الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماركس، الماركسية والليبرالية

نهاري عبد القادر

2019 / 12 / 22
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


منذ نهاية المعسكر الشرقي وفشل الشيوعية في صيغتها السوفياتية كنظام حكم بديل ومواجه لما ينتجه الغرب، اختفت مفاهيم الشيوعية والاشتراكية عن المشهد السياسي لكن لم يطل الامر وسرعان ما عادت من جديد مع بروز حركات اليسار الجديدة في ثوبها "الاجتماعي" الجديد والتي تعلن بعضها القطيعة مع ما ساد من مفاهيم سابقا كما هو الحال مع اليسار المتطرف الذي ينسب نفسه لتروتسكي في حين تعلن أخرى أنها "مراجعة" واستمرارية لذلك الماضي الطويل، فأعادت الى الواجهة تساؤلات أخرى كثيرا ما تحوم حول مفهوم الماركسية، هذا المفهوم الذي أخذ أبعادا عدة غالبا ما ترتبط في "مخيال" الناس بالاتحاد السوفياتي او ربما في أحيان كثيرة بـ "ستالين".
إن أول ما يجب البحث فيه في محاولة فهم الماركسية وجوهرها هو "من هو ماركس؟" وما الذي قدمه ماركس وهل يختصر في الشيوعية والاشتراكية؟ وهل الماركسية وماركس هو الاتحاد السوفياتي والحزب الواحد؟
غالبا ما يقدم ماركس (Karl Marx) على أنه في مواجهة لآدم سميث (Adam Smith) وأنهما في طرفي نقيض، غير أن هذه النظرة سطحية جدا ومبنية على أوجه مقارنة خاطئة من أساسها. فخلافا لما قدمه آدم سميث من نظرة اقتصادية بحتة تتلخص في أهم الإجراءات التي يجب ان يُعْمَلَ بها لانعاش اقتصاد الدولة وضمان حيويته كرفع الحواجز الجمركية على التجارة الدولية معتبرا أن مفتاح ثروة الأمم هو الإنتاج والتبادل (la productivité et les échanges)، "كارل ماركس" فيلسوف لم تقتصر نظرته في الجانب الاقتصادي فقط، بل غاصت في حركية المجتمع ولم يقدم حلولا ثابتة كما روج له الأتباع أو بالأحرى كما فهمه هؤلاء، ماركس – على عكس سميث – هو مجموعة من الاليات "النقدية" التي تعتمد الجدل المادي كطريقة للبحث والتفسير، وليست نصوصا جامدة. كما ان هناك فرقا شاسعا بين النظرية والتطبيق فيما يخص الماركسية، ماركس طرح "منطقا تحليليا" يسمى التحليل المادي او "الجدلية المادية" ربط به بين علم الاجتماع، علم الاقتصاد وعلم السياسة وتنطلق نظرته من فكرة ان الكون يسير تبعا لقوانين المادة بعيدا عن اي تدخل غيبي، هذا "اللوجيك" الذي قدمه ماركس هو امتداد لفلسفة الجدل – الدياليكتيك - عند هيجل والتي تقول بأن "الحركة هي وليدة الصراع بين الثنائية المتناقضة"، ماركس سار على هذ المنطق واعتُبِرَ تَتِمة له وأطبقه على حركية المجتمع الانساني ولخصه في فكرة صراع الطبقات -la lutte des classes- موضحا أن الصراع بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة هو ما يولد ديناميكية الانتاج المستمرة وان اي ميل لهذا الصراع لصالح كفة معينة سيختل الإنتاج.

لعل أبرز ما ألحق الضرر بفلسفة ماركس هو ذلك الاستباق التاريخي الذي قام به "لينين" حين تجاوز "الحتمية التاريخية" الى "التنظير الحزبي" الذي يحاول ان يستبق خطوات التاريخ الحتمي، فهذا مناف تماما لمنطق الجدل التاريخي عند ماركس. ضف الى ذلك ان التعاطي الحرفي (السلفي) مع كتابات ماركس وتقسيماته كان سببا رئيسا في الفشل التطبيقي لهذه النظرية، وعلى رأسهم تطبيقات السوفيات (l’-union- Soviètique) الممزوجة بالأيديولوجيا والديكتاتورية السياسية كما ان دول العالم الثالث الاكثر تخلفا منها توسلت الاشتراكية كأسلوب لمواجهة الامبريالية واحتكرت كل منها تفسير النظرية من جنرالاتها الذين لا يكادون يفقهون قولا ولا يرون العالم إلا من تحت بذلة العسكر ومن خلال فوهة المدفع ... فغابت تلك الآليات النقدية وسط هذا العفن المختلط... فلك أن تتخيل!! ماركس الذي يناقش مسالة الوجود والجدل وديناميكية المجتمع وحركية راس المال يتم تبنيه من جنرالات لا تكاد حتى ان تفهم واقعها!!
كل ذلك لا علاقة له بماركس كما هو واضح، فالماركسية "نظرية نقدية" و "أسلوب تفكير" وليست شكلا لـ "نظام سلطوي" ما كما فهمها هؤلاء، كما ان ماركس لم ينّظر لأي شكل من الاقتصاد - مثل سميث - أو شكل للدول، غير ان الربط بين النموذج السوفياتي ودول العالم الثالث هو الذي تسبب بهذا الخلط! بل ولم يدعُ ماركس ان نظريته نهائية فهو كثيرا ما كان يعدل فيها تبعا لتغيرات الواقع، وكما هو معروف فان الاجزاء الثلاثة الاخيرة لرأس المال لم تنشر الا بعد وفاة ماركس مجمعة من ملاحظاته - لا مصنفة منه - من قبل رفيقه انجلز (Friedrich Engels) الذي تولى هذا العمل، وبالتالي لم ير ماركس نظريته نسقا مغلقا بل هي افق للاجتهاد والتطور وانما استلهمها من واقعه وفق آليات هي نفسها قابلة للمراجعة كما للليبرالية آليات تتفاعل مع الواقع المتغير.
"الجدلية" هي ما يفسر عند ماركس "حركية التاريخ" اي العلاقة بين "الوعي" و "الواقع"، لذلك، فكرة "الثورة" والانتفاض هي فكرة يسارية ماركسية بحتة، وانبثقت من لب اليسار. من ايمانك ووعيك بأنك مستضعف وجب ان تثور وتغير واقعك وتكسر الحتمية التي يراد لك ان تنحصر فيها. الماركسية ورثت جوهرها من مفهوم أساسي من "التوحيد" أو "الأديان التوحيدية" ربطت "الفكر" بـ "الفعل" مثلما رُبِطَ "الايمان" بـ "العمل" ورُبِطَت "الحرية" -وهي جوهر الإنسان – بـ "الإرادة" لا بـ "الرغبة" مثلما ربط الدين إنسانية الإنسان بالفعل المضبوط - وبالعقل بمفهومه الأخلاقي - لا بالشهوة والهوى .الماركسية رغم كل سهام النقد واخفاقات التطبيق - التي وقع فيها الاتباع بتهميش آليات الفكر وتركيزهم على النص حرفيا - تظل النظرية الاكثر "ثورية" في العالم الحديث اذ ان كل التطورات النقدية والثقافية تدين بشكل او بآخر لهذه النظرية التي لازالت إلى الأن عصيّة على التجاوز وان الهزات التي تنبأ ماركس بها تلوّح بأذنابها كل يوم وكل لحظة خاصة الاقتصادية منها ولا شك أن اهم ما أكده ماركس هو الانهيار الطبيعي للرأسمالية التي تلتهم كل ما من شأنه ان يكون مشتركا "كالفضاء العام" و"البيئة" وتسليع الانسان حتى نهبت "القيم" واستنزفت مقومات الارض.
يرى ماركس في قراءته للتاريخ ان الحركة الاستعمارية التي ظهرت في العصر الحديث بعد الثورة الصناعية في أوروبا هي حركة "برجوازية" في لبّها، فملاك المصانع وادوات الانتاج آنذاك بحثوا عن مصادر لليد العاملة والمواد الأولية وسيطروا على مقاليد الحكم وجعلوا من الدولة أداة لخدمة مصالحهم المادية، ما انتج نظام "الميركنتيلية" (Mercantilisme) الذي كان سببا في ظهور العبودية والاقطاع وبهذا الاسقاط الماركسي فان الشعوب الاوروبية بحد ذاتها كانت تحت "استعمار برجوازي" لا تختلف في مصيرها عن مصير شعوب أخرى، ففي سنة 1830على سبيل المثال حينما كانت الجيوش الفرنسية تجتاح شمال افريقيا كان الشعب الفرنسي كغيره من الشعوب الأوروبية يواصل ثورته للإطاحة بالملكية البرجوازية المستبدة مقاسما بذلك ذات الحتمية مع ما يواجهه الشعب من قهر في شمال افريقيا.
طبعا، إشكالية الفهم النصّي لفلسفة ماركس لم تغب عن أذهان الماركسيين، فالبعض منهم تنبه سابقا للخطأ الذي وقع فيه الاتباع ومن أبرزهم الرئيس الاندونيسي سوكارنو (Sukarno) حينما أدرك أن أفكار ماركس لا علاقة لها مع ما ينتهجه السوفيات فدعا دول العالم الثالث في مؤتمر "باندونج" (Bandung) عام 1955 الى القطيعة مع سياسات الاتحاد السوفياتي وهو ما تجسد في تأسيس حركة عدم الانحياز، نظرة سوكارنو كانت وليدة خبرة في التعامل مع المعسكر الشرقي الذي أعلن بداية العشرينات دعمه للحركات التحررية في العالم ليبادر الى التخلي عنها بداية الثلاثينات حينما وجد نفسه محاصرا بين اليابان شرقا والنازية والفاشية غربا، فترك الشعب الاندونيسي يخوض غمار ثورته للاستقلال ليعود الاتحاد السوفياتي ليلتفت إليهم بعد الحرب العالمية الثانية ليجعل من حركات التحرر أداة لمد نفوذه في مواجهته التقليدية مع المعسكر الغربي، وذات الأمر هو ما تنبه له الزعيم الصيني "ماو تسي دونغ" حينما أعلن القطيعة الصينية السوفياتية واكتشف ان ما انتهجته الصين من سياسات هو تطبيق لتجربة السوفيات لا لفلسفة ماركس، اذ ان الاتحاد كان يتربع على مساحات جغرافية ذات طابع غير صالح للزراعة ما حتّم على زعمائه تأميم الأراضي الزراعية والاعتماد على الصناعات الثقيلة لتغطية العجز الزراعي، على عكس الصين التي كانت تمتد على أراضي وسهول خصبة وواسعة فخطأ استراتيجي قام به الزعماء الصينيون حينما أعلنوا تأميم الأراضي والاعتماد على الصناعة الثقيلة اقتداءً بالسوفيات ما أدخل الصين في أزمات المجاعة والفقر سنوات الخمسينات، ماو تنبه للفرق بين التنظير والتطبيق، بين الفلسفة والتجربة فسارع إلى إعلان إصلاحات جذرية تؤسس للقطيعة مع جاره السوفياتي.
كثير من النقاط المهمة عبر التاريخ الإنساني التي – وفقا للماركسية – شكلت منعرجات "ثورية هامة" غيّرت مجرى الاحداث كثورة "سبارتاكوس" – Spartacus – الشهيرة لتحرير العبيد من حكم الرومان، ومن أبرز أحداث التاريخ أيضا: "الأديان"، فقد شكلت في قصصها وما يروى عنها من ميثولوجيا أنها تشترك في كونها تنتصر للمستضعفين في الأرض والكادحين فيها على حساب الطغاة والملاك والساسة الظالمين – كقصص اليهود والعبرانيين مع موسى وفرعون مصر – أحداث المسيحية وما يروى عن تضحيات المسيح، والبوذية وما قامت به في قارة آسيا للقضاء على نظام الطبقية – système des castes- وأحداث نشأة الإسلام في أرض الحجاز، اذ تعتبر في زمانها ثورة انتصرت لفئات العبيد والفقراء على حساب سادة الحجاز الذي ملكوا الأرض والناس بالمال وأسست لمفاهيم جديدة غيرت جغرافيا المنطقة والعالم، ولم تتوقف الاحداث الثورية عند هذا الحد بل استمرت تتابع عجلة التاريخ، فما قام به الخوارج في تاريخ الإسلام يعتبر ثورة داخل منظومة الإسلام، وموقف علي بن أبي طالب في مواجهة الأمويين وقصص "الحسن والحسين" وثورتهما واستشهادهما دفاعا عن المبادئ والقيم في مواجهة لغة الاستبداد والمال، وأحداث ثورة "صاحب الحمار" او ما يعرف بثورة "أبو يزيد مخلد بن كيداد" الذي أراد الإطاحة بحكم الفاطميين انتصارا للمقهورين من حكمهم، وثورة "شبيب بن يزيد الصقري" ضد حكم الحجاج بن يوسف الثقفي، ولا ننسى "بابك الخرمي" أحد ابرز محاور التاريخ الإسلامي والذي قاد ثورة في "أذربيجان" للإطاحة بحكم العباسيين .... وصولا الى الثورات الأوروبية في القرون الوسطى و"الثورة الفرنسية" التي أطاحت بحكم البرجوازية، والثورة البلشفية وطبعا، لا ننسى، الثورة الجزائرية المجيدة التي قضت على استعمار تجاوز القرن من الوجود كاسرة بذلك تصورات "الحتمية" التي كان يراد زرعها. كل هذه المسارات الثورية في التاريخ، تفسر المنظور الماركسي لحركية التاريخ إذ تشترك هذه المحاور التاريخية في كونها انتفاضات وثورات تجسد الصراع الدائم والمستمر بين "الكادحين" و"المالكين"، هذا الصراع الذي لن يتوقف ولن تميل كفته لاحد الطرفين.
الى اليوم، تعلوا في كثير من الأحيان في العالم الثالث أصوات تلك الفئات التي لا تفرق بين النقد وجلد الذات، لا تفرق بين البعد الحضاري وتمايزاته في نمط الحياة – خصوصا بين الغرب والعرب -وبين ما تنتجه الليبرالية في مفهومها السياسي والليبرالية في مفهومها الاقتصادي خالقين بذلك معضلات كثيرة قائمة على خلط في المفاهيم، مندفعين خلف اعجابهم وانبهارهم بنمط عيش الغرب الذي تولد عن مخّضات فلسفية لا علاقة لها بما تنتجه الليبرالية في مفهومها الاقتصادي الحديث. "آدم سميث" كأحد الفلاسفة الذين يستند عليه هؤلاء، انطلق من انتقاده لما انتجته الميركنتيلية في أوروبا من طبقات وعبيد وحاول إيجاد منظور يؤسس لتساوي البشر في جني الثروة، فلخص فكرته في مؤلفه "ثروة الأمم" ليشرح كيف السبيل للقضاء على ذلك، غير أن ما تنتجه الليبرالية اليوم مخالف تماما لما كان يريده سميث، قضت الليبرالية اليوم على مفاهيم الاجتماع والتكافل الاجتماعي وكرست لحياة العزلة والعبودية في نمط جديد، نمط يربط الانسان بمقدار الإنتاج والفائدة التي يقدمها لأرباب المال، نمط تنموا فيه قيمة الشركات وأرباح أصحابها بدون عمل على حساب العمال والكادحين، نمط يرهن العامل فيه حياته ووقته على حساب ربح وفائدة المالكين فاقدا بذلك الرفاهية التي كان يهدف اليها أساسا سميث فأعادت الميركنتلية المقيتة في صبغة جديدة عن سابقتها، كما ان الخلط بين "النمو الاقتصادي" و "رفاهية المواطن" أصبح كثيرا اليوم، فالهند على سبيل المثال، احتلت عام 2018 المرتبة الخامسة في تصنيف القوى الاقتصادية الكبرى متفوقة على الدول الأوروبية كفرنسا والنمسا والنرويج وألمانيا ...الخ غير أنها ضمن البلدان المتأخرة في رفاهية المواطن وهذه هي ملامح الليبرالية الصاعدة (النيوليبرالية)، اسواق واسهم مالية ترتفع لصالح الشركات لا في صالح الشعوب، الدولة غائبة تماما فيما يخص التكفل بالبعد الاجتماعي، على عكس هذه البلدان الأوروبية إذ يوجد شركات وأسواق حرة لكن سلطة الدولة والقانون فوق كل اعتبار، سلطة العامل وحقوقه لها اعتبار، في المستوى المعيشي يضمن البسيط حقوقه من تعليم وعلاج ورفاهية وضمان اجتماعي وتتكفل الدولة بذلك عن طريق فرض رسومات وجمركات على الشركات وامام القانون يتساوى الجميع بما في ذلك أرباب المال والأعمال.
إن أي راس مال يتحرك بحرية ودون قيود وفوق الدولة والقانون يخلق ثروة لارباب المال، ويخلق البؤس والفقر للفئات البسيطة والعمال الكادحة. لذلك، في ظل سيطرة المفاهيم البرجوازية على المشهد السياسي والاقتصادي التي كرّسها النظام العالمي الحالي وباتت فيه "الدولة" فاقدة لسلطتها ككيان قانوني اجتماعي أمام سلطة الشركات المالية وأصبح تبعا لذلك مصير الانسان يخضع لحتمية أخرى تقودها الطبقات المالكة، تسطف حركات اليسار اليوم في صف المعارضة للأنظمة، لأنها تعتمد ذات المنطق الماركسي، منطق ان الشعب المقهور لا ذنب له في ذلك، لا ذنب لأجيال ولدوا في ظروف مزرية اريد لهم ذلك بها، ليس ذنبك انك ولدت في نظرة احادية تعلمك وتغرس فيك ما تريد باسم "الحتمية التاريخية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي