الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة إلى أمي

معاذ جمايعي

2019 / 12 / 15
الادب والفن


لم أجد أبلغ من الكلمات لأعبر لك عن عرفاني وامتناني لك بالجميل، وبكل ما قدمته لي من محبة وعطف وعناية طيلة الطفولة وإلى حدود هذه اللحظة. لذا أخذت القلم والورقة وقررت أن أكتب لك عبارات لا توفي حقك ولا تكفي لشخصك. أنت التي حملتني في أحشاءها تسعة أشهر وكلك استبشار وفرح لقدومي، واحتضنتني أيام الطفولة والصبا، وعلمتني معاني كثيرة للحياة، يا مدرستي الأولى.
اليوم وأنا شاب تجاوز عمري العقد الثلاثين، لا تنفك صورتك تفارق خيالي كل وقت وحين، بدءا بذكريات الطفولة وصولا إلى هذه اللحظة. وكم هي كثيرة الذكريات والأحداث، غير أني سأقتصر على ذكر بعضها، أي تلك التي تركت أثرا في نفسي وظلت محفورة في ذاكرتي.
لا أنسى أيام الطفولة عندما أمرض أجدك ساهرة بقربي لساعة متأخرة وكلك حيرة وألم لما أتعرض له من مرض. ولا أنسى أيام العيد، ويا لها من أيام. كنت تختارين لي أجود الثياب وأجملها، كي يكون ابنك وسيما وحسن المظهر. دون أن أغفل عن ذكر لعبة العيد التي هي بمثابة الغنيمة والرمز الذي يضيف بهاء للعيد ونكهة خاصة. وقتها كنت أفرح بلعبتي وأرتمي في حضنك في غمرات حب وقبل.
عشنا لحظات سويا، يوم كنا لوحدنا في البيت. والدي يعمل في المهجر وأختي تعمل ممرضة في العاصمة. كنا وقتها صديقين ورفيقين، نتقاسم أشغال البيت والاعتناء بالحديقة وورودها العطرة. فأنت من غرست الوردة الحمراء، ذات العبير المنعش. كنت أسقيها وأقول: هذه وردة وردتي. كنت ولازلت جيشي الوحيد وسندي الوحيد وملهمتي في الحياة. ولا أنسى أيضا دعاءك لي عند إجراء الامتحانات. كنت وقتها أدخل قاعة الامتحان وكلي ثقة أنه سهل. لأن في داخلي فكرة تقول: " لا يرد الله دعاء الأمهات". وظللت على يقين بهذه الفكرة وأنا أجتاز امتحانات الجامعة في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعاصمة، وأهاتفك قبل الدخول لإجراء الامتحان وبعده.
أماه، ضل العمر يتقدم وكل مرة أرى العالم بنظرة مغايرة. ولا أعلم هل هي نظرة نضج أم نظرة صدمة بسيرورة الحياة. فالعاصمة يا أمي تخضع لمقولة" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأنا ابن الجبل والمناطق الداخلية، اعتدت الفطرة والبساطة. لكن الوعي وصدمة الحياة جعلتني أوقن أنه ينبغي خلق وعي للوعي، أي أن وعي الحياة وحده غير كاف. فالطريق وعرة يا أمي. لذا، من الضروري خلق وعي إضافي يتماها مع مجريات الأحداث وسرعة الحياة الجنونية.
أذكر لحظة يا أمي لن تمحى من ذاكرتي، ولم يسبق أن حدثتك عنها. كنت يوما في المكتبة الوطنية أمرغ فكري بين مقولات العلوم الإنسانية وأشبع روحي بمعاني الكلمات والعبر، وفجأة أحسست أن شيء ما أطبق على صدري، كأن صدمة ما حصلت، ولم أعد أستوعب المكان والزمان، وامتلكني شعور كره للعاصمة التي طالما اعتبرت نفسي غريبا عنها. وجالت بخاطري عديد الأسئلة والقضايا. العمر يتقدم، لا شغل، لا دخل، لا استقرار، لا بيتنا الدافئ، لا حديقتنا الغناء، ولا وردة أمي الحمراء. أصارع الحياة في عاصمة مجنونة، الشارع فيها ممتلئ بالفخاخ، والوحدة تتربص بي بين الفينة والأخرى لتجهز على آخر نفس لي. عندها خرجت للساحة الكبرى أمام المكتبة، سحبت الهاتف من جيبي، ترددت، ثم هاتفتك. قلت لك: أماه.. ابنك يتألم، وصار يرفض كل ما هو محيط به، ويشتاق لحضنك الدافئ، وتعب من المعيش اليومي الفارغ الذي لا يحمل معه أي أمارات وبشائر خير للمستقبل، ولم أعد أجد طعما للحياة، وأنا أتجرع مرارتها يوما تلو الآخر وكأني مجبر على تناول العلقم مع كل إشراقة يوم جديد.
عندها أجبتني بكل لطفة وعناية وحكمة أمومة قائلة: بني.. لا تحزن، أنظر للجانب المشرق من الحياة. أنت شاب متعلم وجامعي، ذو أخلاق عالية وأنا سعيدة لما وصلت إليه من مستوى دراسي. يكفيني فخرا أنك مجتهد ولا تضيع وقتك فيما لا يعني مثل بقية الشباب. أنت سر سعادتي. فلا تأبه لصعوبات الحياة، لأن المثل يقول" محال دوام الحال". فلن يطول الأمر، ستشتغل، وتتزوج ويكون لك بيت ثان دافئ وأسرة تلتف من حولك، ويكون لك شأن كبير في الحياة، وهذا احساسي يا ابني الغالي، واحساس الأم لا يخطئ أبدا. بعد الشتاء يأتي الربيع، وستزاح كل الغيوم. عد لقاعة المطالعة وأنرني بعلمك في لقائنا القادم، فأنا أنتظر قدومك بفارغ الصبر لتحدثني ككل مرة عما اكتسبته من معارف جديدة. احرص على أن تنكب على دراستك، وألا تدع سبيلا للحزن ليخطف ابتسامتك من على وجهك يا بني، فهي تبعث في نفسي الحياة. اقطع مع الحزن واليأس وثق أن الأيام القادمة ستكون مشرقة. لذا، كن قويا عزيزا يا غالي.
عندها تماسكت وانبعثت في روحي الحماسة وقلت لك: حسنا يا سيدة النساء، من أجلك سأكون ناجحا، وسأعمل على أن أبعث في قلبك السرور عبر تفوقي في الدراسة.
ثم دخلت مباشرة لقاعة المطالعة بالمكتبة، والذكريات الجميلة تنهال علي، ذكريات أمي، صديقتي وسندي، ورفيقة الطفولة والصبى. رحت أتذكر كيف تعدين لي الطعام الشهي، وترتبي لي غرفتي بكل عناية، وتعمدين إلى اختيار ثياب متناسقة لي كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة، وكيف تقومين بالدعاء لي في كل صلاة، حتى أني أمازحك قائلا: هل ذكرتي اسمي عند الدعاء؟ أم كان دعاء في المطلق؟ فتضحكين قائلة: بل ذكرت الاسم واللقب.
اليوم يا أمي، تغيرت مجريات الأحداث المتسارعة والمتصارعة مع الأيام. صرت أشتغل والحمد لله، وازدادت تحديات الحياة. لكن أبشرك أني صرت أكثر صلابة من قبل، وأكثر تحملا للمسؤولية. وأني لازلت على عهدي ووعدي يوم أعلنت لك قائلا: "أماه، مثلما كنت صديقا لك في الأربعين ورفيقا في الخمسين، سأكون سند الستين وعكاز الثمانين. لن أخذلك أبدا يا غاليتي."
لك أن تفخري يا أمي أنك ربيت ابنا ثابتا على حب الوطن والأسرة والدين، وهذا يحسب لك، فأنت من زرع فيا هذه الخصال. وأقدم لك جزيل الشكر والامتنان على حسن تنشئتك لي يا مدرستي الأولى. فكل خطوة أخطوها وكل نجاح في الحياة أحققه، سيكون نجاحا لك أيضا، لكن بطعم آخر، وبرائحة أخرى، رائحة الوردة الحمراء، وردتي الجميلة.
أطال الله في عمرك وغمرك بموفور الصحة. دمت تاجا على رأسي يا سندي الغالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية