الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصافير هاربة من دق الصفيح الرواية داكنة والحياة متجددة وخضراء

سمير الأمير

2019 / 12 / 15
الادب والفن


عصافير هاربة من دق الصفيح
الرواية داكنة والحياة متجددة وخضراء

فى اعتقادي أن رواية " عصافير هاربة من دق الصفيح" الصادرة عن دار بدائل فى عام 2018 هى عمل فنى جدير بالقراءة، رغم تحفظى على مسمى " رواية" ففصولها هى قصص قصيرة على الأقل من حيث الشكل ولا يشفع للكاتب هنا أن الشخصيات ممتدة عبر الفصول، فليس ثمة " تواصل" حقيقى فاعل يجمعهم، رغم ما يتضح من كونهم مصابين " بمرض الكآبة المشترك" الذى يعجزهم حتى عن إقامة صلات فيما بينهم، لكن كل حالة ثنائية هى قصة جديرة بالقراءة، يعتمد الفصل الأول على تقنية " الاستباق"، بينما يكمله الفصل قبل الأخير فى الرواية، وهى حيلة جيدة لإضاءة الفصل الأول وجعله يخرج عن إطار القصة القصيرة رغم اكتماله فى حد ذاته، فهو يبدأ بوصف الخالة الحزينة " تيتى" والشوارع الضبابية وشعورها بأن غربانا ستنقض عليها، وينتهى بفتح شبابيك البيت للتخلص من رائحة حسن البخارى،
" راح جسمها الذى أخذ هيئة التمثال يهوى مثل هذه الطيور المخدوعة " والراوى يقصد الطيور طبعا الهاربة من دق الصفيح ،وبالتالى فقد وجد عنوان الرواية تفسيره منذ الفصل الأول، وهذا ما يدفعنى للقول بأن العنوان تحول لقصة مكتملة بذاته،
العنوان
العنوان عتبة مهمة جدا فى قراءة النص، فبعض العناوين يدفعك للقراءة وبعضها ينفرك منها، و بكل حال ينبغى التفكير جيدا حتى فى العناوين الموحية باعتبارها " صوت السارد" ومن ثم فإنها قد تفسر معنى النص كله قبل القراءة، فلا يصبح لدى القارىء أدنى فرصة للتورط وجدانيا وعقليا فى " الرواية"، سنقرأ هنا فى الرواية إذاً عن " عصافير" أى " شخصيات" هاربة من " دق الصفيح" أى من ظروف غير مناسبة وتشكل خطرا على حياتهم فيهربون، وإذا أراد القارىء " عصافير" " مغردة أو " مقاومة" لهذا " الدق"، فعليه أن يترك الرواية ويبحث عن رواية أخرى، إن المصائر هنا لن تخرج عن العنوان، " الداكن" جدا بالنسبة لحياة متعددة الألوان، حتى وإن كان اللون" الداكن" هو سيد الألوان فى مكان ما أو زمان ما، ربما كان العنوان سيصبح مقبولا جدا لو أن الكاتب قد استطاع أن يرسم شخصيات / عصافير يمكن التعاطف مع مقاومتها للعوامل الخارجية التى أثرت على طبيعتها " كعصافير/ شخصيات" فما بالك لو اتضح أن معظمها كما بدت فى الفضاء الروائى كائنات " هشة" أو غير مقاومة، وما بالك لو اتضح أكثر أن أزماتهم كامنة فى نفوسهم ولا دخل " لدق الصفيح" بمصائرهم، كغربان، على الأقل كما قدمهم وعى الكاتب، إذ أننى على يقين أن لديهم جوانب أخرى غابت عن تناول الكاتب لقتامتهم فى الرواية، ولعل شخصية "أفكار" تشكل نموذجا إبداعيا لكيفية بناء شخصية روائية ذات أبعاد حقيقية وعميقة وشاملة للوجود الفيزيقى والنفسى والاجتماعى، أنها شخصية مدهشة يستحق عليها يسرى أبو العنين الثناء" وتقوم دليلا على براعته كسارد، وعلى قدرته على ملء عمله الروائى بشخصيات كأفكار ومحمود الحريف قادرة على المسير وحدها وتجاوز خلقها الأدبى Literary depiction إلى life-like depiction أى وجود من لحم ودم قادر على إثارة انفعالاتنا وتوريطنا فى الموضوع الذى تعالجه الرواية،
النص العام للحياة الذى اندرج تحته نص “ الرواية"
كما أشرت فى البداية ، ليس ثمة تواصل حقيقي مع " النص الخارجى" لدى الشخصيات التى من المفروض أنها تأثرت به و" تواصلت" معه تماما كما نتأثر نحن به، كونه هو المجال العام الذى يشملنا كقراء ويشمل كل النصوص الأدبية المنتجة فى زمن ما ومكان ما، وأنا أورد مصطلح " تواصل " هنا كتقنية أصيلة فى الكتابة الروائية، وقطعا ليس المقصود بالتواصل مجرد رأى الراوى فى هذا التأثير لأن الأصل أن يكون الجدل بين هذا العالم وبين الشخصيات التى من المفترض أن يصبح لها وجود مستقل عن السارد والراوى، ولكن معظم الإشارات جاءت على لسان " الراوى العليم " فى إشارات نوردها على سبيل الحصر فيما يلى:-
- فى الفصل الثانى يشير الراوى لثورة 1952 قائلا " حى جديد بدأ بطريقة عشوائية بعد قيام ثورة 1952 بسنوات قليلة، إذ كان الكثيرون من سكان القرى ينزحون من قراهم إلى المدن القريبة منهم، أملا فى تعليم أبنائهم فى مدارسها أو العمل فى المصانع التى أنشأتها الثورة "
- وفى الفصل الثانى يقول " كان ذلك فى شهر يوليو، وعبد الناصر قد أعلن فى الإسكندرية تأميم قناة السويس. شعر جدى بخفقة دق قلبه، و سيتضح أن خفقة القلب ليست بسبب ما يشاهد ولكن بسبب جمالى لتخيله لو أن المنظر حدث فى الشتاء"
- فى الفصل الثالث يحدثنا عن هجرة العمالة المصرية قائلا "عند وصولى لم يكن فى انتظارى، كل الأصدقاء الذين أعرفهم، سافروا مثلى إلى مدن الخليج التى فتحت أذرعها للعمالة المصرية بعد حرب 1973 ولم يتبق من عائلتى سوى خالتى تيتى"
- فى الفصل السابع عشر يحدثنا عن مدى تأثير الحياة فى السعودية على طريقة المصريين فى التعامل مع الدين و وانعكاس هذا على شخصية "حنان “ التى كان يمكن أن تصبح أم كلثوم جديدة لولا زواجها من " محمود" و وفى الواقع يمثل محمود الحريف شخصية متقنة البناء من حيث أنها ليست معلقة فى الفراغ الذهنى لتخيلات السارد عن الحياة ولكنها شخصية ذات ملامح وأبعاد أنتجها واقع الحياة فى مصر فى ظل ما أسمى كذبا بالصحوة الإسلامية والذى كان جوهرها التنازل عن الملامح التى تشكل الشخصية المصرية لصالح سمات بدوية يتم صيغها بصبغة الدين، وما سمى كذبا بالجهاد والذى ليس سوى إرهاب أسود أجهض بدرجة كبيرة إمكانية النهوض والتقدم فى مصر وفى البلاد العربية،
فمحمود الملتحى ا يحمل غلا غير مبرر لكل مسيحى / مصرى، و يحدد الراوى بداية هذه الموجة قائلا " كان ذلك فى أوائل السبعينيات فى عهد الرئيس السادات، حيث اختارت بعض جماعات الإسلام السياسي منهجا للتغيير وتطبيق الشريعة، معتمدين فى ذلك على فهم السلف الصالح فى إتباع الكتاب والسنة معتقدين فى تكفير الدول والمؤسسات التى تحكم بغير ما أنزل الله" وهو تبسيط طبعا لا يضع كل هذه الصحوة ضمن سياق الهزيمة والحرب على الشيوعية كأحد أساليب "الصراع بين المعسكرين " ولا يشير إلى التعصب فى بنية الثقافة ذاتها وحتى الشعبية منها للأسف والذى غذته العوامل التى تحدثنا عنه واستخدمته كأحد أدوات الصراع
- فى الفصل السادس والعشرين والذى يعيدنا للفصل الأول، نعرف أن الجد كان يرفض زواج حسن البخارى من تيتى لأن " هذا البلطجى الفاحش الثراء ستكون نهايته إما السجن أو فى حضن الجماعات الإسلامية المتطرفة " وهو ما جاء استثناء كونه على لسان الجد.
- وفى نفس الفصل بصوت الراوى " كان ذلك قبل وفاة جدى بشهور قليلة، راحت صناعة الغزل والنسيج تمر بحالة كساد رهيبة بسبب ما قامت به الدولة بعد عامين من حرب أكتوبر من تبنى سياسات الانفتاح وتحرير السوق "
ولعل أبرز أفعال الزمن و ضغط “ النص العام" على البشر تمثل فى فضيحة " أبو المكارم"، وهى من الشخصيات جيدة البناء تماما كمحمود الحريف ولنفس الأسباب سابقة الذكر، وقد مثل تعريه أمام الضابط، بعد ضبطه بتهريب المخدرات للمساجين، دلالة على تعرية الأخلاق والقيم وما حدث من انحراف لكثير من موظفى الحكومة فى فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى،
ولا يعنى هذا بالقطع أننى أصدر حكما نقديا يوحى بتحيزى أو رفضى لأسلوب تناول " يسرى أبو العنين" لأوجاع وأحلام شخصياته وعلاقتهم بالهموم والآمال العامة للمصريين منذ بدأت مشاريع نهضتنا، التى انتصرت حينا وانهزمت أحيانا ولا سيما فى الأربعين سنة الماضية، ولعل بقدورنا إن شئنا أن نقبض على مصير عام يربط علاقة أفراد تلك العائلة التى استهدفها السرد مضافا إليها جيرانها من جانب، والمجتمع المصرى بأسره من جانب آخر ولكن هذا المصير العام لن يتجاوز طبقا لما ذهبت إليه الرواية إلا انتكاس النفوس ورغبات التخييم فى ذكريات مستعصية ومراوغة، جعلت من فصول الرواية فى معظمها " موجات من مطاردة الذكرى هروبا من " دق الصفيح" فى الواقع الآنى الذى تحيا فيه الشخصيات، أو بالأحرى الذى تفشل فى التجاوب معه والإتكاء عليه، تماما كما تفزع العصافير من دق الصفيح،
إن رواية يسرى أبو العنين تجعلنا نتحسر على " حكايات المصاطب" التى كانت تخلط الفجائع بالضحك والنكات، فأرواح المصريين المعجونة بالأسى قاومت الموت أو " دق الصفيح" بخفة الدم ولم تكن أبدا مستسلمة للهزيمة بهذا الشكل الذى طرحته شخصيات الرواية، وربما يبرر " يسرى أبو العنين" هذا بأنها سيرة ذاتية، ولكن هل بإمكان السيرة الذاتية أن تكون منفصلة عن السياق العام للسيرة العامة والسياق العام للحياة فى مصر فى الفترة التى تتناولها الرواية؟


ثنائية التعالق والعلاقات
تأسست الرواية على علاقات ثنائية بين الشخصيات لا يمتد تفاعلها كثيرا خارج الإطار الثنائى، المتكون من طرفى علاقة زوجية فى معظم الحالات، فلدينا حسن البخارى وتيتى، و الجد والجدة، والأم والأب، و حنان ومحمود، وخليل و ليزا، وأفكار وشحاتة، و هادية والطبيب، وأبو بكر وأم بكر، فتيتى تنتهى بها الحالة إلى أن يهددها حسن البخارى الهارب من السجن والذى أخفته فى بيتها بالهجر، ويحاول الهرب وتستعيده مرات، ولكنه حين يتمكن من مغادرتها، تقوم بفتح الشبابيك التى أغلقتها طوال فترة اختفائه عندها، فيوقن القارىء أن هذا إيذانا بتحررها من وهمها وبعودتها للانفعال بالحياة، تقول تيتى " كان على أن أتخلص من رائحته"، تعنى حسن البخارى، فتى أحلامها الذى كان فتوة يحمل مطواة ويسير مع زملاء مدججين بالمطاوى، والذى تقدم لخطبتها ورفض أبوها، رغم أنه ابن تاجر لأقمشة، و لم يكن رفض الأب بسبب " شقاوته" وخداعه للبنات ولكنه رأى أن مصيره سينتهى إلى السجن وهو ما حدث فعلا ولكن نتيجة معاكسة رجل لتيتى فقتله حسن، أى أنه دخل السجن بسبب ابنة الجد صاحب النبوءة، الذى سنعرف فيما بعد أن سبب انسحابه من الحياة يرتبط بأن زوجته " الجدة" لم تعد تراه بعد أن أصابها " الزهايمر"، وهو نفسه الذى قال وهو فى الخامسة والأربعين من عمره " من لم يمتط صهوة قلبه فلن يصبح فارسا " " أنا ملك القلوب المتوج " من كيوبيد"، لكن الحال ينتهى به حين يسأله الحفيد “ أتبكى يا جدى بأن يقول "أنا أبكى جدتك ليس لأنها رفيقة الحياة الطويلة، وليس لأنها كانت الأجمل فى الدنيا، لكن أبكيها لأنه لم يعد فى إمكانى أن أرى نفسى فى عينها بعد اليوم" وهى مقتبسات تؤكد على أن " الجد" المحكوم بالإطار الثنائى قد انكسر قلبه ولم يعد له صهوة ليمتطيها"، هل يمكن أن نضع هذا فى مقابل " هروب" حسن من " الثنائية " التى ربطته " بتيتى" والتى كان يمكن أن تكون تحررا لولا الصدمة التى سببها عودته لأخواته الذين احتلوا بيته واستقرت حياتهن بغيابه ؟،
ولعل " هادية " هى الشخصية الوحيدة من بين كائنات مهددة بفناء لا تقاومه ولا تفعل شيئا سوى الحسرة والبكاء والانسحاب من الحياة، فهى تمضى هادئة غير عابئة بترهاتهم، كأنما اتخذت من اسمها صفة ( أو ربما هى تجسيد لوعى الراوى نفسه باعتباره واحدا من الأسرة )، الأمر الذى يدفعنى للقول أن " الراوى" يتفق مع قراءتى لأشخاصه البائسين الذين لا ينطبق عليهم من صفات العصافير، إلا الضعف والهشاشة، فهادية تروى " الزروع" وتكنس البيت وترى أن الأحزان لا تأتى إلا من خناقات تيتى وأختها، إنها كائن جميل لا ينتمى لهذا " النكد" و يتحين اللحظة للخروج من هذه الدائرة العائلية الكئيبة المغلقة ، لأنها ستختفى ، و يتضح فيما بعد أنها تزوجت من الطبيب الذى كان يأتى لمعالجة أمها وهى حادثة ذات تفاصيل غير مروية وتمثل براعة من السارد،إذ يمكن للقارىء تخيل ما كان يحدث سرا بينها وبين الطبيب ، وكذلك يمكن القول أن "أفكار" و"رجل الثلج " شحاتة" قاوما دق الصفيح وفعل الزمن القاهر بممارسة جنسية حميمة ، بعد أن كانت أفكار قد جربت الحرمان فى زواجها الأول من " عنين" لا يكف عن المحاولة ولا يردعه الفشل، لكننا بسبب تقنية "الاستباق" كنا نعلم منذ الفصول الأولى أن شحاته هو الجندى المفقود فى المعركة مع العدو الصهيونى ، والذى ظلت" أفكار" تنتظره إلى ما لا نهاية.

Fictional biography سيرة ذاتية “متخيلة"
إن النص السردى" عصافير هاربة من دق الصفيح" يثير أسئلة كثيرة حول طبيعة علاقة السارد بالراوى، و بالأسرة والجيران، وبموضوع الرواية، وربما يعيد طرح قضية تناول السيرة الذاتية / العائلية ( عند يسرى أبو العنين)، فى ظل الخوف من فضح الذات ومن ثم التحايل على ذلك بتحويلها إلى سيرة " متخيلة" كما فعل تشارلز ديكنز فى رائعته " ديفد كوبرفيلد"، غير أن تشارلز ديكنز انشغل بذاته فى مواجهة العالم، فشكلت العائلة والجيران جزءا من هذا العالم، أما عند يسرى أبو العنين، فقد كانت العائلة والجيران " كل العالم " الذى تحول بالنسبة لهم إلى مجال غير آمن فصاروا "عصافير هاربة من دق الصفيح"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي