أيام طويلة وإذا برسائلها تتدفّق عليه عند انتصاف الليل دونما توقّف، وإذ بها تُهنئهُ بميلاده، لم يكن يتذكّر أن هذه الانتصافة هي ليلة تولّده! كانت أول من تُهَنئه، مثلما أول من أهدَتهُ هديّة الميلاد! تلاصقَت علاقتهما أكثر من ذي قبل، حتى باتَت تجلب له الفطور الذي تعده بيدَيها الرَقيقَتين، كما يجلب لها فاكهتها التي تُحب ”الفراوِلا“.

راحَت الأيّام، وجاءَت الأيّام، وصارَت مُرافِقَته في كل المُناسبات الجامعية، رغم أنه من قسم وهي من قسمٍ آخر، لكنها كانَت ”الاستثناء“، يزُج اسمُها في كل ”الورشات، الحملات، والسفرات“، وبموافقات رسمِيَّة. قرّبَها من عميد الكليّة ومعاونة العَميد، حتى باتَت بمنزلتِه عندهُما وأكثَر، لدرجَةٍ أن العَميد في أحد المهرجانات، قبَّلَها من جبينها، أمام كل الجمع الغفير، ولَم يترَدّد.

لا يَنسى يومه الجامعي الأخير معَها، وَدَّعَها والدمعَةُ تلحَقُ الدمعَة، دون أن يجعلَ مجالاً منها لتلحظَ ذلك، ودّعها وقلبه يئن أنينَ المُشتاق لغائب منذ سنوات، رغم أنه لم تمر دقائق على ذلك. ولا ينسى عصر ذلك اليوم، حينَما كان يلعب ”الدومينو“ معَ أصدقاؤه، كانَت دموعه تنزل كالسيل الجارف، أغرقَت دموعه (خشبَةَ) اللعبَة، وكل فكرهم أنه يَبكيهم لفراقهم!

كانَ قبلَ كُل ذلك، يُصحيها من نومها عند الثالثة من كل فجر يسبق امتحانها، رغم أن أيام امتحاناته تخالفُ أيامها، لكنه كانَ حريصاً على ذلك، وكانَ يُراسلها قبل امتحانها، وبعد خروجها للاطمئنان على نتائجها، لم ينم في يوم راحته لأجلها، فيما اليوم التالي يوم اختباره، فلم يحظى بالوقت الكافي للنوم طيلة امتحانات الفاينل.

تخرّجَ، ونجحَت، استَمُرا بالتواصل وبالأحاديث، بل واستمرا في الورشات سوِيَّةً، لكن هذه المرّة إلكترونياً، كانَ يطيرُ فرحاً عند كل دورة تتمّها بنجاح باهر، وهو ليس بغريب عليها، فهي الأولى على دفعتها في المرحلُتين الأولى والثانية، وقبل ذلك كانت تدرس الهندسة.

”نبيَّةُ السَلام“، التي يُحب مُناداتها بذلك الاسم، التي نبُتَ الوردُ فجأةً يوم ميلادها، قرّرَت البُعد عنه دون سابق إنذار، كان ذلك في الأيّام الأولى من ثورة تشرين الثانية، وهُما اللذان كانا مُتواعدان على اللقاء في التحرير، تعذّرَت في وقتٍ مُتأخر من الليل، تفهّمَها، لكنها منذ ذاك ولَم تُكَلّمه قَط!

مرَّ /٣٨/ يوماً على بُعدها عنه، /٣٨/ يوماً، وهو مُواضبٌ على الكتابة والسؤال عنها يومياً، يكتب لها كل يوم، لكنّها تبخل عليه حتى في فتح رسائله وقراءتها. في ذات الوقت، هي أول من تُشاهد ”ستوريّاته“ التي ينشرها مذ ابتعادها، كما تَحُط ”اللايك“ أحياناً على منشوراته، لكنها لا تفتح رسائله!

شهرٌ وأسبوع، وقلبه المجروح، لا يعرف الالتئام، حسَرات، وآهات، ووَيلات، وونَّةٌ تجرُّ وَنَّة، أما دموعه ففاضَت غُرفته من فرطها! باتَ يوصلُ الرسائل لها عبر القصص الخاصة بالأصدقاء المقربين، بعد أن حذفَ كل المقربين من القائمة، وخَصّصها لها، حتى تَرى رسائله التي ينشرها لها - وحدها لا غيرها - طالَما لا تفتح رسائله.

ما يعز في قلب ذلك الفَتى، أنّها مضَت دونما توضيح أو سبَب، كيفَ لمثلها أن تكون بكل تلك القساوة، وهي التي قلبها أرق من كل بنات الأرض، وهي التي لا يُفارقُ القُرآن يديها كلما ذهبَت للتحرير؟! لكنّها مضَت دون أن تُديرَ بالاً للأيّام التي جمعتهُما، ذهبَت، وتركتهُ معَ آهاتهِ. رحَلَت، ولَم تلتَفِت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الفنان محمد عبده يكشف طبيعة مرضه ورحلته العلاجية


.. تفاعلكم | الحوثي يخطف ويعتقل فنانين شعبيين والتهمة: الغناء!




.. صراحة مطلقة في أجوبة أحمد الخفاجي عن المغنيات والممثلات العر


.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24




.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع