الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 1

دلور ميقري

2019 / 12 / 13
الادب والفن


طوال هذه الظهيرة من الربيع، تأرجحت سارة في مهدها، المعلق بوساطة الحبال إلى أحد أعمدة سقف الصالة. مع إكمالها العامين، لاحَ واضحاً أنها ستنشأ فارعة القامة حال فرع عائلتها من جهة الأب. على ذلك، لم يكن غريباً أن تخرج قدماها من بين أعواد المهد، المخصص أصلاً لمن هم في عُمر الرضاع. لكن البنت فطمت ولما تبلغ الستة أشهر، وكان ذلك بسبب شح حليب والدتها. وإنها الأم، مَن أمرت وكيلَ أعمالها الجديد بنصب المهد في الصالة كي تكون الابنة في مجال المراقبة وهيَ في مشاغلها بالمطبخ مع المربية. كأنما الطبيعة شاءت الإسهام في تسهيل إغفاءة البنت، بما كان من اهتزاز سقف الدار تحت ضربات الريح، المخترقة فجوات الجبال ـ كما مركبة خرافية، يقودها مخلوقات غامضة وأليفة في آنٍ معاً، يُعرفون على لسان العامة بالجن الأزرق.
في حقيقة الحال، أنّ فوزية خانم استأثرت بابنة جارتها في النصف الأول من أشهر الرضاع وكان الفصل صيفاً. ثديها كان ثراً، برغم بنيتها الضعيفة وكذلك تعبها النفسيّ، الناجم عن رحيل ابنتها الرضيع بأحد أمراض الطفولة. في الصيف المنصرم، قضت سارة أغلب الأوقات في منزل الخانم، وكانت بمثابة اللعبة الأثيرة لأختها بالرضاع، فاتي، ذات الأعوام الستة أو السبعة؛ تغير لها الملابس وتضفر شعرها وتهدهدها بأغانٍ مرتجلة. فاتي، ستبقى وحيدةَ الأم الملولة، لحين أن رزقت بعد نحو ثمانية أعوام بابنة أخرى: " نورا " هذه، مثلما ورد فيما مضى من السيرة، ستمنحُ بدَورها حليبَ صدرها لابن سارة الأصغر. أخت والدي بالرضاع، ستتزوج بمَن أضحى قائده العسكريّ المباشر أثناء فترة الانتداب الفرنسيّ، وكان مقر خدمتهما الأساس في الجزيرة. بعد تقاعد قائده، كان الوالد يزوره في منزل الزبداني، وكنتُ في غالب الأحيان برفقته؛ أقضي الوقتَ في ربوع بلدة جدتي، الخلابة الساحرة، وأيضاً باللعب مع أولاد حفيدة فوزية خانم!

***
في الأثناء، كان ابن أديبة يترعرع في عُهدة أبيه. برغم أن القاضي أعطى حضانة الصبيّ للأم، لكنها تنازلت عن ذلك تحت إلحاح الجد والعمة. لقد فكّرت في قادم الأيام، حينَ ستُجبر على التخلي عن الولدين للأب عند بلوغهما سن العاشرة: " وعندئذٍ سيردون لي الجميل، بأن يسمحوا لي بالاحتفاظ بالطفلة ". على أي حال، حافظت على علاقة طيبة مع أسرة الجد؛ بالأخص العمة، المتكفلة رعاية إبراهيم، وكانت تحبه كما لو أنه من رحمها. مع أن ضميرَ أديبة بكّتها ذات مرة، فأبدت أمام المربية ندمها لإهمال الصبيّ، فإنها لم تغيّر من سلوكها فيما بعد: كانت تنشغل عنه لفترة تتجاوز أحياناً الشهر، لتتذكره من خلال ورود اسمه على لسان آمنة أو سواها. تهرع عند ذلك بنفسها لتأتي بالصبيّ المسكين إلى منزلها، الذي أضحى بالنسبة له بمثابة الميتم. إذ لم يشعر آنذاك بالراحة سوى تحت سقف الجد، وكان بدَوره يعتبر العمةَ بمقام الأم.
صبيّ آخر، يمت لأديبة بصلة الدم، غفلت عن وجوده تماماً مذ أن جاء إلى الدنيا قبل حوالي أربعة أعوام. " رمضان "، ابنُ حوريّة، شاءت هذه أن يأخذ اسمَ أبيه طالما أن الرجلَ رحلَ عن العالم دون أن يراه. ما علمناه قبلاً، أنّ الأم خابَ أملها في موضوع الميراث وكانت معولة عليه بإنجابها ولداً ذكراً. ثم تتالت هزائم حوريّة، وآل وضعها النفسيّ إلى شبه الانهيار، ما جعل الصبيّ ينشأ بعيداً عن عاطفة الأمومة. شأن ابن أخته، إبراهيم، وجد هوَ الآخرُ سنداً مكيناً تحت سقف الجد. هذا الأخير، كان فيما مضى قد انفتحَ على أقارب حفيده، وتحديداً والد السيد سليم. كونهما من نفس الجيل تقريباً، ويعيشان ما يُشبه حياة المتقاعدين، فإن علاقتهما توثقت. ثم دب الفتور بين الرجلين، على خلفية الإشاعة المشينة، الملوثة اسمَي ابنيهما بالزنا والفجور. بيد أنّ الأقاويل أخذتها رياحُ أول خريفٍ تلا هبوبها، ولم يثبت أي شيء يشوب مسلك المتهمين. على ذلك، أعاد الجدان العلاقة الودية فيما بينهما إلى سالف عهدها، وبقيا يعدان نفسيهما قريبين أكثر منهما صديقين.

***
حورية، في المقابل، لم يتقبل داخلها المنهار فكرة التسامح ونسيان الإساءة. حقاً إنها لم تستطع منع أبيها من استقبال والد عدوها في المنزل، وتبادل الزيارات معه، لكنها أصرّت على إبعاد رمضان الصغير عن ابن أخته. من ناحية أخرى، كان القهر يأكل قلبها فيما ترى ازدهار حالة غريمتها، يوماً بعد يوم، عقبَ دخول شاب متعلم من البلدة في خدمتها كوكيل أعمال. بينما ظل طليق أديبة يراوح في مكانه، مع أنه أخذ على عاتقه أمر الإشراف على أرض أبيه الخصبة. كان من شأن ذلك أن يخفف حقد عشيقته السابقة، لولا أنها اعتبرته المسئول عن تلويث سمعتها في البلدة.
أول من تأثر بالإشاعة الماسة شرفها، كان الوجيه الدمشقيّ، طراد آغا. كانت تعده ليسَ فقط الشخص الوحيد، المناسب لها من ناحية الجاه والثروة، وإنما فوق ذلك الأداة التي ستسحق من خلالها غرورَ غريمتها. ما آلم حورية أكثر من أي شيء، أنها عرضت نفسها على الآغا عن طريق ما يُسمى بلغة ذلك العصر " مرسال الغرام ". وكما ينقلب السحر على الساحر، كانت الصدمة من نصيبها هيَ. مع مرور نحو عامين على الموضوع، تخفف قليلاً من كرب داخلها. لقد تأكد لها أن طراد آغا ليسَ في وارد التفكير بأديبة، بل ويبدو عازفاً تماماً عن الزواج من جديد.

* مستهل الفصل الخامس/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي


.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح




.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ