الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع تريفور نجوين - جنوب افريقيا والنضال ضد الخصخصة

خالد الفيشاوي

2006 / 5 / 28
الحركة العمالية والنقابية


تعتبر جنوب أفريقيا طليعة البلدان التى تتبع لسياسات النيوليبرالية ، ومعمل لنتائجها الاجتماعية . تتمرد المناطق المحيطة بالعاصمة جوهانسبرج ، ضد الخصخصة التى تفرضها طبقة سياسية جديدة أفرزها نظام المؤتمر الوطنى الإفريقى الحاكم .في هذا الحوار، يستعرض "نجوين" التطورات السياسية في جنوب افريقيا في ظل حكم المؤتمر الوطني الأفريقي، والنضال الذي يخوضه الشعب ضد سياسات الحكومة الوطنية…

أين ولدت ونشأت ، وما هى الجذور الاجتماعية لأسرتك ؟

ولدت فى عام 1960 فى " دربان " . كان أبى وأمى يشتغلان بالتمريض . جدودى كلاهما كانا واعظين فى الكنيسة البروتستانتية . كما كان والدى مؤيداً للمؤتمر الوطنى الإفريقى ، أمضى بعض الوقت فى دار السلام ، حينما كنت صغيراً . لست متأكداً إن كان سفره لدار السلام لأسباب سياسية : فالناس يسافرون لأسباب كثيرة ، سعياً وراء فرص أفضل أو معاملة أكرم . وفى النهاية ، عاد والدى من أجل أسرته . فعادة ما يستهدف كل المسافرين اغتنام أية فرصة للعودة إلى جنوب أفريقيا ورغم أن والدى لم يكن له نشاط حقيقى ، إلا ان أسرته اعتادت على زيارته مرة كل أسبوع ، أو نحو ذلك ، وقت أن كنت طفلاً ؛ ومات معتل الصحة . وبالطبع كان له تأثير على ، فأذكر أنه عرض على بعض الكتب السياسية ؛ أحدهم كان له غلافاً بنياً ، ولا أعرف مؤلفه أو عنوانه . وأذكر أيضاً ، حينما كنت فى السادسة من عمرى ، انتقلنا إلى " زولولاند " حيث عمل والداى فى مستشفى يديرها مبشر اسكتلندى ، كان يسعى للعمل وفق توجهات تقدمية . كان هناك مسيحياً أسود فى الكنيسة ، كان يمثل شيئاً لما كان موجوداً آنذاك ؛ اعتدنا التعلق به . فى ذلك الحين ، كان " بازيلزى " يعد بطلاً – فقد رفض الموافقة على مشروع " الاستقلال الوطنى " للزولولاند ( أرض الزولو ) . وطاف البلاد يتحدث للشعب الأسود ويلتقى مع المؤتمر الوطنى الإفريقى .

بعد انفصال والداى ، تم إرسالى أنا وشقيقى إلى مدرسة كاثوليكية داخلية ، بالقرب من دربان ، يديرها رهباناً من الدومينيكان . كانت امى تعتقد أنها أفضل مدرسة متاحة ، وأن كانت تتميز بنظام صارم ، وعقوبات شديدة إزاء أى خطأ . كما كان طعامها ردئ وكريه . قضيت بها أربعة سنوات – وطردت منها بعد الإضراب الذى شهدته المدسة عام 1976 . ليس لأنى كنت ألعب دوراً سياسياً متميزاً ، فلم أكن أكثر من متمرد من أجل بضعة جنيهات أزيد ، أو شراب أفضل , ولكن ، كان هناك إضراباً عفوياً فى مدرستنا بعد مذابح الشرطة فى سويتو فى 16 يونيو 1976 . كانت الأوضاع بالغة التوتر . جاء بعض الطلبة للتشاور معنا ؛ كانت لديهم مبررات وتجارب أكثر ، وكانوا يقودون المقاطعة آنذاك . لم ألعب دوراً كبيراً ولكن شأنى شأن كل الناس الذين تأثروا بهذه الأوضاع على نحو سريع . كنا نشعر بضغوط شديدة . وطردنا من المدرسة وعدنا لديارنا . وبعد شهر واحد اختارت الإدارة المدرسية بعض التلاميذ ودعتهم للعودة للمدرسة . لكنهم أخطروا والدى وأخطرونى برفض عودتى – وأن هناك مشكلات تحول دون رجوعى . بعد ذلك ، انتقلت إلى مدرسة فى منطقة " نيو كاستل " ، على الجانب الآخر من " ناتال " حيث كان يعيش والدى . والتحقت بالجامعة هناك .

فى عام 1979 ، دخلت جامعة " فورت هير " فى " كيب " الشرقية ، أقدم جامعة للسود فى إفريقيا ، تخرج منها " نلسون مانديللا " و " أوليفر تامبو " . درست فيها علم الاجتماع ، وعلم النفس الصناعى ، والإحصاء ، وموضوعات أخرى فى العلوم الاجتماعية . تأثرت بالدراسة إلى حد كبير – لم أنشغل بالسياسة فى البداية ، كنت مبهوراً بالأفكار ، والعالم الجديد المفتوح امامى . فى هذه الفترة قلعت عن الإيمان بالله .

كانت دراسة علم الاجتماع أفضل من بعض الدراسات الأخرى ، كانت هناك قلة من الأدبيات السوداء التى كانت تدرس بشكل هامش . كانت " كيب الشرقية " ذات وضعية سياسية ، كما كانت " فورت هير " ذات وضعية خاصة . قرأنا نظرية التبعية ، والنظريات الكلاسيكية وخاصة كتابات " دوركيم " و " فيير " . وكان هناك كورس دراسى خاص عن " سياسة التنمية والإدارة " . حيث درسنا سياسة العزل العنصرى ( الأبارتهايد ) ، والتى كانت تعنى تدريب الشباب السود على إدارة الابارتهايد ، ولكن كان يقوم بتدريسها مدرسون أكفاء ، مثل " نايك شام " ، الذى حاول تدريسها لنا برؤية مختلفة . واعتاد أن يمدنى بالكتب ، كما واجهت هناك أول اختبار قاس مع نظام درجات تقييم الطالب . فمعظم الكورسات الاستراتيجية للطلاب السود كالإحصاء والأنثربولوجى ، والمحاسبة – وتمثل حوالى 10% من درجات النجاح . وكان البعض يحصل على أدنى الدرجات فى الاختبار الأول فلا يواصلون الدراسة . ولكن كل طالب لا يحصل على أكثر من 50% من مجموع الدرجات ، يسقط فى الكورس . وفى سبتمبر ، كل أولئك الذين لم يحققوا الدرجات المطلوبة يعودون لمنازلهم ، بالطبع ، كان منهم أصدقاء . لذلك حدثت تمردات الطلبة . أعتقد أن ذلك هو السبب فى التضامن بين الطلاب الذين أدى لانفجار الغضب. .

ماذا عن المناخ السياسى آنذاك ؟

لم تكن البلاد مشتعلة ، ولكن كانت هناك أحداث مستمرة . حينما حصلت موزمبيق على استقلالها فى عام 1980 ، كانت هناك مظاهرات طلابية، ومقاطعة لدعم جبهة تحرير موزمبيق ( frelimo ) ووضع جماعة من الطلبة بياناً ، وقع عليه بعض الشخصيات التى تتمتع بشعبية . حدث ذلك ثلاثة أو أربعة مرات ، بعدها عقد اجتماع فى القاعة الكبرى . وجاء الناس ليستمعوا للحوارات ، التى كانت تدور بشكل ديمقراطى تماماً . آنذاك ، لم أكن أهتم بالسياسة إطلاقاً ، لكن المناخ السياسى كان يتغير بشكل كبير ، فكان الشعب فى كل أنحاء البلاد يناضل من أجل الحرية والتحرر ؛ ولما كانت جبهة تحرير موزمبيق قد بينت الطريق وإمكانية التحرر والحرية . كان هذا هو المأمول . لكننا كنا نشعر أيضاً ، على الأقل أنا وأصدقائى ، أننا نعانى من القمع والاضطهاد فى هذه الجامعة .

كنا نشترك جميعاً فى الاحساس بعدم الارتياح ، والرغبة فى دعم المقاطعة ؛ لم تكن هناك مشكلة فى إحكام المقاطعة ، ولم يكن هناك من يسعى لكسرها سوى واحد او اثنين على الأكثر . لذلك كانت المقاطعة شاملة ومحكمة . وطردنا جميعاً بدعوى " الشغب السياسى " كما كانوا يسمونه . نفس الشيئ حدث فى كل كليات الجامعة المخصصة للسود . وبعد شهر سمح لمن يرغب من الطلاب بتقديم طلب للعودة للدراسة وتقرر السلطات فى الجامعة قبوله أو رفضه .

فى هذه المرحلة ، بدأت فى تطوير رؤية نقدية أكثر إدراكاً وفهماً للابرتهايد ، كان هناك طالبان اعتادوا على معارضتنا من أجل التوصل إلى فكرة أكثر صحة وشمولاً . لم نكن تناقش السياسة طوال الوقت . فكانت مشكلة الاستمرار فى الكورس الدراسى والنجاح ، والسقوط ، قضية هامة بالنسبة لنا . ولكن حينما كان يتم تنظيم إضراب طلابى ، او مقاطعة ، كنا جميعاً ننضم له ، وكان التضامن هو السمة البارزة للتحركات فى ذلك الوقت .

شهد عام 1982 احتجاجات ومظاهرات كثيرة ، فطردونا مرة أخرى ، لكننا هذه المرة ، قررنا بالإجماع تقريباً ، ألا نعود ، فقد كنا نحيا فى الجامعة فى ظروف بالغة الفقر . أيضاً كنا نعرف أنهم سيتخلصوا من كل قياداتنا الذين كانوا يسمونهم " المهيجين " لذلك خرجنا جميعاً إلا قلة قليلة منا . لا يزال يطلق عليهم " المدافعون "كتب عنهم أحد الأشخاص كتاباً : " الفتية السود الذين يدافعون الآن عن وحدة العالم خانونا مبكراً " .

ماذا فعلت بعد طردك من الجامعة ؟

انتقلت إلى " سويتو " واتصلت تليفونياً بوكالة للأبحاث كنت أعمل لديها خلال إجازتى السنوية فى شهر يوليو ، وحصلت على وظيفة فيها . فى الأثناء ، واصلت دراستى بالمراسلة فى جامعة جنوب أفريقيا . أصبحت الوكالة الجناح البحثى للحكومة فى إدارة الابارتهايد ، تقوم بتطوير أشخاص مؤهلين لإدارة عمال المناجم ، والمشرفين ، وغيرهم . كانت قوانين الانتقال والترحال فى البلاد لازالت سارية المفعول – كانوا يسألونك أين تصاريح انتقالك ، ويعتقلونك إذا لم تكن تحملها ، وكان حظر التجول يبدأ من الساعة الثامنة مساءً .

حينما وصلت إلى " سويتو " لم أكن اعرف أى مكان أقيم فيه . فانتقلت بين مناطق مختلفة فى سويتو ، بما فى ذلك المناطق المخصصة بقوات الانقاذ ، إلى أن وجدت مكاناً . عشت فى البداية فى غرفة على سطح أحد المنازل ، ثم انتقلت للإقامة فى جراج للسيارات . بالطبع كان الجراج أكبر ، لكنه كان مفتوحاً ويصعب على المرء العيش فيه فى عزلة ، وأن يستمتع بالخصوصية .

كان ذلك فيما بين أعوام 1984 أو 1986 ، فترة التمردات التى شهدتها المدينة . إلى أى حد اشتركت فى هذه التمردات ، ومدى تأثيرها على تطورك السياسي ؟

كانت سويتو تحترق ، وبالطبع تأثر بذلك كل الناس . فى هذه المرحلة ، كنت منشغل طوال الوقت للحصول على درجة الماجستير من جامعة " ويتس " فى وسط مدينة " جوهانسبرج " . كنت اعمل فيها كمدرس ، أحاضر لطلبة الصفوف الأولى ، حتى عام 1988 ، وفى هذا العام أصبحت ماركسياً . كانت هناك مجموعة صغيرة منا لازالت على صلة وثيقة مع بعضها البعض ، كنا نقرأ أو نتحاور فى أمور فكرية ، وكنا نلتقى دائماً . وعلى الرغم من أننى كنت فى العشرين من عمرى فقط ، إلا أننى كنت أحاضر حول " الطبقة والقومية " ، لشباب المؤتمر الوطنى الإفريقى ، ومؤتمر عموم الأفارقة Pan African ، والحزب الشيوعى الجنوب أفريقى . كان توجهنا نحو المؤتمر الوطنى الإفريقى. أيدنا ودعمنا العمال الذين كانوا يريدون المحاضرات ساحة للنضال ، ويرفضون نظرية الثورة على مرحلتين . كان أحد شعاراتنا " نحن نقر بشرعية المؤتمر الوطنى الإفريقى ، ولكن كانت علاقتى فى هذا الشأن ترتبط بالشئون الثقافية أكثر منها إشتراكاً فعلياً فى النضالات العملية للمؤتمر الوطنى الإفريقى . على سبيل المثال ، جاءنى بعض الشباب يطلبون سيارتى ، لكنهم وجدوا غرفتى مزدحمة بلافتات تحمل شعارات النضال الوطنى . فتصوروا أننى أعرف قياداتهم ، وهو الأمر الذى أدى لحماية سيارتى .

استضفت " وينى مانديللا " فى أحد فصولى الدراسية . حيث اعتدت كل أسبوع أن يقوم أحد الطلبة بإلقاء محاضرة .وفى يوم محاضرة " وينى مانديللا " جاءت ترتدى ملابس عليها شعارات المؤتمر الوطنى الإفريقى وألقت كلمة عن الحركة . واعتدنا فى فصلى أيضاً ان نقرأ كتابات ممنوعة لـ " ماركس " و " ماوتس تونج " و " هوشى منه " و " سلوفو " وكثيرين غيرهم . وخلال موجة الاعتقالات الضخمة ، حينما أعلنت حالة الطوارئ عام 1986 ، حصل " باسكال مولوى " ، أحد تلاميذى على حكماً بالسجن ، أدخلنا كل المحاضرات وكل هذه المواد والكتابات الممنوعة إلى السجن .

كانت تلك أفضل أيامى المثمرة عقلياً . كانت لدينا أفكاراً راديكالية حول السياسة ودور التعليم . وقررت ألا أجعل الطلبة يجتازون نظام الامتحان المعتاد ؛ وان أعطيهم أوراق الأسئلة قبل الامتحان بيومين او ثلاثة . كنا نشاهد فيديو كل أسبوع ، ونقرأ كتباً هامة ومثيرة للجدل . فى الأثناء ، دعونا أحد عمال المناجم السابقين للمجئ إلى القسم فى إطار برنامج " علم اجتاح العمل " الذى بدأ بعرض أفلام فيديو عن عمال الجامعة ، عن عامل يتولى تنظيف السبورات منذ أكثر من 20 عاماً ، لكنه يقرأ ويكتب بصعوبة . كانت سياستنا ، منح الضيف وقتاً قصيراً للحديث ، ثم يبدأ العمال فى التعليق عليه . الآن نحن نستولى على الكافتيريا لنعلمهم القراءة والكتابة ؛ ويشارك الطلاب فى ذلك . وتنامى مشروع محو أمية العمال بشكل كبير ، وبدأ ينضم له عمال السكك الحديدية ، وعمال المحلات . وبدأت أتعرض لضغوط لطردى من القسم الذى اتبعه فى الكلية ، كما كانت هناك حملة كبيرة لإعادتى ، لذلك بدأت التدريس فى مشروع محو الأمية بدلاً من الجامعة .

ما هو تقييمك للمفاوضات التى أعقبت خروج مانديللا من السجن عام 1990 ، والاعتراف بشرعية المؤتمر الوطنى الإفريقى ؟ وإلى أى مدى استمرت قواعد المؤتمر الوطنى الإفريقى سرية – أم أنهم كانوا يريدون كسب ثقة المؤتمر الوطنى الإفريقى ؟

أذكر أننى سمعت فى الراديو أن " المؤتمر الوطنى الإفريقى أعلن اليوم وقف نضاله المسلح بشكل مؤقت " . لم نصدق ذلك – كان ذلك أشبه بقطع الأيدى والأرجل . بالطبع ، لم يتجاوز الأمر حدود هذا الإعلان ، كما كنا ننظر للعمليات المسلحة بشكل رومانتيكى ؛ لذلك حينما انفجرت قنبلة صغيرة فى بار " ويمبى " نالوا تأييداً كبيراً فى كل أنحاء البلاد . كان الشعب يثق فى المؤتمر الوطنى الإفريقى / ولكن ، كانت هناك أيضاً معارضة للمفاوضات التى بدأت. استخدم " مانديللا " مكانته الرفيعة ليحتوى المعارضة . وفى يناير 1990 ، أعلن مانديللا أن المؤتمر الوطنى الإفريقى يلتزم بسياسة الاستمرار فى المفاوضات . بحلول سبتمبر 1993 ، قام بجولة فى العواصم الغربية بصحبة وزير الحزب القومى الفرنسي ، " ديريك كيس " ، وألقى خطاباً فى الأمم المتحدة ، مطالباً بحصول بلاده على استثمارات أجنبية ، مؤكداً ضمان خروج الأرباح من جنوب أفريقيا والالتزام بمعايير حماية رأس المال .

بدون التقليل من شأن السنوات السبعة والعشرين التى قضاها فى السجن – فإن مانديللا تخلى تماماً عن ما كان يناضل من اجله ، وارتكب أكبر خيانة لشعبه . وحينما تعرض لانتقادات حادة ومعارضة طاحنة ، استخدم مكانته للتغطية على الاتفاق الفعلى الذي عقده المؤتمر الوطنى الإفريقى مع النخبة فى جنوب أفريقيا ، للفوز بغنيمة " برنامج إعادة البناء والتنمية " . ومنح المؤتمر الوطنى الإفريقى السلطة الإدارية بشكل رسمى ، بينما بقيت ثروات البلاد فى أيادى النخبة الرأسمالية البيضاء . ولعب مانديللا دوراً حاسماً فى تأسيس الحكم الجديد للبلاد ، وبكل الحسابات ، انحاز تماماً إلى البرجوازية .

فى هذا الوقت فيما بين أعوام 1991 و 1993 ، كنت اعمل مديراً للتعليم السياسي فى نقابة عمال النقل . وكنت التحقت بالمؤتمر الوطنى الإفريقى فى عام 1990 . كانت المشاعر السائدة فى الحركة النقابية العمالية هى الإحساس الكاسح بالنصر . فى الحقيقة أننا هاجمنا رؤساءنا ، والان ، يشعرون انهم مجبرون على دعوتنا للجلوس معهم ، وإطلاعنا على طبيعة الأمور . لم تكن مساعيهم محاولة للتراجع ، بل الاستمرار فى الهجوم وروجوا لفكرة المثلث الذهبى ، العمال والحكومة ورأس المال ، وأوقعوا النقابات فى مناقشات عقيمة وغامضة حول كيفية تحقيق الحد الأقصى من الإنتاجية والربحية للشركات . وهى الطريقة التى أغرت الغالبية العظمى من القيادات النقابية الوسيطة .

لا ننسى أن جنوب أفريقيا لديها أكبر طبقة عاملة غير منظمة فى العالم ، فالنقابات لا تمثل سوى 23% فقط من السكان النشيطين اقتصادياً ، وذلك طبقاً لإحصاءات عام 1994 . من بينهم إتحادان مستقلين للنقابات العمالية ، الاتحاد الفيدرالى لنقابا عمال جنوب أفريقيا FOSATU ومؤتمر نقابات عمال جنوب أفريقيا COSATU ، بهما 3.2 مليون عضواً و 25 ألفاً من القيادات العمالية المنتخبة كان دورهم لعب دوراً حيوياً فى النظام الجديد ، ودعم ما يسمونه بـ " الاقتصاد الموجه للتصدير " . وبالطبع ، كان انهيار الاتحاد السوفيتى يفرض ظروفاً مختلفة – حيث شهد العالم تراجعات وتخبطات وجدت فيها البرجوازية فرصة كبيرة فى أن تروج لعدم وجود اى بديل .

فى الوقت نفسه ، كانت هناك صراعات ضخمة فى داخل حركة النقابات العمالية بين العماليين على شاكلة اتحاد " فوساتو " للنقابات العمالية ، وبين " الشعبيين " ويمثلهم ائتلاف UDF والاتحاد الفيدرالى للنقابات العمالية ، الذين يتمتعون بروابط وعلاقات قوية داخل المجتمعات المحلية . أحياناً كانت العلاقات بينهم طبيعية ، كما كان هناك أيضاً صراع حقيقى بين السود و المؤتمر الوطنى الإفريقى ، صراع سالت فيه الدماء أحياناً . عودة زعيم المؤتمر الوطنى الإفريقى عزز مكانة المؤتمر فى الحركة الديمقراطية الجماهيرية . وشرعوا فى إغلاق منظمات قائمة بدعوى الوحدة وقالوا : " ما الحاجة لمؤتمر الشباب ؟ ولدينا عصبة الشباب ، وما الحاجة أيضاً لاتحاد المرأة ؟ ولدينا "عصبة المرأة". واستمرت عمليات هدم الكثير من المنظمات ، وشنت حرب قذرة من جانب قوات الأمن ، وتزايد سفك الدماء. وبدعوى الوحدة تم تعزيز هيمنة المؤتمر الوطنى الإفريقى على الحركة الديمقراطية .

شهدت النقابات العمالية معارضة فى داخلها ضد الخط الذى سارت عليه القيادة . ولكن، تم التخلص تماما من المعارضين،وقمعةا بشدة من جانب المسئولين في المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي ومؤتمر نقابات عمال جنوب افريقيا.

على سبيل المثال ، كتبت ورقة فى عام 1993 ، تساءلت فيها : " هل الامتثال للقيادات هو السبيل لجنوب أفريقيا جديدة ؟ " كانت الورقة تشكل انتقاداً لسياسة مؤتمر نقابات عمال جنوب أفريقيا . كنت مطروداً ولكننى عدت آنذاك بعد حملة ضخمة ، وطردت مرة أخرى فى عام 1995 . وهى الحملة التى شنها " جون ابوليس " زعيم العمال الكيميائيين ، الذى طردته النقابة لدوره فى النضال ضد الخصخصة . حيث أصبح " أليك ايروين " ، الذى كان قيادة نقابية ومدافعاً بارزاً عن العمال ، أصبح الآن وزيراً للتجارة والصناعة ، وأصبح الأن متحمساً للسياسات النيوليبرالية . كما اصبح " مؤسس مايكيزو " ، أحد قادة نقابة عمال التعدين ، وأبرز الزعماء الاشتراكيين ، أصبح مروجاً لدعوات البنك الدولى من خلال المنظمة الوطنية للمدنيين . ويتولى الآن قيادة إحدى الشركات الاستثمارية .

فى البداية كان مجرد ترشيح شخص من جانب المؤتمر الوطنى الإفريقى فى جنوب أفريقيا بعد عام ونصف من الانتصار الكاسح للمؤتمر الوطنى الإفريقى عام 1994 ، كان ينتخب مرشح المؤتمر الوطنى الإفريقى . باعتباره المؤتمر صاحب السياسات التقدمية … لكن الأمور تغيرت إلى حد كبير . بعد انتهاء سياسة الفصل العنصرى (الابارتهايد) ، إلى أى حد بلغ هذا التغير ؟

صحيح ، تغيرت الأحوال تماماً بعد الابرتهايد . قبل ذلك كانت الحكومة المحلية تقوم على أساس التمييز الصارم بين السود والبيض ، لذلك كانت " سيوتو " لديها سلطة محلية سوداء ، بينما مدينة " ساندتون " كانت لديها حكومة محلية بيضاء . وفى عام 1995 ، حينما أعيد تنظيم الحكومات المحلية لأن مناطق السود لم تعد معزولة ، انقسمت سيوتو إلى جزئين ، حيث انضمت " بيمفيل " و " أورلاند " إلى " راندبورج " فى الشمال ، وألحق الجزء المتبقى بالمنطقة التجارية المركزية ، وبذلك أصبحت سياسات إعادة التوزيع ممكنة واقعياً . نفس الشئ حدث لمدن اخرى ، فعلى سبيل المثال ألحقت مدينة " الكسندرا " بمدينة " ساندتون " ، وهيمنت مدينة جوهانسبرج ، على كل هذه المدن .

فى إطار الديماجوجيا ، تضمن برنامج إعادة البناء والتنمية شعاراً أساسياً " الشعب يقود التنمية " ، واى استخدام المال المحليين فى مشروعات البناء من أجل تحقيق أهدافهم من التنمية . كانت أول عمل أقوم به فى منطقة " بيمفيل " هى الدعوة لاجتماع عام ، مع ممثلى المجتمع المدنى ، والمنظمات الاجتماعية ، ومن المؤتمر الوطنى الإفريقى ، لتحديد ميزانية مشتركة ، لكى يتمكن الناس من ترتيب أولوياتهم .

اصطدمنا بمشكلات استمرت أشهر . حيث حاول المقاولون التخلى عن السياسة التى تحمى حقوق العاملين المحليين ، بالتحول نحو التوسع فى تشغيل عمالة غير منظمة ، ومهاجرين غير شرعيين . تعاملنا مع ذلك بالدفاع عن أن يكون الحد الأدنى للأجر ، 50 راند يومياً ، أى ما يعادل سبعة دولارات ، أى ان يكون فى إمكانك استخدام عمال غير منظمين شرط ألا يقل الأجر اليومى لأى منهم عن 50 راند .نتيجة لذلك اشتكى أصحاب الأعمال للمجلس المحلى مدعين أن ذلك يضع " حائلاً فى وجه التنمية " . وأجريت تحقيقاً عن الحاصلين على الحد الأدنى للأجر ، فوجدت أن هناك القليل ممن يستخدمون عمالاً بأجر أقل من الحد الأدنى . ويمنحون رشوة للقيادات المحلية ليتغاضوا عن الالتزام بالقوانين , وهكذا بات من الواضح أن البيروقراطية مهيمنة على المجتمع .

فى هذا الإطار يتحدث المسئولين الرسميين عن " التناقض بين التنمية والديمقراطية " ، ولم يكن أعضاء المجلس لديهم القدرة الكافية على مناقشة هذه القضية . وكان غالبيتهم على قدر من السذاجة أو فى أحسن الأحوال لا يعرفون ماذا يريدون . ولما كان من مصلحة البيروقراطية تسويقهم ، فقد قرروا عقد عدة اجتماعات مشتركة فيما بعد. بالطبع ، لم يكن يمكن حدوث ذلك بدون موافقة ضمنية من جانب المؤتمر الوطنى الإفريقى .

تغير المزاج العام فى مؤتمرات واجتماعات المؤتمر الوطنى الإفريقى الحاكم : فتوقفت المناقشات الساخنة التى كانت تدور من قبل ، وأصبحت القرارات تتخذ بعيداً عن أعضاء المجلس ، وتقاعسنا عن المشاركة فى المنتديات الاجتماعية المحلية . وكانت هناك قضايا ومشكلات لا نستطيع مناقشتها .

كانت الطامة الكبرى عندما أعلنوا عن أزمة مالية كبرى تعانيها مدينة جوهانسبرج ، كانوا يدركون تماماً أن المدينة غارقة فى الديون . كان ذلك فى عام 1997 ، بعد عام من الأزمة المالية التى شهدتها البلاد ، حينما تبنى المؤتمر الوطنى الإفريقى استراتيجية الخصخصة ، ، والتخلى عن برامج التنمية وإعادة البناء والتشغيل . والالتزام بتصفية القطاع العام ، وتحرير التبادل النقدى . .دعا كل أعضاء مجلس المؤتمر الوطنى الإفريقى فى جوهانسبرج إلى عقد مؤتمر طارئ ، يمكن أن ترى أنه كان معد سلفاً ، لاستعراض القوة ، وأفضى إلى تجمد كل " الميزانيات الشعبية". وحينما شحت الأموال ، لم يرغب القادة فى سماع أية آراء . وتم وضع الميزانية التالية بواسطة الخبراء ، وخاصة الفنيون ذوى الأصوات العالية . وكنا نسخر من انهمار الكلمات وكأنها المطر ، وخلال ساعة واحدة تم قلب القضايا . بدأوا يدعون الناس للانضباط ، او يرشونهم بوظائف ذات أجور جيدة .

فى عام 1999 ، مباشرة بعد الانتخابات العامة الثانية التى وضعت " مبيكى " فى السلطة ، قدم المجلس مشروعاً للخصخصة الشاملة للمدينة.

وبحلول 2002 ، كان هناك تراجعاً ضخماً . حيث تم التخلص من حوالى 20 ألفاً من الوظائف فى ، وعرض كل شئ للبيع – المياه ، والكهرباء ، وجمع القمامة ، والصرف الصحى . فى نفس الوقت ، استخدم " " فيبكى " عبارة " أن الشعب هو صاحب الكلمة الفاصلة " وذلك للإشارة إلى أن الشعب إذا كان قد أعطى صوته للمؤتمر الوطنى الإفريقى ، فيجب عليه أن يدعم السياسات النيوليبرالية التى يتخذها المؤتمر الوطنى الإفريقى وألا يعارضه الآن . وفى هذا الشأن ، كتبت مقالاً فى الصحيفة قلت فيه " الشعب ليس صاحب الكلمة الفاصلة " ، فى إطار مناقشة بين مدير المدينة ، والنقابات العمالية لجنوب أفريقيا ، والاتحاد المحلى للعمال ، وقفوا جميعاً ضد المشروع ، وضدى ، وانتقدوا رأيي . كانت المقالة التى كتبتها بمثابة اقتراح ، ومع ذلك فإننى لم أكتبها بدون مناقشتها مع قياداتى .

خلال ثلاثة أيام ، قام المؤتمر الوطنى الإفريقى بطردى من كل مناصبى ، بما فى ذلك عضويتى فى المجلس . وتم استدعائي لمواجهة لجلسة استماع تأديبية بدعوى قيامى بتشويه صورة الحزب . وحاولوا آنذاك عقد صفقة معى ، قائلين : " لا بأس ، إذا أعلنت على الملأ تراجعك وأسفك عما أبديته من آراء ، سوف نخفض عقوبتك من الإيقاف لمدة سنتين ، إلى تسعة أشهر فقط " . كان التوقيت مختاراً بدقة ليتزامن مع انتخابات الحكومة المحلية عام 2000 . ومنحونى فرصة للتراجع ، لكننى توجهت مباشرة إلى من أنتخبوني ، فوافقونى على ألا أعتذر او أتراجع . ومنذ ذلك الحين أصبحت مستقلاً .

ما هى المشكلات التى كان أهل سويتو يواجهونها فى هذه المرحلة ؟ وما هى النتائج التى ترتبت على وقف برنامج إعادة البناء ؟

كانت التصورات السائدة فى جوهانسبرج عام 2002 ، ان الخصخصة ضرورة لتغطية نفقات إنشاء البنية الأساسية – التى عانت من وضع حرج أدى للتوقف عن الاستمرار فى الإنشاء فى معظم الحالات – كما كان من المفترض أن يقوم سكان المدينة بتغطية أية نفقات تحتاجها الشركات المستفيدة من اجل الصيانة والتجهيزات اللازمة . اختلفت المشكلات وتباينت السرعة التى سارت بها عمليات الخصخصة باختلاف الفوائد العائدة على الشركات المنتفعة .

خذ مثلاً الكهرباء . إدارة الكهرباء ( إسكوم ) ، أنشأت كإدارة للتنجيم عن المعادن فى دولة الابارتهايد . وحصلت على أكثر من نصف الائتمانات التى حصلت عليها جنوب أفريقيا من البنك الدولى والتى تبلغ 200 مليون دولار وذلك خلال الخمسينات والستينات وقدمت الطاقة بأسعار رخيصة للمصانع المملوكة للبيض ، بينما عاش غالبية السود بدون كهرباء . حتى الآن ، يعتمد الفقراء السود على زيت البرافين والفحم والخشب لتوفير الطاقة اللازمة للإضاءة والطهى والتدفئة . ولازال دخان الفحم يتصاعد من مستوطناتهم ،تستطيع رؤيته فى المساء وقت طهيهم للأطعمة . أما الكهرباء فلم تصل إلا فى الثمانينات للمناطق الإدارية من المدن فقط ، كانت المنازل الكبيرة مزودة بكابلات وعدادات كهرباء ، تخرج منها أسلاك وتوصيلات لإمداد الأكواخ والجراجات بالكهرباء .

فى ظل نظام الابارتهايد ، كانت أسعار الخدمات راسخة ومستقرة . لكن فى ظل المؤتمر الوطنى الإفريقى ، حينما كانت إدارة الكهرباء ( إسكوم ) تجهز للخصخصة ، بدأوا فى تحصيل ثمن كل كيلووات من الكهرباء .

فى عام 1999 ، ارتفعت أسعار الكهرباء فى " سويتو " بنسبة 47% . حيث متوسط فاتورة الكهرباء فى الصيف حوالى 150 راند ( 20 دولار ) شهرياً ، أما فى الشتاء فترتفع إلى 500 راند ( 70 دولار ) . بينما يبلغ متوسط الدخل الشهرى لأكثر من نصف سكان : سويتو 1500 راند ( أكثر قليلاً من 200 دولار ) فقط .

منذ صيف 2001 ، بدأت إدارة الكهرباء ( إسكوم ) فى استخدام استراتيجية قطع الكهرباء الفوري والمفاجئ عن المنازل التى لم تسدد فواتير استهلاك الكهرباء . بعد أن أثارت الديون المستحقة للشرطة فزع المشترين خاصة فى ظل الحديث آنذاك عن انتشار " ثقافة عدم دفع فواتير الخدمات " ، وميراث عدم تسديد الإيجارات وأسعار الخدمات منذ الثمانينات فى بعض الحالات ، هدد مجلس جوهانسبرج بقطع المياه أيضاً عمن لم يسددوا فواتير الكهرباء .

هل كان ذلك حينما تشكلت لجنة أزمة الكهرباء فى سويتو ؟

الأزمة بدأت قبل ذلك ، فى يونيو 2000 ، حينما عقدنا سلسلة من ورش العمل حول أزمة الطاقة ، وعقدنا عدة اجتماعات جماهيرية فى المدينة . وحصلنا على بعض الأبحاث التى أجرتها " جامعة ويتس " ، أحد المشروعات التى نظمها " باتريك بوند " و " ماج فيل فلاين " وقيادات أخرى . وأصدروا تقريراً بعنوان " أزمة الكهرباء فى سويتو " – منشور على موقع http://www.queensu.ca/msp- ويؤكد تصوراتنا المسبقة بأن غالبية السكان من العمال المتقاعدين أو العاطلين ، وكمية كبيرة من الأسر ترعاها الجدات ، وأن كثير منهم حاولوا تسديد الفواتير ، على الرغم من رداءة وسوء الخدمة فى المكاتب المحلية لإدارة الكهرباء ( إسكوم ) ، حيث تقضى أياماً طويلة فى الطوابير الطويلة أمام شباك تحصيل الفواتير ، وإن كانت الأسعار تتجاوز إمكانتهم ، خاصة وأن 89% منهم متأخراتهم مضى أوان تسديدها ، و 61% منهم قطعت عنهم الكهرباء فى العام السابق بقرار من الشركة – ولا يستطيعون الطهى أو تشغيل الثلاجات ، فعادوا لاستخدام الفحم وزيت البرافين لتدفئة منازلهم وإنارتها . صدر التقرير فى أبريل 2001 ، مباشرة بعد أن قطعت إدارة الكهرباء ( إسكوم ) الكهرباء عن 120 ألف منزل فى البلاد لمدة شهر . ويفخر المؤتمر الوطنى الإفريقى بأنه أدخل الكهرباء إلى ملايين المنازل التى يقطنها السود . ولكن بحلول عام 2001 ، كان الناس الذين تقطع عنهم الكهرباء شهرياً أكثر ممن يحصلون عليها . آنذاك ، دعونا لاجتماع جماهيري واسع فى " سويتو " فشارك فيه المئات من الناس .

كيف قمتم بتنظيم لجنة سويتو للكهرباء ( SECC ) ، وما هو محور نشاطها ؟

لدينا حوالى 22 فرعاً فى سويتو ، كل منهم لديه لجنة تنظيمية – وحوالى 7000 عضواً فى كل اللجان . تناقش إصدار " كارنيهات "عضوية . وفى الوقت الراهن ، يمكن للمرء الحصول على كارنيه العضوية مقابل عشرة راند سنوياً ، وإن كان يمكن الحصول على العضوية بلا مقابل . أنا شخصياً ليس لدى كارنيه عضوية – فأى شخص له الحق فى العضوية متى شاء . ونعقد اجتماعاً عاماً لكل الأعضاء فى الأول من مارس من كل عام ، ويتم اختيار المسئولين فى اللجنة التنظيمية بالاقتراع المباشر ، الرئيس ، والسكرتير ، وأمين الصندوق .

ويجتمع ممثلو اللجان الفرعية أسبوعياً كل يوم ثلاثاء ، ويبلغ عددهم حوالى 60 عضواً ، يستعرضون تقارير عن المشكلات ، ويرتبوا المتحدثين فى الاجتماعات ، وما غير ذلك . ونحصل على تحويل من منظمة " محاربة الفقر " ، وفى هذا العام ، حصلنا على منحة من الصندوق الأمريكى للرفاهية العامة " ، سوف نستخدمها فى تشغيل منظم وفتح مكتب ، وإن كانت المنحة مقدمة لسنة واحدة فقط .

العمل الأساسى الذى قمنا به " عملية خانيسا " ، وتعنى " الإنارة " ، حيث أعدنا تزويد الناس بالكهرباء حينما تقطع عنهم . وندرب السكان المحليين على كيفية فعل ذلك . وخلال ستة أشهر ، أعدنا ربط أكثر من ثلاثة آلاف أسرة بشبكة الكهرباء واكتشفنا أن كثير من الناس يحصلون بالفعل على كهرباء بشكل غير قانونى ، برشوة العاملين فى إدارة الكهرباء (إسكوم). وحينما طرحنا القضية فى اجتماعات جماهيرية واسعة ، كانت فرصة لأن يكتشف الناس أن جيرانهم أيضاً يحصلون على كهرباء بشكل غير قانونى ، وانهم يخفون ذلك على بعضهم البعض . وحولنا ما تعتبره إدارة الكهرباء عملاً إجرامياً إلى شكل من أشكال التحدى . كان ذلك تكتيكاً ناجحاً وسياسة صحيحة .

نظمنا الكثير من مسيرات الاحتجاج ، ومنها مسيرات إلى منازل أعضاء مجلس المدينة لقطع الكهرباء عنها ، لنذيقهم مما يذيقون الناس ، كما نظمنا مسيرات لمكتب محافظ " سويتو " وعندما استهدفوا اعتقال قياداتنا بعد قطع الكهرباء عن أعضاء مجلس المدينة ، انطلقت مسيرة من 500 من سكان " سويتو " إلى مركز الشرطة فى " موروكا " ، للتضامن معهم ، والمطالبة باعتقالهم أيضاً ، باعتبارهم شركاء فى نفس العمل ، اكتسح المتظاهرون مركز الشرطة .

بحلول أكتوبر 2001 ، تراجعت إدارة الكهرباء ، وأعلنت تعليق قراراتها بقطع الكهرباء عمن لم يسددوا الفواتير . هذا الانتصار منحنا قوة دفع جديدة .

فى ديسمبر 2001 ، جاء " جيف ريدب " وزير المشروعات العامة فى حكومة المؤتمر الوطنى الإفريقى والعضو القيادى فى الحزب الشيوعى ، جاء إلى " قاعة أورلاندو " فى سويتو لتقديم عفواً جزئياً عن المعتقلين . وقلنا أن هذا غير كاف . وطالبنا بتوفير الكهرباء لكل الناس ، بما فى ذلك سكان المستوطنات فى المدينة ، وسكان القرى الفقيرة الذين لا يحصلون على أية خدمات من مرفق الكهرباء ، والإفراج عن كل المعتقلين ، وتقديم الخدمات الأساسية مجاناً طبقاً لوعود المؤتمر الوطنى الإفريقى فى انتخابات المجالس البلدية لعام 2000 ، والعودة للأسعار الشهرية الثابتة مقابل الخدمات التى كانت فى استطاعة الناس – وهو المكسب الذى حققه الناس فى الثمانينات فى ظل نظام الفصل العنصرى ( الابارتهايد ) . من المؤسف أن سكان " سويتو " عادوا الآن للنضال من أجله فى ظل حكومتهم الديمقراطية .

نحن نعارض برنامج الخصخصة الذى يسعى " جيف ريدب " لفرضه مؤخراً ، تقيم إدارة الكهرباء نظاماً جديداً لدفع قيمة فواتير الخدمات الكهربائية مقدماً ( على طريقة كروت التليفون المحمول / المترجم ) ، فى مواجهة ذلك تنطلق حملتنا الراهنة ، وتنظم المسيرات ضد دفع نفقات الخدمات الكهربائية مقدماً – او التحايل عليها للحصول على الكهرباء بشكل غير قانونى كما كانوا يفعلون فى السابق – وتتوجه المسيرات الحاشدة إلى مكتب المحافظ ، وإدارة الكهرباء ، ومجلس المدينة ، وهذا يمنحنا المزيد من القوة والقدرة .

ما الذى أسفرت عنه المسيرة التى توجهت إلى منزل المحافظ "آموس ماسوندو" ؟

خاض " ماسوندو " انتخابات المجالس البلدية لعام 2000 على أساس التزام " مبيكى " بتوفير الاحتياجات الأساسية من المياه والكهرباء مجاناً ، رغم قلة أعداد الناس التى شاركت فى الاقتراع ، وعدم إدراكها للشخص الذى تصوت لصالحه . وبحلول نهاية العام لم يحصل الناخبون على شئ . وكنت قلت فى التليفزيون الوطنى آنذاك أن هذا الكلام مجرد وعود انتخابية ، وبدأ الناس يتهمونهم بالكذب ، كما أعلن المؤتمر الوطنى الإفريقى أنه سيبدأ تنفيذ برنامجه فى أول يوليو 2001 .

وفى 30 يونيو ، أخذنا ( مينى باص ) إلى منزل المحافظ فى " كنسينجتون " ، وقطعنا عنه الكهرباء ، لنذكره بوعوده الانتخابية ، ونطالبه بتوفير المياه و الكهرباء مجاناً لنا اعتباراً من اليوم التالى مباشرة .

نعرف " ماسوندو " شخصياً ، ونعرف أنه يعيش الآن فى ضاحية " كنسينجتون " ، رغم انه قادم من " مولتسينى " . فى الحقيقة ، أن أمه لازالت هناك . تضم حركتنا الكثير من المحالين للمعاش ، لذلك لا يمكننا التفرغ لمطاردته . فى العامل التالى ( 2002 ) ، حينما ذهبنا لمنزله مرة أخرى ، بعد أن رفض مكتب المحافظ الاستجابة لمطالبنا ، أتهمنا بأننا " فتية رقعاء ، غير مهذبين " وأن مجيئكم لمنزلى أمر غاية فى السوء " .

لم يكن الرفاق على استعداد لتقبل ذلك . وحينما عدنا للاجتماع فى سويتو ، اتخذ قرار بأن نذهب إلى منزله مرة أخرى فى الإجازة الأسبوعية التالية لعيد الفصح . وأخذنا اتوبيساً ، ووجدنا هناك حشداً كبيراً ، شارك فيه حتى الجدود وكبار السن . وفتح حراس " ماسوندو " النيران ، فتراجعنا حفاظاً على حياة المشاركين وحياتنا ، بعد أن عمت الفوضى والخراب . والغريب ، كانت هناك شاحنة من العمال المحليين ، وعمال جمع القمامة ، قدموا لنا المساعدات وألقى المشاركون القمامة فى حمام سباحة منزل " ماسوندو " ، وقطعوا عنه المياه والكهرباء . فى النهاية ، تم اعتقال 87 فرداً منا واستخدموا ضدنا القانون الذى يسمح لهم بحبسنا لمدة سبعة أيام ، لكننا تمكننا من حشد الناس عندما كنا نذهب للمحكمة . وأصبحنا نعرف باسم " كنسينجتون 87 " ولم يطلق سراحنا إلا فى مارس 2003 .

هل يمكن أن تحدثنا عن المنتدى المناهض للخصخصة ؟ هل تم إنشاؤه فى نفس وقت إنشاء لجنة سوابو للكهرباء (SECC) ؟

لاشك ان منتدى مناهضة الخصخصة ، تحالف واسع لعشرات الجماعات ، وتعد لجنة سويتو للكهرباء ، أحد أكثر هذه الجماعات نشاطاً . وكلاهما شارك فى تنظيم الحملات ضد جوهانسبرج 2002 . والحقيقة أن المنتدى المناهض للخصخصة تشكل فى يوليو 2000 ، وحينما تشكلت لجنة مناهضة جوهانسبرج 2002 بواسطة العديد من المنظمات ، الاتحاد المحلى للعمال ، العاملين فى التعليم ، منظمات غير حكومية ، منظمات طلابية ، حتى الحزب الشيوعى لجنوب أفريقيا ، شاركوا جميعاً فى الاحتجاجات ضد المؤتمر الدولى للخصخصة ( الذى عقد فى جوهانسبرج 2002)، وعقدوا اجتماعاتهم فى جامعة " ويتس " وأسسنا المنتدى المناهض للخصخصة على أساس مواقف مرجعية بسيطة تقول : " لسنا هنا لمناقشة الخصخصة ، لكننا نريد أن نفعل شيئاً من اجل محاربتها ، ولأننا فى ذلك الوقت كان لدينا كثير من المنظمات البحثية والمنظمات غير حكومية ، والمتحاورين ، وغيرهم ، لذلك رأينا أن هذه الجماعات وظيفتها حرف النضال ضد العولمة . واعطى المؤتمر الوطنى الإفريقى الأوامر لقياداتهم النقابية بعدم الاشتراك فى هذا المنتدى ، لكن العمال المحليين استمروا معنا فى المنتدى لأطول وقت ممكن .

حارب المنتدى المناهض للخصخصة الشركات الأساسية التى تعمل فى مجال المياه ، والكهرباء ، ونزع الملكيات . كان لدينا مكتباً مركزياً فى " كوساتو هاوس " ، بوسط مدينة جوهانسبرج ، يحصل على بعض الأموال من جماعة " الحرب على الفقر " والجماعات الأهلية فى المجتمعات المحلية . على سبيل المثال ، كان يوجد فى الجنوب منتدى بوفلونج ، فى " فال " ، واللجنة التنسيقية للعمال ، وثلاثة لجان أخرى . وفى الشرق ، كانت هناك الجماعات الموحدة من المقيمين من مختلف أنحاء الجنوب الأفريقى ولجنة السلام . وفى جوهانسبرج هناك جماعة جوهانسبرج ، وجماعة سويتو ، وجماعة الزراعة العضوية ، ولجنة أخرى فى " زيميبيل " ولجنتان فى " الكسندرا " ، وتم افتتاح ثلاثة لجان مؤخراً فى منظمة شمال غرب جوهانسبرج. تجتمع اللجنة التنفيذية للمنتدى المناهض للخصخصة مرة كل أسبوعين ، وتتكون من ممثلى كل المنظمات ، كما أن لدينا لجنة تنسيقية تجتمع مرة كل شهر ، وتتكون من خمسة ممثلين من كل مجموعة .

الآن ، نسعى لتشكيل لجان تضامن إقليمية لكى يتمكن الناس من التعبير عن تضامنهم المباشر مع بعضهم البعض حينما يتم قطع المياه أو الكهرباء عن إحدى المناطق ، فى " زيمبيل " مستوطنة من الأكواخ والعشش ، يقطنها أربعة آلاف انسان . يواجهون الترحيل الإجبارى – الذى يتم عادة فى الليل . وذلك حينما يبعث مجلس المدينة برجال الأمن يرتدون بدل حمراء ، ويسميهم الناس هنا " النمل الأحمر " . ليتم طرد ألفين او ثلاثة آلاف من سكان العشش ومصادرة الأرض . وصرح مجلس المدينة أن هذا الإخلاء ضرورى لأن الأرض غنية بالرخام ، لكننا نعرف أن الرخام يوجد على بعد عشرة كيلو مترات من هذه الأرض ، وان السبب الحقيقى لمصادرة الأرض ، هو استخدامها لبناء مستوطنات لسكان جدد من الطبقة الوسطى ، معظمهم من آسيا .

وفى فبراير هذا العام ( 2003 ) ، تم إطلاق النار على " اميلى ننجولا " ، إحدى نشطاء لجنة الزراعة العضوية ، وماتت فى منزلها ، في عملية اغتيال سياسي . إلى أى حد بلغ العنف والقسوة الذى يستخدمه المؤتمر الوطنى الإفريقى ضد الفقراء فى المستوطنات ، وضد قادة المناهضين للخصخصة ؟

إذا أردت أن تنقل الناس من المكان الذى عاشوا فيه خمسين عاماً ، وطردهم من كوخ لآخر ، دون نقلهم إلى مسكن مناسب ، فلابد ان تجبرهم على ذلك مستخدماً " النمل الأحمر " ، والجرافات والهراوات ، والشرطة . وقطع الكهرباء ولا يمكن تجنب العنف فى كل ذلك . حتى عندما طارد الناس رجالات إدارة الكهرباء حينما جاءوا للقيام بأعمالهم ، دعت الشرطة إدارة الكهرباء للاستعانة بشركة خاصة للأمن من اجل حماية رجالاتها . وأصبح أمن الشركات مصدراً جديداً للإزعاج والمضايقات والقمع . كما قامت الشرطة باعتقالنا أثناء مسيراتنا – على الرغم من حصولنا على إذن بالمسيرة ، إلا انهم لم يعترفوا به ، وتصدوا لنا ، كما فرضوا علينا قيوداً عديدة .

على سبيل المثال ، خلال محاكمات " كنسينجتون 87 " ، قالوا أنهم لن يسمحوا لنا بالتجمع إلا على بعد 200 متر من المحكمة ، بعيداً عن الأنظار . لكن الناس تحدوا القيود ، واستخدمت الشرطة الغازات المسيلة للدموع ، والرصاصات المطاطية ، وخراطيم المياه . هذه مجرد بعض أشكال من العنف ، ولا يقتصر الأمر على ذلك ، فأنت مهدد بالتعرض للعنف دائماً .

فى هذا الإطار ، كان وراء اغتيال " اميلى " دوافع سياسية واضحة ، انعكست على المنطقة برمتها ، بينما كان مركز المؤتمر الوطنى الإفريقى الذى يشكل القيادة المحلية ، فى غاية التشفى والسعادة باغتيالها .

ماذا أسفرت عنه نضالات المنتدى المناهضة للخصخصة ولجنة سويتو للكهرباء ؟ أو هل قدمت هذه الموجة من النضالات شيئاً جديداً ؟

أنها موجة جديدة ، لكنها اعتمدت على خبرات وتقاليد الأيام القديمة . أصبحت لجنة سويتو للكهرباء ، لجنة شعبية ، جاءنا الناس ليطرحوا مشكلاتهم باعتبارنا معارضة لها وضع رسمى فى سويتو . ساعد على ذلك ، الهجوم علينا من جانبهم باعتبارنا مناهضين للمؤتمر الوطنى الإفريقى . وحينما دعوا لاجتماعات ، كنا نذهب إليها لتفنيد ما يطرحونه ، لكنهم لم يجرءوا على المجئ لاجتماعاتنا .

كيف تغيرت المدينة نتيجة لانتهاء عصر الابارتهايد ؟

أهم التغيرات اللافتة للانتباه ، النمو المذهل للمستوطنات الرسمية ، انتقال المنطقة المركزية للأعمال وبروز أشباه مدن جديدة فى الضواحى ، إلى حيث انتقلت الأنشطة الاقتصادية والمالية الكبرى . تم هذا التغير فى سويتو بشكل تدريجى من خلال : التوسع فى تقديم القروض لإنشاء المساكن ، والتوسع فى بناء المنشآت ، وحلت المساكن الواسعة المرتفعة محل الساحات المكتظة بالعشش ، وتحويل الساحات المليئة بالعشش إلى ملكيات خاصة سعياً للتخلص من العشش . فى ظل الابارتهايد ( الفصل العنصرى ) ، كان للمرء عادة يعيش تحت سيطرة إدارة المدينة ، التى كان لا يتولاها إلا الأفارقة . فالمسكن الذى تقطنه ، مخصص لك ، ولابد أن تسجل القاطنين معك ، لكى يسمح لك بالعيش والبقاء فيه . وعندما يبلغ طفلك السادسة عشرة تسأله إدارة المدينة ، إذا ما كان يرغب فى الانتقال إلى منزل للشباب . كان الغرض من ذلك هو فرض السيطرة الشاملة على كل سكان المدينة . كان لا يدخل زائر للمدينة إلا بتصريح . وكانت شرطة المدينة تفتش باستمرار لمراقبة النظام ، وتطرد أى شخص من منزله إذا خالفه ، وكانوا أشد صرامة فى التعامل مع المناطق الأكثر إذدحاماً ، ويفرغونها بإعادة سكانها إلى الأماكن الأصلية التى جاءوا منها . وإذا مات الزوج ، يتم إبعاد الأسرة إلى بلدهم الأصلى ، أو إلى مكان آخر . لم تكن تستطيع إقامة عشة فى أرض مهجورة إلا بموافقة إدارة المدينة ، علاوة على ذلك كان لابد من الحصول على إذن منها للسكن فى حجرة مهملة أو جراج ، حيث كانت الجراجات تستخدم للسكن .

بمجرد توقف القمع فى نظام الابرتهايد ، بدأ الناس فى البناء أينما شاءوا ، وتزايدت العائلات وجاء الناس إليها من كل مكان ، وانتشروا فى ربوع المدينة . ونمت العشش حول سويتو . بالطبع كان المقيمون فى سويتو ، هم المميزون ، أو أصبحوا كملاك الأرض فى كل المناطق الجديدة .

كانت التغيرات فى المنطقة المركزية للنشاط الاقتصادى عميقة إلى حد كبير . كانت هذه المنطقة قاصرة على البيض فى زمن الابارتهايد ، كانت شديدة العداء وكثيرة الإزعاج للسود .

فى أواخر الثمانينات ، وأوائل التسعينات ، حدث انتقال كبير للمراكز الاقتصادية إلى " سندتون " ، فى الضواحى الشمالية للمدينة . وبالتالى ، انتقلت بورصة جوهانسبرج إلى هناك ، على الرغم من أن البنوك الكبرى بقيت فى المركز . وطرد البيض الذين كانوا يعيشون فى منازل متعددة الطوابق بشكل جماعى . وقام الملاك بتأجير الشقق الخالية والمكاتب للعمال السود القادمين من أثيوبيا ونيجريا وموزمبيق والصومال وزيمبابوى . كانوا يؤجرون الشقة لعشرة أفراد مقابل 200 راند ( العملة الجنوب أفريقية ) شهرياً لكل واحد منهم ، بدون تقديم أية خدمات . استولت لجان المستأجرين على بعض هذه المساكن ، نجح بعضها ، وفشل بعضهم الآخر ، لأن هذه اللجان لعبت نفس الدور الذى كان بلعبه الملاك ، فأجرتها لهم كل عشرة أفراد فى وحدة مقابل 200 راند .

استفاد بعض الناس من قيام " مدن غير رسمية " فى جوهانسبرج ورحبوا بها ويبدو ذلك مواكباً للإدعاءات التى قالت مبكراً أن الاقتصاد الأسود خرج من رحم الاقتصاد غير الرسمى .

لاشك أن الاقتصاد الرسمى تحلل فى مركز المدينة ، وخربت المحلات ، وأهملت المكاتب . وقد يشترى الشباب السود محلاً ويستخدمونه لبيع المأكولات المحلية ، لكن ذلك لا يمكن اعتباره إزدهاراً للنشاط الاقتصادى للسود – فكانت أسعار هذه المحلات والمكاتب مرتفعة ، كما أن قانون المناطق التى تتركز فيها جماعات محددة مكن الآسيويين من امتلاك هذه المحلات . الآن هناك الكثير من التجار والباعة الجائلين يفترشون الشوارع ، وأيضاً نساء يعملن ( كوافيرات ) على الأرصفة أو يقدمن الخدمات المشابهة لذلك من أجل المال .

وهناك أيضاً الكثير يعملون سائقين للتاكسيات المتعددة الطوابق لأن وسائل النقل العام بالغة السوء . لكن الاتجاه الاقتصادى العام بالغ الوضوح : الأغنياء صاروا أكثر غنى ، والفقراء أشد فقراً . الآن ، أصبحت جنوب أفريقيا فى ظل حكم المؤتمر الوطنى الإفريقى ، تفوق البرازيل باعتبارها أكثر بلدان العالم تفاوتاً بين الأغنياء والفقراء . فطبقاً للإحصاءات ارتفع معدل الأسر الواقعة تحت خطر الفقر فى جنوب أفريقيا خلال السنوات الخمسة الخيرة بنسبة 19% ، بينما ارتفع معدل الأسر الغنية البيضاء بنسبة 15% . كما بلغت نسبة العاطلين عن العمل الآن 43% من جملة قوة العمل ، وترتفع النسبة فى بعض المناطق الريفية إلى 80% . وفقدنا أكثر من مليون وظيفة ، وارتفعت أسعار الأغذية الأساسية . ونتيجة لخفض الإنفاق العام وتفشى أزمة " الإيدز " أصبحت الخدمات الصحية فى وضعية بالغة التدهور ومثيرة للفزع .

بالنسبة " للمدينة غير الرسمية " قد تبدو للوهلة الأولى نابضة بالحيوية وترية بالألوان المتنوعة ، لكن علاقات القوى لا تختلف . فالبنوك وشركات التأمين تسيطر عليها تماماً وقوية وضخمة ، ومحصنة ، ولها شبكات واسعة وأفرع كثيرة ومتشعبة ، وقدرة على الوصول إلى الضواحى .

الآن ، أعلن مجلس المدينة عن رغبته فى إعادة تنظيف منطقة النشاط الاقتصادى المركزية مرة أخرى . واستهدف تنظيف وتنظيم اكثر من ثمانين منشأة وطرد القاطنين فيها بالقوة . ويسعى المجلس لتحديد شوارع بعينها للتجار ، وإقامة منشآت ضخمة لهم ، والتخلص من طوابير التاكسيات متعددة الطوابق التى تشبه السجون المتحركة .

مرة أخرى تطرح مشكلة السيطرة على المدينة غير الرسمية . سوف يمنح الباعة الجائلون مساحات فى داخل هذه المنشآت الضخمة ، ولذلك سيكونوا بعيدين عن الأنظار . فى هذا الإطار ، أنشأ مجلس المدينة شرطة خاصة للعاصمة – أكثر شراسة من الابارتهايد فى ذروته . واستعانوا بمستشارين من شرطة نيويورك لتدريب قوة شرطة العاصمة على أساليب القمع المفرط . وهكذا ، أصبحت المدينة مكاناً للعدوانية والعنف مرة أخرى . فالمعتاد أن توقفك قوات الشرطة إذا ما استرأبت فيك ، وتسألك عن أوراقك ، بالضبط كما كان يحدث فى عصر الابارتهايد . بالإضافة لذلك ، هناك عدوانية شديدة تجاه المهاجرين غير القانونيين . وأحياناً يقوم ( النمل الأحمر ) بفرض حصار على منطقة كاملة ، ويتحقق من أوراق كل من فيها . ويقبض على كل من ليس لديه أوراق تثبت قانونية وجوده كمهاجر ، ويرسلهم إلى معسكر الاعتقال فى " ليندلانى " ، على بعد 50 كيلومتر من جوهانسبرج ، تمهيداً لترحيله ، أولئك يركبون قطار أمن هناك إلى موزمبيق أو إلى أى مكان آخر . هذا المعسكر يديره قادة بارزون فى عصبة النساء فى المؤتمر الوطنى الإفريقى .

كيف تقارن بين دور كل من " مانديللا " و " ميبكى " ؟

مانديللا لعب دوراً يحاول الكثير من رجالات الدول الإفريقية أن يلعبه : دور القيصر . حرر نفسه من السياسات الرسمية ، لكى يلعب دور الأب الروحى . لذلك يمكنه ان يغرد ويجذب المعجبين فى الداخل والخارج ، ويحبه الجميع من الأطفال وحتى الحكوميين . ويغطى على فشل " مبيكى " فى مواجهة " الإيدز ". وينتقد " جورج بوش " علناً ، وهو الأمر الذى لا يستطيعه " مبيكى " بالطبع . ويظهر بشكل منتظم فى التليفزيون ، ويفتتح العيادات الطبية والمدارس فى الأرياف والقرى . ويرعاه أصحاب رأس المال . وهو الأمر الذى يظهر الشراكة الكبيرة بين القطاع الخاص والحكومة والشعب . يجب التصرف كالآباء المسيحيين ، وأن يضع نفسه فوق السياسيين . وفى وقت الأزمة ، يكون مانديللا هو المرجعية ، وصاحب الحديث الناعم والحكيم والمواقف المتملقة للجميع . يتصرف بشكل متفرد تماماً . إعتاد على إدارة اجتماعات المؤتمر الوطنى الإفريقى وكأنه رئيس – يطلق حرية الكلام للجميع ، ثم يضع القواعد ويكون هو الفيصل والحكم . ويقف بالساعات أمام كاميرات التصوير ، وينادى المصورين بقوله " أبنائى الوثنيين " ، وهو ما يحمل معنى الإهانة أو التحقير ، ثم يمضى بعيداً دون ان يغضب أحد ، لأنه الزعيم المتفرد .

أما " مبيكى " فهو الأكثر رسمية وتجهماً وفظاظة . تعلم فى " معهد لينين " وقضى وقتا طويلاً يحمل حقيبة " أوليفر تامبو " فى الدوائر الدبلوماسية فى الغرب . يعتقد انه مثقف لكنه فى الحقيقة لا يقول إلا عبارات متحذلقة . ويراه العالم كرجل دولة أفريقى رصين ، أثير لدى البنك الدولى ، قادر على جذب القارة لتنفيذ أوامر البنك وسياساته ، ولكنه متواضع ازدراء واسع فى جنوب أفريقيا . ففى المسيرة التى خرجت خلال إنعقاد القمة العالمية للتنمية المستدامة فى 31 أغسطس 2001 كانت أكبر مظاهر الإذلال والتحقير له ، وفضحت مدى ضعفه فى بلاده . احتشد فى اجتماعنا أكثر من 20 ألفاً ، بينما لم يحضر اجتماعه فى هذه المناسبة سوى 3 آلاف فقط ، رغم أن الداعى له مؤتمر النقابات العمالية ، والحزب الشيوعى ومجلس الكنائس بجنوب أفريقيا . وارتكب سلسة من الأخطاء الفاضحة ، خاصة فيما يتعلق بزيمبابوى ، والإيدز ، والفساد الذى أحاط بصفقة أسلحة قيمتها 5 بلايين دولار . ورغم أن مؤيدى " مبيكى " أصبحوا غير مرتاحين لسياساته ، إلا ان مانديللا يتدخل ، لأن الحقيقة أنه من نفس طبيعة سياسييه ، شركاء فى مشروع واحد ، وموحدين فى اتجاهاتهم وتوجهاتهم.

لازال المؤتمر الوطنى الإفريقى يعتمد على رصيده الجماهيرى منذ قيادته للنضال ضد الابارتهايد ، على الرغم من العنفوان المستجد ضد سياساته النيوليبرالية . ما هى إمكانيات بناء بديل يسارى مستقل ؟ وما هى العناصر التى قد يشملها هذا اليسار ؟ وهل هناك أية مؤشرات عن تصدعات فى تحالف المؤتمر الوطنى الإفريقى – الحزب الشيوعى – مؤتمر النقابات العمالية ؟

نحن فى حاجة لمثل هذا البديل ، لكنه لا يزال بعيد المنال . حينما شن " مبيكى " هجوماً على قادة جنوب أفريقيا للنقابات العمالية وكذلك على الحزب الشيوعى ، أطلق عليهم " اليسار المتطرف " – وذلك عندما شعر أنه مهدداً من المدى الواسع الذى بلغته التحركات المناهضة للخصخصة وبلغت ذروتها خلال القمة العالمية للتنمية المستدامة – وقام بالفعل بدفعهم للاحتشاد خلفه ودعم مواقفه . وأعلن الحزب الشيوعى على الفور ان " حكومة " مبيكى " هى حكومتنا ، و المؤتمر الوطنى الإفريقى مؤتمرنا وسوف ندافع عنهما " . كما أعلن " ويلى ماديشا " رئيس مؤتمر النقابات العمالية بجنوب أفريقيا ، قائلاً : " يجب ان نترك خلافاتنا جانباً ونتمسك بمساحات الاتفاق المشتركة " . يحتاج " مبيكى " لمؤتمر النقابات العمالية و الحزب الشيوعى لاحتواء الطبقة العاملة والحفاظ علي أصوات الناخبين . لاشك فى أنه يريد إنهاء هذا التحالف ، ولكنه يخشى ان يتحولوا لمعارضة . هناك بعض الأقاويل غير المؤكدة عن تقدم الحزب الشيوعى بمرشحين مستقلين فى الانتخابات ، وإن كان ذلك لن يحدث فى انتخابات 2004 – فمتى يمكن للسياسيين أن يتخذوا موقفاً مستقلاً من المؤتمر الوطنى الإفريقى ؟… ………

على الرغم من ان العمال يطردون من أعمالهم ، ويقع قيادات مؤتمر النقابات العمالية تحت ضغط العمال الذين يطالبونهم باتخاذ موقف . ولعل هذا هو السبب فى دفعهم لتنظيم إضراب عام سنوياً . الآن ، نحن ندعو لاجتماع سنوى عام . لكنهم دائماً يؤكدون لمبيكى أنهم لن يهاجموا المؤتمر الوطنى الإفريقى ، ورغم ذلك كان إضراب هذا العام ، على الرغم من محدوديته ، معارضاً بصرامة لسياسات الخصخصة التى تنتهجها الحكومة ، وقام العمال بإحراق صور " مبهازيما سيلوقا " – السكرتير العام آنذاك لمؤتمر النقابات العمالية، والرئيس الحالى للحكومة المحلية فى منطقة " جوتنج " الصناعية – وهتفوا بسقوطه ، عندما حاول توجيه خطاب لهم ، بينما هتف أتباعه ومرءوسيه فى مؤتمر اتحاد النقابات بحياته وحياة المؤتمر الوطنى الإفريقى . إذا كان القادة قد استولوا على أجساد العمال إلا أن أرواحهم تحلق بحرية . ويوماً ما لن يسمحوا بالاستيلاء على أجسادهم .

يقول البعض فى الحركة المناهضة للعولمة أن الطبقة العاملة انتهت ، وأن الحركات الاجتماعية أو المجتمع المدنى نفسه هم الآن القوة التى تقود حركة التغيير . ولكن ، إذا كنا أمناء ، فإن بعض هذه الحركات الاجتماعية ليست أكثر من مكتب ومنحة مالية من هنا أو هناك . ينظمون ورش العمل ، ويدفعون للمشاركين ، ويقدمون لهم غذاء لطيف ، وبعدها يكتبون تقريراً جيداً . ولا يقيمون شيئاً حقيقياً على الأرض . قد يكون " المجتمع المدنى " موضع ارتياب ، حيث يضع نفسه فى خدمة قطاع الأعمال واستمالة المنظمات غير الحكومية لعقد اتفاقيات مع الخدمات الحكومية المخصخصة . لاشك أن الطبقة العاملة تواجه معوقات أكبر على المستويين السياسى والتنظيمى ، فى ظل التحول نحو الليبرالية للمؤتمر الوطنى الإفريقى والأحزاب الجماهيرية الأخرى ، وأيضاً فى ظل سيادة العمالة غير المنتظمة وغير المنظمة . ورغم ذلك تبقى الطبقة العاملة مكوناً أساسياً لأى بديل يسارى استراتيجى . من ناحية أخرى ، يشكل الارتفاع الكبير لمستوى البطالة مشكلة حقيقية . فهى تجعل العمال أكثر حذراً وأقل فاعلية نضالية . لذلك ، نحن فى حاجة لتنظيم كل من العاملين والعاطلين ، ومواجهة أساليب التمزيق والإخضاع التى تمارسها الرأسمالية .

ما هو تقييمك للمنتدى الاجتماعى العالمى ؟

معظم اليساريون هنا يتشككون تماماً فى الحركة المناهضة للعولمة منذ البداية ، وبدأ الهجوم عليها من قيادات فى المؤتمر الوطنى الإفريقى مثل " تريفور مانويل " وزير المالية ، الذى رفضها باعتبارها اختراق للشباب الثرى ودفعه نحو اللهو .

رغم ذلك ، هناك نقاط قوة ونقاط ضعف للمنتدى الاجتماعى العالمى ، فمن الضرورى أن تكون لنا به علاقات ، فهو يمثل الحركة فى الألفية الجديدة ، وبشكل شخصي ، حصلت على فوائد كبيرة من المناقشات التى حضرتها فى " بورتو اليجرى ، عن أساليب النضال . كانت الاجتماعات مع ناس من المنسقين فى بوليفيا مثل " أوسكار أوليفيرا " وآخرين ، أمراً مثيراً للالهام ، تمكن من اكتشاف ما يمكن القيام به للنضال ضد خصخصة المياه هناك . هذا نوع من التضامن يمكن ان يكون قوة دافعة تمكنك من الاستمرار فى النضال .

ما هى الأولويات الرئيسية للحركة ؟

أعتقد أن القضية الحاسمة ، هى قضية السلطة السياسية : بعض الناس يهاجمون فكرة استهداف الاستيلاء على سلطة الدولة . فالقول بأن العولمة تقوض دور الدولة القومية ، وعليه لابد من تجنب النضال ضد البرجوازية القومية فى بلدك . لكننا فى جنوب أفريقيا لا يمكننا أن نتغاضى عن مجابهة المؤتمر الوطنى الإفريقى و " مبيكى " والنضال ضدهما . وبالمثل لا يمكن للنشطاء الأميركيين إلا ان يناضلوا ضد " بوش". بينما قيادات المؤتمر الجنوب أفريقى للنقابات العمالية و الحزب الشيوعى ، يرحبون بالنضال ضد الامبريالية فى كل أنحاء الأرض إلا فى بلادهم . لاشك أنه كان من الضرورى التظاهر ضد اجتماعات القمم العالمية فى سياتل ، وحتى فى الدوحة ، ولكن أيضاً هناك مشكلات فى ملاحقة قادة ونخب العولمة الرأسمالية فى كل أنحاء الأرض . لابد أن يقوم الفقراء بفعل شئ لمواجهة ذلك ، لا يمكننا أن نطالبهم بالسفر للعواصم العالمية لمناهضة قمم الرؤساء والمؤسسات المالية العالمية . لا يمكن ذلك إلا لمن لديهم أموالاً كثيرة .

القضية هى أن نبنى حيث نحن . لدينا ورش عمل عن البنك الدولى ، وعن صندوق النقد الدولى ، ومنظمة التجارة العالمية ، إننا نكشف للناس ضرورة مواجهة مثل هذه المشكلات . وخضنا حملة ضد النيوليبرالية فى جنوب أفريقيا . لكننا أيضاً لدينا الكثير من المشكلات الأساسية : ما هى المشكلات التى تواجه الناس فى الواقع وبشكل يومى . والتى تزيد من وحدتنا ؟ فى " سويتو "، تبقى الكهرباء هى المشكلة الأساسية فى منطقة أخرى ، تكون المياه . نحن تعلمنا أنه لكى تكون تنظيماً فعالاً ، لابد أن تتحدث للناس ، من بيت لآخر ، أن تتواصل مع الجماهير . ولكن لابد أن تبنى وفقاً لرؤية . منذ اليوم الأول لانقطاع الكهرباء عن الفقراء الذين عجزوا عن مواجهة الارتفاع فى أسعارها ، قلنا أن الخصخصة سبب المشكلة ، والخصخصة نتيجة "لبرنامج النمو والتشغيل وإعادة البناء " ، وهو البرنامج الذى يعكس مطالب الرأسمالية الكوكبية ، ويندفع المؤتمر الوطنى الإفريقى نحو تنفيذها . لن نتمكن من كسب هذا الصراع المباشر فى النهاية إلا إذا كسبنا إلى صفوفنا أعداداً أكبر من الناس...

‏نيوليفيت ريفيو – يوليو / أغسطس 2003
ترجمة: خالد الفيشاوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب جامعة كامبريدج يواصلون اعتصامهم المفتوح تضامنا مع فلسطي


.. -موت القيم الأوروبية-.. موظفو مؤسسات الاتحاد الأوروبي يتظاهر




.. مغنٍ سويدي من أصل فلسطيني يخترق قوانين يوروفيجن احتجاجا على


.. ??طلاب كامبريدج يواصلون اعتصامهم للمطالبة بسحب الاستثمارات ف




.. طلاب متضامنون مع غزة يعتصمون في مبنى بجامعة بروكسل