الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَرَحُ الزَّرع

محمد الداهي

2019 / 12 / 22
الادب والفن


نظم نادي اللسانيات ووحدة تكوين الدكتوراه اللسانيات وقضايا اللغة العربية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ندوة في موضوع البحث اللساني وقضايا المصطلح لكريما للدكتور محمد حساوي وذلك يوم الأربعاء 18 دجنبر 2019 . وإقرارا لما له من فضل علي وعلى أندادي ادليت بالشهادة الآتية في حقه مستحضرا طريقته في التدريس كما عاينتها وأنا طالب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة القاضي عياض بمراكس.
عندما دخلت أول حصة للأستاذ محمد حساوي في مطلع السنة الجامعية 1980-1981 بمدرج 20 يونيو في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش أثارتني طريقته في التدريس التي كانت وقتئذ تختلف عن الطرائق البيداغوجية السائدة. كان يؤثر أن يتحرك أمامنا ، ويثبت بعض العناصر الأساسية على السبورة، ويطرح علينا بين الفينة والأخرى جملة من الأسئلة لحفزنا على المشاركة وإبداء آرائنا. وهو ما كان يضفي على حصصه الدينامية التي كنا نفتقدها عند معظم الأساتذة الذين كانوا يميلون إلى إملاء المحاضرات غير مكترثين بما قد تخلفه أحيانا من ملل وسأم في نفوسنا، وقلما يتركون في آخر الحصة هامشا للطلبة للاستفسار عما استغلق على أذهانهم.
ومن ثمة كان الأستاذ محمد حساوي صحبة لفيف من الأساتذة واعين بضرورة استخدام الطرائق البيداغوجية جديدة في الجامعة المغربية تطلعا إلى استجلاب المردودية المنشودة، واهتدوا – بحكم تكوينهم الثقافي والبيداغوجي- إلى الطريقة النشيطة والفعالة (Pédagogie active) التي تغلب الحوار والتواصل مع الطلبة عوض شحن عقولهم بالمعلومات وحثهم على استظهارها لرد البضاعة إليهم.
تبنى الأستاذ محمد حساوي - علاوة على آلية الحوار في بناء الدرس الجامعي- بيداغوجيا المشاريع الشخصية لحفز الطلبة على إعداد تقارير عن كتب ذات الصلة بالصواتة، أو إنجاز أبحاث تطبيقية حول ظاهرة لسانية في صفحات محدودة. ومما أتذكره في هذا الصدد أنني أنجزت موضوعا حول الفروق الصواتية بين كلمات في العامية المغربية وبين مثيلاتها في الفصحى . كنت أعتقد أن الأستاذ سيأخذ وقتا طويلا في قراءة الموضوع إن لم يتخلص منه في سَلة المهملات. لكنني فوجئت أنه- في نهاية إحدى الحصص- يرجع إلينا التكليفات مرفقة بملاحظات وتصويبات تبين أنه خصص وقتا كافيا لقراءتها وتقويمها.
لم أعاين طيلة مشواري التعليمي أستاذا تجرأ على البيداغوجيا التحررية (Pédagogie libéra tiare ) (1)أو المؤسساتية(2) (pédagogie institutionnelle ) التي تنزع ، من أشياء أخرى، إلى تحطيم الجدار الرابع في الفصل، وتغيير فضائه المعتاد، وقلب علاقة التراتب بين الأستاذ والمتعلم، وعقد ميثاق يقوم على الثقة المتبادلة واقتسام المسؤوليات. ومما أستحضره- في هذا الإطار- أن الأستاذ محمد حساوي وجد يوما قاعة التدريس موصدة في كلية اللغة بمراكش، فارتأى بعد أن تعذر فتحها أن يلقي علينا الدرس في شكل حلقة ببهو. ورغم ضيقه فقد استوعب مئات الطلبة الذين تابعوا الدرس وهم يدونون رؤوس الأقلام وقوفا دون كلل أو تعب.
وبما أن القاعة الملعونة تضيق أحيانا من كثرة الطلبة الوافدين عليها الذين يظل أغلبهم واقفا في الممرات والفرجات فقد اضطر الأستاذ محمد حساوي إلى الوقوف على المنضدة لإلقاء الدرس حتى يراه ويشاهده الجميع، ويشد انتباههم . ووفق شهادات من كانوا يجلسون في الصفوف الأولى كان يحرص الأستاذ على وضع قطع من الجريد على المنضدة تفاديا لاتساخها أو تعرضها لضرر ما. الشيء بالشيء يذكر لم يكن وقتئذ من اليسير أن تحجز مقعدا في الصفوف الأولى لشدة التنافس بين الطلبة إذ كان بعضهم يستيقظ باكرا لهذا الغرض وخاصة الطلبة المسفيويين (أو الأسفيين) الذين برعوا في أداء المهمة على الوجه المطلوب متفوقين على نظرائهم، وهو ما جعلهم يدخلون في صراع مع الطلبة المراكشيين إلى أن تدخل الكاتب العام للتعاضدية عبد اللطيف أبو البركات- في إطار المساعي الحميدة التي كان يقوم بها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب- لفض المشكلة المفتعلة، وإصلاح ذات البين بينهم.
كانت هذه الفلتات التلقائية تقربنا أكثر من حصص محمد حساوي الذي جاءنا من كوكب آخر ليخلصنا من عبء الدروس التقليدية. و مع ذلك لم ينسق كلية مع تيار البيداغوجية الجديدة، وإنما كان يحرص على استثمار مكاسبها في حدود ما يسمح به الواقع دون أن يفرط في أخذ زمام الأمور بحزم أحيانا..وهكذا كان يوازي بين مسعيي الانضباط و المرونة سعيا إلى توعية الطلبة بواجباتهم ( عدم التأخر في ولوج القاعة، تفادي الغش، الاحترام المتبادل) من جهة ، وخلق الأجواء البيداغوجية المناسبة التي تسعف على انغمار الطلبة في الدرس معرفيا ووجدانيا من جهة ثانية.
كانت أشياء كثيرة تثير فضولنا في حصص محمد حساوي.. ومن جملتها أنه وزع علينا يوما رسما تعودنا على رؤيته في مكاتب الأطباء والمصحات..وشرع يوضح لنا كيف يتشكل الصوت باحتكاك أعضاء الجهاز الصوتي التي تشغل حيزا بين الحبال الصوتية والشفتين المسؤولتين عن إنتاج الكلام.. وكانت مناسبة لتعرف بعض الأعضاء باللغة العربية بعد أن سبق لنا أن تلقيناها باللغة الفرنسية في مادة الطبيعيات بالتعليم الإعدادي..على نحو الخيشوم ولهاة الحلق وتجويف الأنف وقصبة الرئة ولسان المزمار والمريء. وكان لا يكتفي بتقديم الشروحات اللازمة لبيان خصائص الأصوات ووظائفها بل كان يغدق علينا ببعض النصائح للحفاظ على الجهاز الصوتي بصحة جيدة وأداء النطق وفق المعايير المنشودة، ومن ضمنها الإقلاع عن التدخين، وشرب الماء، وفتح الصدر والذراعين.
كان الأستاذ محمد حساوي يردد على مسامعنا كتاب مبادئ الصواتة لنكولاي تروبتسكوي ( Nikolaï Sergueïevitch Troubetzkoï ) ويحثنا على قراءته لأنه يعتبر من المصادر الأساسية في الصواتة البنيوية الذي دشن تخصصا جديدا ومستقلا، منزاحا باللسانيات عن التفسير النفسي للسان، وقائما على التعارضات الوظيفية والتمييزية بين الوحدات الصوتية (Phonèmes). كنا نتبادل النسخة الفرنسية التي ترجمها جون كونيتنو . Jean Cantineauعن الروسية عام1949، ولا أخفي فضل هذا الكتاب القيم على جيلي فضلا عن مكاسب الكلوسيماتية والسيميائية لتحليل الوحدات الصوتية الدالة في القصيدة الشعرية، مما يتولد عنه الترديد والاشتقاق والتشاكل واللعب بالصوت.
ويعتبر الأستاذ محمد حساوي في عداد اللسانيين-إن لم نقل من أولهم- الذين انتبهوا إلى ملاءمة تخصص تقويم النطق والسمع (orthophonie) في الدرس الجامعي المغربي لتصحيح الاضطرابات اللغوية التي يعاني منها بعض الأشخاص ( ما يصطلح عليه بالمرض اللغوي (la pathologie du langage)، ولمساعدتهم على الاندماج في الحياة. وهو مجال تتجاذبه تخصصات متعددة نذكر من ضمنها علم النفس، وعلم الأعصاب، واللسانيات التطبقية، ودياكتيك اللغات، والدراسات المعجمية..وظل-لبواعث متعددة- محتكرا في المغرب من قبل تخصصات بعينها، في حين أنه فتحت منذ عقود في الغرب مراكز متعددة التخصصات ومن ضمنها اللسانيات التطبيقية ومستتبعاتها لعلاج اضطرابات النمو العضوية أو المكتسبة.. استحدثت أول مدرسة لتقويم النطق والسمع في فرنسا إبان عقد الخمسينات من الألفية الثانية، وصدر قانون 10 يوليوز 1964 عام ليحدد مواصفات حامل الدبلوم الوطني لتقويم النطق والسمع. انخرط المغرب مؤخرا في هذا المنحي، وهو ما جعل معاهد أو مدارس خاصة ( معهد للعلوم شبه الطبية، والمدارس الخاصة بمهن الصحة، والمعاهد العليا للمهن التمريضية والتقنيات الصحية) تشرع في تدريس تخصصات جديدة للطلبة ( التقويم الحركي والنطقي والبصري)، الذين لا يجدون عناء في ولوج سوق الشغل لحاجة المجتمع إلى مؤهلاتهم المهنية.
وكل من يتابع المسيرة العلمية للمحتفى به سيلاحظ مدى اعتنائه بالجانب المرضي في اللسانيات وهذا ما جعله يسهم- بالنظر إلى تجربته المهنية- في إعطاء دروس في معاهد التمريض والطب، ويقدم خبرات لبعض الأطباء المتخصصين في قياس السمع أو الذين يسعون إلى معرفة مدى تأثير الأمراض المزمنة على النطق والأداء الصوتي عموما، ويعتني عموما بالأمراض الصوتية ( له قيد الدراسة كتاب حول الحنجرة والتصويت) ومن ضمنها التلويث الصوتي الذي نال على إثره جائزة الحسن الثاني للبيئة تقديرا لجهوده القيمة عام 2005.
سيرا على هذا النهج نفسه أصدر- رُفقة الباحثين فاطمة الخلوقي وهلال بن الغزمية- المعجم الموحد لمصطلحات تعليم الأشخاص ذوي الإعاقة باللغات العربية والانجليزية والفرنسية. ويأتي هذا الإصدار الهام لملء الفراغ في مجال المعاجم المختصة المتعلقة بهذه الفئة التي تعاني من الهشاشة الاجتماعية، ومواكبة المستحدثات الاصطلاحية ذات الصلة بها، والحرص على إدماجها في الحياة الاجتماعية، وتيسير أداء أنشطتها بالفاعلية والنجاعة المتوخيين.
ولا يمكن لأي طالب درس عند الأستاذ محمد حساوي المرح أن ينسى القفشات والطرف وضروب الفكاهة ولطف الحديث، التي كانت تتبل الحصص، وتضفي عليها شيئا من المتعة والاهتمام، وتزيل عنها السآمة والملالة.. ويتميز الأستاذ محمد حساوي بالقدرة على التقاط شوارد الأمور ونوادرها والرد علي أصحابها بما يوازي كفايته، ويوافق الظن به.
هذه جملة من الأمور التي خطرت ببالي وأنا أدون هذه الشهادة التي أنا بتقديمها سعيد على ما هي عليها من قصر وما فيها من تقصير طالبا من العلي القدير أن يمد عليه ظلال نعمه، ويغدق عليه سابغ كرمه، وأن يبقيه دائم التوفيق في أعماله، ويعيد عليه هذا التكريم بالعمر المديد والعيش الرغيد.
---
الهامش:
1-البيداغوجيا التحررية (pédagogie libertaire ): هي أداه للتغيير الاجتماعي لتعويد الناشئة على الاستقلالية، واتخاذ المبادرات البناءة، والمشاركة في العمل الجماعي التعاوني. ومن رواد هذا الاتجاه نذكر مثلا: سلستين فريني(Célestin Baptistin Freinet ) ( التعبير الحر للأطفال والتعاونيات المدرسية)، فرنسيسكو فريرير(Francisco Ferrer, ) (صاحب المدرسة الحديثة )، وسبستيان فور (Sébastien Faure) ( المجمع أو الخلية)، وألكسندر نيل (A. S. Neill,) ( مدرسة سومرهيل)، وباولو فرير (Paulo Freire). وهي على نقيض المدرسة التقليدية التي تعتبر أداة لتكريس الهيمنة والتدجين وإعادة الإنتاج والاستغلال.
2-البيداغوجيا المؤسسية(Pédagogie institutionneelle)، من تأسيس فرناند أوري (Fernand Oury) ورايمون فونفيي(Raymond Fonvieille)، وهي تقوم على اقتراح قواعد الحياة في مؤسسات بديلة، لتعزيز رغبة المتعلم ومؤهلاته في التعلم بالاعتماد على مبادراته الشخصية والالتزام بتعهداته وواجباته على عكس ما يعاينه من إكراهات في المدرسة الثكنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع