الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 2

دلور ميقري

2019 / 12 / 22
الادب والفن


أسابيع قليلة، فصلت بين موت الوالدين بجائحة الريح الأصفر؛ موتٌ، عُدَّ ضربةً قوية لحسين كان من الممكن لها قصم ظهره لولا وجود امرأته إلى جانبه. كان وحيد أبويه، علاوةً على أنه بالكاد رسّخَ أقدامه في وظيفته الجديدة. من ناحية أخرى، حز في قلبه ما كان يأمل كلاهما قبيل رحيلهما المفجع، وهوَ العودة إلى ماردين ولو في زيارةٍ للأهل هناك. لكن القدَرَ سيحرم ابنهما أيضاً من هكذا حلم، وكذلك حفيدهما الوحيد، الذي لم يحظيا برؤيته. إلى ذلك، كان حسين قد دخل تواً إلى المجتمع الدمشقيّ، عبرَ وظيفته في الديوان، حينَ وقعت عام 1830 أحداثُ ما سيُعرف في التاريخ ب " العامّية الشاميّة "، الدموية المهولة: فكرة العودة إلى الوطن، انتشرت عندئذٍ مثل الوباء بين أبناء الحي الكرديّ، جنباً لجنب مع فكرةٍ أخرى عن قرب حلول يوم القيامة عمّت مواطنيهم الشوام.
كان حسين قد استلمَ حديثاً وظيفةَ باشكاتب في ديوان السرايا، أينَ المقر الرسميّ لوالي المدينة، وذلك بوساطة من أحد معارف أبيه مع الزعيم شمدين آغا. هذا الأخير، كان منزله المنيف في الحارة الجديدة مقصدَ ذوي الحاجات، سواءً من أبناء الحي أو الأحياء الأخرى. نظراً لانشغال الآغا، كان من النادر أن يستقبل أولئك القاصدين، وفي التالي، يعهد بذلك إلى أحد أبنائه أو مساعديه. لكن حسين نال، مصادفةً، حظوة التعرف عن كثب على زعيم كرد المدينة، الذي استقبله مع الوسيط في قاعة السلاملك الفخمة، المزيّنة بالنقوش مثل قصور كبار الأعيان. مع أنّ الزعيم كان شبه أمّي، مثلما زعمَ البعض، إلا أنه امتلك في السلاملك مكتبةً ثرية بالمجلدات، ولو أنها بدت مكمّلة لزينة المكان، الذاخر بالتحف الفنية والحيوانات المحنطة. قيما بعد، حينَ أسسَ حسين مضافةً خاصّة، ملحقة بمنزله، قام بتأثيثها متأثراً بما شاهده في سلاملك ذلك الزعيم، وأيضاً في أمثالها من منازل الأعيان؛ وكان قد زارَهم في مناسبات مختلفة، بحُكم وظيفته ومركزه. هؤلاء الأعيان، كانوا بمعظمهم وراء انتفاضة العامّة على الوالي الجديد، الملقّب ب " الوزير " لشغله سابقاً منصب الصدر الأعظم: الحوليات المسجّلة بقلم جدنا لأبينا، الحاج حسن، تكشف قليلاً عن موقف والده من الأحداث وموقعه فيها؛ كما أن كلا الأمرين كان على تنافر وتناقض، ربما بسبب ضعف الثقة بأركان العامّية مقارنةً برسوخ الولاء للباب العالي، المستمد سلطته من العناية الإلهية؟

***
قلنا، أنّ أحداث العامّية، الخطيرة والمستطيرة ـ حدّ اعتقاد الناس بأنها مقدمة ليوم القيامة، المؤذن بحلولها ابتداءً من ارض الشام وفق أحاديث منسوبة للرسول ـ قد استهلت وكان حسين بالكاد اندمج بأوساط المجتمع الدمشقيّ. لعل بعض أصدقائه وكانوا من النصارى البرجوازيين، المعتنقين أفكار الثورة الفرنسية، هم مَن سبقَ وأطلعوه على كتبٍ من تأليف كبار مفكري ذلك العصر، الأوروبيين، المتنبئين فيها بانهيار النظام الإقطاعيّ القديم. هؤلاء الأصدقاء، وإن لم تكن تجري في عروقهم دماء النبالة، بيدَ أنهم أصيلي المدينة وكانوا يفتخرون بأن تربتهم احتضنت بذرة المسيح الأولى. استقبلوه في دورهم الفاخرة بحي النصارى، ذات الواجهات المجمّلة بالجملونات والشرفات والأعمدة والأقواس، المذكّرة بالأوابد الأثرية والتي لم يتبق منها في ذلك الحي سوى بضعة كنائس فضلاً عن بابين للسور؛ أحدهما أخذ اسمَ الجهة الشرقية للمدينة القديمة، والآخر اسمَ واحدٍ من الحكّام البيزنطيين.
مع أنه اقتربَ من صفة عالم الدين، فعلياً وليسَ بالوراثة، كان يجد راحته مع أولئك النصارى أكثر من مواطنيه المسلمين، الأعيان، المتسمين عموماً بالحذلقة والتكلّف وحتى النفاق. في التالي، لم يكن عليه هناك سوى الإنصات لأشخاص بعيدين عن الألقاب اللامعة ـ كعلماء وأشراف؛ أشخاص بسطاء، وفي الآن نفسه غير مبتذلين أو سوقيين. تعلم منهم الشغف بالأناقة والترتيب، وكذلك الاهتمام بالأزهار؛ هم من كانت صالوناتهم تفوح دوماً بعطر باقات الورود، المضمومة في الفازات، وكما لو أنها حدائق في أوان الربيع. لقد منحوه، فوق ذلك، هبةً ـ كالنبوءة ـ جعلته في لاحق الأيام يثق بأطروحاتهم الفكرية ولو دونَ حاجة منه لتبنيها: إنّ هذه الخلافة، التي يتباهى بعظمتها المسلمون، ستضمحل رويداً أمام التغيرات الاقتصادية والاكتشافات العلمية والاختراعات، الداخلة جميعاً تحت عنوان " عصر الصناعة ".. ومَن سيتولى تقويض الخلافة، ليسَ سوى مللها ونحلها بالذات؛ إن كانوا نصارى أو مسلمين أو منتمين لأديان ومذاهب أخرى.
أما كيفَ تحقق جانبٌ من النبوءة، بتحدي دمشق للباب العالي وقتلها صدرَهُ الأعظم، المعيّن والياً جديداً، فإننا سنعتمد هذه المرة على الخيال أكثر منه حوليات الأسلاف. ولا بأس من رفد ذلك بنزرٍ من معلومات مدوّني تلك الفترة، وكانوا للمصادفة من النصارى؛ وربما أن بعضهم استقبل الشاب حسين في صالونه ـ كصديقٍ مقرب، باعتباره متنوّراً مسلماً، منفتح الفكر؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ