الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 2

دلور ميقري

2019 / 12 / 14
الادب والفن


عقبَ زواجها بنحو خمس سنين، أدهشت سارة آل أبيها بنسيانها تقريباً للغة العربية، وكان ذلك حينَ سُمحَ لها بزيارة بلدة الزبداني كي تحضر مأتم الجد. في حقيقة الحال، أن اللغة الكردية كانت أليفة لسمعها مذ أن كانت في ربيع أعوام العمر. لم يكن للوالدة دخلٌ في الأمر؛ هيَ مَن لم تتكلم سوى باللهجة الشامية مع الابنة. وكان من الصعب، حقاً، التيقن مما لو أن أديبة استعملت لغتها الأم إبان وجودها في البلدة، على الأقل في فترة حياة والدتها. لكنها، في المقابل، ذكرت لابنتها أكثر من مرة أنّ الجد الراحل، رمضان آغا، لم يكن يتحدث سوى بالكردية مع جاره محمد آغا. أسرة هذا الأخير، كانت إذن معقدَ الإزار في أمر الإشكال اللغويّ.
الطفلة سارة، كما علمنا قبلاً، كانت تقضي أغلب فترة الصيف في منزل أولئك الجيران. ثمة، دأبت فوزية خانم على معاملة الطفلة كابنةٍ نهلت من حليب ثديها. الضيفة الصغيرة، لا بد أن سمعها المرهف كان يلتقط بعضَ الكلمات الغريبة، غبَّ فهمها ضمن سياق الحديث، ومن ثم تُختزن في الذاكرة. فاتي من ناحيتها، تُدين أيضاً في معرفتها للمحكية الشامية لصديقة الطفولة وأخت الرضاع. هذا، برغم أن ابنة محمد آغا كانت تمضي الفصول الأخرى من العام في حيّها الدمشقيّ؛ في حي الأكراد، الذي كان ساكنو القسم الشرقيّ منه لا يتخاطبون مع بعضهم البعض سوى بلغتهم القومية، بينما الكثير من أخوانهم في القسم الغربيّ كانوا على خلاف ذلك.

***
في صيف عامها الخامس، شهدَت سارة وفاةَ العم عمر، وكان بحَسَب قول أرملته قد تجاوزَ السبعين. خشيته من عذاب الآخرة، تغلبت في آخر المطاف على ما في شخصيته من إخبات وخبث. أرسلَ في طلب السيّدة أديبة، قبل دخوله في غيبوبة النزع الأخير. فما لبث أن اعترف لها بأنه تخامر ضدها مرةً مع طليقها وأخرى مع أرملة أبيها، فطلبَ منها بعدئذِ المغفرة بفم يرتجف تأثراً. لم تُصدم سيّدته تماماً، إن كان بسبب تقادم الزمن أو لمعرفتها بدخيلة أهل الريف، الغالب عليها المكر وشدة الحرص على المصلحة الشخصية. سوى أن اعترافه، أوقظَ ذكرياتٍ مشئومة كانت قد سلتها تقريباً مع ما كان من انشغالها بتصاريف الحياة اليومية ومشاكلها.
من جانبها، بادرت آمنة الموجودة في الأثناء إلى الإتيان بحركة ساخرة من عينيها. كأنها كانت تُدرك باعث الرجل للاعتراف، وذلك نتيجة خبرتها بأخلاقه على مر السنين. كانت ما زالت بأوج شبابها، وهيَ في أعوام عمرها المتجاوزة الأربعين بقليل، قضت معظمها مع زوجٍ لم تشعر نحوه بالمحبة أو الاحترام. كون صاحب الجثمان الطريّ مقطوع النسب، علاوة على مستواه الاجتماعيّ المتدني، لم تجد أرملته أحداً حولها كي تتكلّف أمامه دورَ المرأة المُفْجَعة برحيل رجلها. في اليوم التالي، بعيد إلحاد العم عمر، طلبت السيّدة أديبة من المربية الانتقال إلى مسكنها بشكلٍ نهائيّ. مثلما ذكرنا في مكان آخر، كانت آمنة تمضي في منزل سيّدتها أكثر أيامها وتنام في كثير من الأحيان في حجرة سارة. هكذا غادرت كوخها البائس أبداً، تاركة الرياح والأشباح تعبث بين جدرانه الخشبية، المتهتكة بفعل العثة والفئران.

***
بخلاص المربية من زوجها البرم والمتطلّب، وانضمامها نهائياً لأسرة السيدة أديبة، وجدتها هذه الأخيرة سانحة مناسبة كي تتفرغ للنظر في مصالحها بمساعدة وكيل الأعمال الشاب. ثقتها القديمة بالمستخدمة المترملة تواً، أفضت لأن تعهد إليها كل ما يتعلق بالابنة على مدار اليوم. ولم تتكدر فيما بعد أبداً، حينَ أخذت الطفلة تتعلق بمربيتها، حد أن تدعوها " ماما آمنة ". حق لها أن تستعيد عندئذٍ طفولتها، وكيف أنها تدين لهذه الإنسانة الحنونة بالكثير مما تتمتع به من المزايا الإيجابية ـ كالصبر والجلد والثبات على الموقف ـ الضرورية لمن هيَ في مثل حالتها؛ امرأة مطلقة، بلا أقارب تقريباً، وسط بيئة غريبة. إلى ذلك، كانت أديبة تعوّل على ذكاء المربية في الأخذ بيد الابنة إلى مرتبة ست المنزل، وذلك بجعلها تتعلم على مهل شؤون النظافة والمطبخ والحظائر والحديقة. في واقع الحال، أنّ المربية كانت من فترة طويلة تقوم بمعظم هذه المهام بدلاً عن سيدتها. في هذا المقام، لم تكن تلقي بالاً لسخرية الزوج، الذي اعتادَ في حياته على ترديد مثل هذا القول: " إنها تستغلك، تمص دمك مثل العلقة مقابل دراهم بالكاد تكفي أودنا ".
مع الماما البديلة، صارت سارة تجوبُ أماكنَ لم يصلها حتى صبيان البلدة الأكبر منها سناً. المغامرة، كانت تُقرر أحياناً عقبَ ملاحظة شك، بدرت في ليلة سابقة من الطفلة إثر سماعها حكاية مُساعدة للنوم؛ كأن تكون إحدى الخرافات، المتداولة بين السكان. عندئذٍ تعدها المربية ـ وهيَ بالطبع راوية الحكاية ـ أن تأخذها في اليوم التالي كي ترى المكان المطلوب، المفترض أن الواقعة الخيالية حصلت فيها. هكذا مرّت سارة من دير النحاس، أينَ التقى جدها رمضان آغا بالراهب العجوز واستمع منه لأسطورة الراعي، عاشق آلهة الشعر الإغريقية. في مناسبة أخرى، نهلت الماء من نبع كيبري، الذي كان وجوده في طريق الجد إلى الصيد سبباً في تعرفه على الفتاة الفاتنة، حوريّة؛ على مَن ستضحي زوجته ومن ثم أرملته وغريمة ابنته!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ