الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


همنغواي : أسلوب اللاأسلوب

محمد نجيب السعد

2019 / 12 / 15
الادب والفن


يعتبر همنغواي واحدا من المبتكرين الرائعين في الشكل الأدبي. لقد تخلى عن الزحارف الأسلوبية فغاب عن كتاباته الخطاب الغنائي ، وأكتفى بنصوص شبه خاوية و أستعاض عن الصوت السردي بضربات قصيرة و قوية -أنه أسلوب اللاأسلوب ، وهوس جمالي متعصب للغاية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بإحساس همنغواي الشخصي بالمعاناة وهو طريقة حياة تؤتي ثمارها ، لو تأملنا الماضي ، باعتبارها داندائية* عكسية. كانت طريقة همنغواي في الكتابة لا تنفصل عن مواضيعه الجسدية القوية ، مثل الحرب والصيد ومصارعة الثيران – وقبل ذلك –عانى كثيرا من أجل تحقيق ما حققه من إنجزات أدبية . في مقالته عن همنغواي في مجلة النيويوركر (1950) ربط ليليان روس كتابة القصص بالملاكمة ، الى جانب تورجينيف و موبوسان و ستاندل .
كتاب همنغواي لعام 1935 بعنوان "تلال أفريقيا الخضراء " ، ليس عملا قصصيا . سبق لهمنغواي أن أصدر عملا غير قصصي عن مصارعة الثيران تحت عنوان " موت في الظهيرة" في عام 1932. هذا الكتاب يدور حول مصارعة الثيران بشكل عام ، و هو مزدان أحيانًا بإشارات إلى تجربة همنغواي الخاصة. الكتاب ليس رواية و إنما تاريخ وتحليل يحتوي على بعض الحكايات . على النقيض من ذلك يوضح همنغواي في " تلال أفريقيا الخضراء " طموحاته بوضوح في مقدمة موجزة:
" على عكس العديد من الروايات ، فإن أيا من الشخصيات أو الحوادث في هذا الكتاب ليست خيالية . . . . حاول الكاتب أن يكتب كتابًا حقيقيًا تمامًا ليرى ما إذا كان شكل البلد ونمط النشاط في أي من الأشهر ، إذا تم تقديمهما بشكل صادق ، يمكن أن ينافسان المخيلة."
بدأ همنغواي مسيرته في الكتابة خلال فترة أمتازت بالأبتكارات على صعيد الشكل الأدبي ، وقضى الكثير من الوقت في باريس بصحبة جيرترود شتاين التي تعتبر واحدة من أشهر الأسماء التي عاصرت همنغواي في باريس . كان همنغواي نفسه ، منذ البداية ، شكلانيا رائعا ، وإعلان النية في "تلال أفريقيا الخضراء " يستحق أن يؤخذ بعض التأني. إنه ، أي العمل ، تجربة كتابية ، يقوم على موضوع المغامرة و روح المغامرة ، في أختبار لنفسه و لكتابته .
الكتاب هو سرد لرحلة قام بها همنغواي إلى شرق إفريقيا في أواخر عام 1933 مع زوجته في ذلك الوقت ، بولين فايفر ، رحلة صيد كبيرة تضمنت حيوانات وحيد القرن و ظبي الكودو والأسود. يرافق الزوجان صديق (يُعرّف باسم كارل في الكتاب) ؛ و صياد محترف (أو "صياد أبيض") يسمى في الكتاب بوب و السيد جي بي ومجموعة متغيرة من المرشدين من سكان المنطقة و متابعي الأثار و الحمالين بمن فيهم رجال يسمون مكولا و دروبي وواندروبو ماساي ، وواحد أطلق عليه همنغواي أسم جاريك في سخرية من تصرفاته المسرحية التي أثارت غضب المؤلف. (بالنسبة لفيفيفر ، قدمها همنغواي في الكتاب بأسم الأم الكبيرة المسكينة.)
هناك أيضًا شخصية أخرى تظهر بالصدفة في وقت مبكر من رحلة الصيد ، وهو نمساوي أسمه كانديسكي ، الذي ينضم للفريق لفترة قصيرة عندما تتعطل شاحنته. كانديسكي لديه ميول أدبية . يتعرف على أسم همنغواي من القصائد التي نشرها في المجلة الألمانية Der Querschnitt قبل حوالي عقد من الزمان .يدخل في نقاش أدبي مع همنغواي ، ويطرح اسمًا سيذكر لاحقا مرتين في الكتاب: "أخبرني من هو جويس؟ ليس لدي المال لشراء رواية "أوليسيس" ، التي نشرت في عام 1922 ، في باريس ، من قبل سيلفيا بيتش ، مؤسسة شركة شكسبير آند كومباني ، والتي أغلقت في الولايات المتحدة وبريطانيا بدعوى "عدم الحشمة".
كتب كريستوفر أونداتجي في كتابه"همنغواي في إفريقيا : السفاري الآخير" الصادر في عام 2003 :
"لكن على الرغم من استمرار الهوس بهمنغواي ، فإن كتابات همنغواي عن إفريقيا مهملة نسبياً من قِبل جمهور القراء والنقاد . تعتبر قصتا ، "ثلوج كليمنجارو" و "الحياة السعيدة القصيرة لفرانسيس ماكومبر" الإفريقيتان القصيرتان ، من أفضل أعماله ، لكن كتابه غير القصصي "تلال إفريقيا الخضراء" ، الذي يروي رحلات السفاري الأولى لهمنغواي ، لم ينل ما يستحقه من أهتمام . "
جويس هو الروح التي تطارد "تلال أفريقيا الخضراء " سواء بشكل مباشر أو غير مباشر . في الواقع ، فإن وصف رحلة الصيد هو أيضا بيان حول الأشكال الأدبية ، كما هو الحال عندما يخوض كانديسكى نقاشا مع همنغواي يشابه التنظير الأدبي الذي يكرهه المؤلف و يتمتع به في الوقت نفسه. يستعرض همنغواي تاريخ الأدب الأمريكي سريعا و يركز على ثلاثة أسماء فقط هم هنري جيمس وستيفن كرين ومارك توين. (المعروف أن همنغواي له مقولة شهيرة "كل الأدب الأمريكي الحديث يأتي من كتاب واحد هو هاكلبري فين لمارك توين ." يخوض الرجلان نقاشا حادا حول متعة همنغواي في الكتابة يوسعه همنغواي الى بيان صريح و رئيوي عن الطموح:
"نوع الكتابة التي يمكن القيام بها. إلى أي مدى يمكن كتابة نثر إذا كان الشخص جادًا بما فيه الكفاية ولديه حظ. هناك بُعد رابع وخامس يمكن الحصول عليه."
"هل تؤمن بذلك؟"
"أنا أعرفه."
"وإذا تمكن الكاتب من ذلك ؟"
"بعدها كل الأشياء غير مهمة . إنه أكثر أهمية من أي شيء يمكن أن يفعله. الفرص تقول أنه سيفشل. ولكن هناك فرصة واحدة لنجاحه".
"ولكنك تتكلم عن الشعر ."
"لا. إنه أصعب بكثير من الشعر. إنه نثر لم يُكتب أبدًا. لكن يمكن كتابته بدون حيل ودون غش".
يشير كتاب " تلال أفريقيا الخضراء " إلى هذين البعدين الرابع والخامس. جمالية همنغواي هي أيضًا مسألة أخلاقية ، تستند إلى حقيقة تجربة الروي بضمير المتكلم ، التي تم اختبارها وفقًا لمعايير النقد الذاتي العالية . يخضع همنغواي في الكتاب قدرته على الصيد ونظرته تجاه الآخرين، وتواضعه وشجاعته وقدراته الإدراكية يقدمها جميعا للاختبار . يأتي هذا الاختبار في المصطلحات الأدبية ، مما يؤدي في الواقع إلى إيقاف العمل بسلسلة كبيرة من الحوارات الجانبية و التحليلات التي لا تتعلق بسرد الصيد ، ولكنها سرد لما يحدث في عقل همنغواي في لحظة معينة. تلك الحوارات الجانبية هي جوهر الكتاب.
في " تلال أفريقيا الخضراء " ، يسعى همنغواي إلى التغلب على جيمس جويس فيما يتعلق بتيارات الوعي ، وهو يصرح علانية بهذا الشكل من التنافس . في بداية الفصل الرابع ، يتجه المؤلف و الأم الكبيرة المسكينة و بوب و مكولا و دروبي إلى الصيد في الصباح. عندما يأخذون استراحة من الرحلة يخرج همنغواي كتاب - تولستوي "سيفاستوبول" - ثم يتكلم عن تصوير تولستوي للحرب وأهمية الحرب كموضوع قصصي بشكل عام. ثم هناك هذا المقطع:
" ثم جعلني سيفاستوبول أفكر في بوليفارد سيفاستوبول في باريس ، حول ركوب دراجة في المطر في طريق العودة من ستراسبورغ وإنزلاق سكك عربات الترام والشعور بالركوب فوق الأسفلت و الحصى الدهني الزلق وسط حركة المرور في المطر ، وكيف كنا نعيش تقريبًا في بوليفارد تمبل في ذلك الوقت ، وتذكرت شكل تلك الشقة ، وكيف تم ترتيبها ، وورق الحائط ، وبدلاً من ذلك أخذنا الطابق العلوي من الجناح في نوتردام دي تشامبس في الفناء مع المنشرة (و أنين مناشير الخشب المفاجيء ، ورائحة نشارة الخشب وشجرة الكستناء على السطح مع امرأة مجنونة في الطابق السفلي) ، والقلق طوال السنة بسبب المال (تعود جميع القصص بالبريد الذي وصل من خلال شق في باب المنشرة ، مع رسائل الرفض التي لم تسميها قصصًا ، ولكن دائمًا حكايات ورسومات ومقاطع وما إلى ذلك. لم يريدوا القصص ، وعشنا على البصل و شربنا النبيذ الاحمر و الماء ) وجمال النافورات في الينابيع في ساحة الاوبزررفاتور (يتلألأ الماء متموجا على برونز شعر الخيول وبرونز الصدر والكتفين ، الأخضر تحت الماء الرقيق) ، وعندما وضعوا تمثال نصفي لفلوبير في لوكسمبورغ في الطريق المختصر عبر الحدائق في الطريق إلى شارع سوفلوت (ذلك الذي كنا نؤمن به ، وأحببناه دون انتقادات ، أصبح ثقيلا الآن من الحجر مثلما يحدث مع المشهورين ).
يعقب هذه الجملة البطولية مزيد من التأملات في الحرب والأدب وأشارتين إلى جويس ، تليها عبارة أخرى عن طموحات همنغواي الأدبية. تستمر شطحات همنغواي في الكتاب . في أحدى فقرات الفصل الخامس ، يتخيل نفسه داخل الأعمال الأدبية التي يحبها. في الفصل الثامن ، يتكهن بالقيمة المعنوية لكتابته ويصف حياته الداخلية بأنها "تيار الخليج الذي تعيش معه" ويصف المادة المتنوعة التي تحملها . في الفصل الثالث عشر ، زجاجة بيرة تستحضر شربه للبيرة في رحلة له في فرنسا ، تليها ثلاث صفحات قوية من الصور ، يخوض في مواضيع تشمل الأعمال والأسرة ، المرض والتاريخ ، المضاربات الجيوسياسية والتطلعات الأدبية ، نظرة مريرة على أمريكا وأسباب مغادرته ، وإشادة بالبلد الذي يصطاد فيه الآن. بعد ذلك بعدة صفحات ، ينتهي الكتاب – بفكاهة جافة وسريعة و تأملية توضح النية وراء تأليف الكتاب الذي انتهى القارئ من قراءته.
لم يكتب همنغواي الرواية الشاملة. ربما كان مشغولًا جدًا على مدى فترة زمنية طويلة بالتفكير بعمل عظيم على غرار "أوليسيس" (المذكور صراحةً في الفصل العاشر) ، باعتباره أحد روائع القرن الماضي . عاش جويس في أوقات ثورية ، وبغية كتابة هذا الصرح الكبير ، ابتعد عن تلك الثورات وتركتها ، وبدلاً من ذلك ، أنجز ثورة في الرواية . يبدو أن همنغواي اعتبر أن تلك الثورة الأدبية لم تكن كاملة ولم يتم حلها بعد بسبب ما تركته بالتحديد . في " تلال أفريقيا الخضراء " ، حدد همنغواي ما تركه جويس - وجود خطر مادي والأحساس بالذاكرة الذي أستجد في الوقت الحقيقي. أن تيار الوعي الذي أراد همنغواي التقاطه كتابيًا هو ذاته الذي كان يعيش فيه في الزمن الحاضر ، وهذا هو السبب وراء الأبعاد الواسعة للنثر التي تصورها في العمل اللاقصصي — من استصلاح وجودي لأفكاره وأفعاله الخاصة في لحظة معينة. على عكس ابتكارات جويس ، بقي ادماج همنغواي التجريبي للقصة و اللاقصة إلى حد كبير على مستوى النظرية - لكنه أثبت أنه أكثر نفوذاً. أصبح من الصعب التعرف على تيار همنغواي وتمييزه ، لأنه أصبح الاتجاه السائد.
أن كتاب تلال أفريقيا الخضراء ( 304 صفحات من القطع الصغير حسب طبعة سكربنر 2015) مليئ بعمليات التفكير المكتوبة بوضوح نادر ممتع ومثير للقلق في الوقت نفسه ، والذي يجب أن يقرأوه جميع المهتمين بهمنغواي .
* أسلوب أدبي وفني ظهر في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر تميز بالتصنع و الأفراط في التشذيب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا