الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوپه-ديناري

هاشم مطر

2019 / 12 / 21
الادب والفن


تريثْ؛ قلتُ تريثْ يا ولدي، سألدُكَ من جديد، لا تطرقْ جدارَ الرحمِ برجليكَ، فما زلت صغيراً حتى أولدك، فلا تظن أنني أخافُ على نفسي من وجعٍ، لكنَّ فؤادي يوجعني لأجلِ قدميك، فهما ما زالتا صغيرتين على طرق الجدرانِ ومكابدةِ الآلامِ والسعي لحقوقِ الأيتام. وكما تعرفني من قبل حين ولدتك معافى، فانا اعتني بك وبأخوتكَ كما كل الأشياءِ المحبوبة لوحام الأم لتخرج منتبهاً لضيم الأزمانِ وهوانِ القدرِ المعقوفِ كلدغةِ عقرب. لكنك لم تولدْ بوحمةٍ يا ابني، بل كنتَ مشاكساً فنقشتُ على صدرك رسمَ (الديناري)* تيمناً بالحظِّ ودرئاً لمكروهٍ يترقبُ أو ألماً يتأصَّلُ، فلا تتعجلْ فما زال دمُكَ في سَنَكِ الساحةِ سَنَكاً*، ورقةً صعبةً، اعرفُ ذلك، حصلَ ذلك بالأمس ِفقط أمامَ المرأبِ، قبل الجسر، أم أراك تفقدُ وعيَكَ مرة أخرى أو تنسى أو بالأحرى تتناسى أين سقطتَ، فالساحاتُ كثيرةٌ يا ولدي.
حسناً سأروي لكَ كيفَ حصلَ.

خرجتَ مساءً تتسلى بأهازيجِ النصرِ وتنتظرُ بزوغَ الفجرِ كما في كلِّ الأيامِ المليحةِ، في وقت ما زلتُ ادعكُ الحناءَ على ظاهرِ يديّ، قلقاً أو خوفاً من خبرٍ طائر، هكذا تقولُ القصةُ: الشغبُ شاغلناهُ والشعبُ شعاباً وصلوا الساحةَ، قلت عنها آخر مرة: جموعٌ غفيرةٌ ليستْ غفورةً هذه المرة، وما زلتَ في عنادٍ نافرٍ، فخيطُ البياضِ هذه الأيام ليس كعادتهِ لم يشقْ حاجبيّ السواد المعقودين بدلال الأمِّ، يحجبهُ الدخانُ ويأفلُ كلما حاولَ، ظننتُهُ معاقاً، وانا ألوبُ وأنتَ تضحكُ، تسرقُ من السحر لحظاتهِ وتشاغلُ بهرتَها كسباً للوقتِ، لتجلبَ لأخوتِكَ رغيفَ الخبزِ الحارِ مع الفجرِ من مخبزِ جارِنا برأس الشارعِ، "فرنُ الأحباب".

مازلنا أحباباً يا ولدي، بل طوفةً على طوفة1، أو كنا كذلك أيام الندرة، بناها أبوك المقعد الآن أمامي بتفجير إرهابي في الصدرية لأنه يبيع الخضرة هناك! والآن وبأمر من دائرة الأمن وحتى شيخ الجامع: الطوفة مع الجيران عمل مخل بالأخلاق، فلا بد أن تعلو بأكثر من مترين، ومازال جارنا، صاحبَ الفرن، ينتظرك كما في كل صباح، ولا يسألك ثمناً، أطالَ اللهُ بعمرهِ، إنهُ فاعلُ خيرٍ، برغمِ قائمةِ الديونِ المتراكمةِ، بعض منها نقداً يسجلُها خجلاً كعددٍ إضافيٍ لأقراصِ الخبز، بل يسقطُها من قائمتهِ، هذا رجلٌ أخافُ عليه كذلك من بطش (العلّاس)2. حينها عدتَ محمولاً على كتفِ رفيقكَ، لا أتذكر اسمه، فالأسماءُ تتشابهُ بعد الموتِ فلا فرق إنْ كنتَ ولدتَ من رحمي أو من رحم جارتنا التي تحصي أعقابَ السجائر، تفلها وتلفها وتفتلها كحبل القنب، صَنْعَتَها، لتكون وجبتها الوحيدة ليوم تالي، وهي بانتظار سكونِ الرصاصِ، لكنّه لم يخمدْ فخمدَ حبيبها جثة.
عاد صديقُكَ قبلَكَ يحمل عقب سيجارتها طلقةً خلف أذنه بدلاً من عقبِ سيجارةٍ تُشعله وتهدّأ صدرَها. لا بأس، إنها لن تدخنَ بعد اليوم، فالتدخين مضر بالصحةِ حسب "منظمة الصحة العالمية" المنشور ضمن مواصفات الإنسان المعافى من أمراض العصر، وكما تعلم نحن نتابع نشرات العالم وهو مشغول عنا، لا بأس نسامحه حبيبي فهذا العالم يقظ لحماية مصالحه، لكنَّ القائمةَ طويلة ونحن في الذيل كما تعرف، فلا يصلنا شرفُ التفاتته لحاجتنا حتى بعد فوات أوانه، قطعاً بالمرة لا!، فما لجتك هذه إذن لتولد سريعاً يا ابني؟ ها أنك عدت ببضعة أقراصٍ من خبزٍ مرشوشٍ بالدم! نمْ وارتحْ قليلاً. أراك عجولاً يا ولدي!

لالا يا حبيبي لا أوبخكَ، بل أعينكَ على قسطِ الراحةِ، فجارتُنا ولدتْ هذا اليوم فوضَعْنا بصدر المولودِ دعاءً مزموماً على نحو (كوپه)* علامتهُ القلب بدل الديناري أقوى الأوراق نملكها فلا نستخدمها، فنحن لا تستهوينا القوة، نحب الكوبه فلونها أحمر كالديناري، كذلك قلبها مضطربٌ كما قلبُ العاشقِ، حتى أنت تحبُّها فلن ترفسَني في موضعِ قلبي وأنتَ ببطني وهذه علامةُ أنك ابن أبيك ومن ظهره حملتك وفديتُ وريديكَ نهرينِ صغيرينِ لنهرين كبيرين، آه كم يشغلك حبُّهما، حتى من دون أن تعرفَ منبعيهما وأين يصبان!. هل تذكر حينما فاجأكَ المعلمُ وسألكَ عنهما في يومٍ قائظٍ، وهما شحيحان، صادَرَهُما الجيرانُ، فقلتَ أنهما ينبعان من العالم ويصبان في وطني! تلك هي الكوپة يا ولدي أنْ تعشقَ وتغامرَ برسمتها فهي حدود العالم ومآل النهرين وقلبيهما.
تمهلْ؛ فولادتُك ستأتي مع عددِ أوراق الكوپه الساقطةِ على أديمِ الأرضِ، ولكثرتها ستسيحُ وتتحولُ الى رسم الديناري رمزاً للنصرِ، فالنصرُ شبيهُ الشبانِ المولودينَ من دونِ قماطٍ مثلكَ، وسأولدكَ حتماً لتحضرَ مراسيم العرس، وسأقبلُكَ أينما يشتدُّ النبضُ بموضعِ وحمتِكَ الديناري، والكوبة يبقى رسماً منقوشاً في صدرِكَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) من رموز اوراق اللعب
(1) : الطوفة: الجدار الحاجز بين مكانين، اصلها من (الطّوف، طافة) عربية.
(2) : العلاس: استحداث عراقي دارج كنعت للغدر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟