الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة كترفيه عنيف, والمقالة كحلبة ملاكمة

صائب خليل

2006 / 5 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


كتبت بين الجد والهزل لصديق كان يعتذر ان كان اغضبني ان لايقلق فأنا "ان غضبت كتبت مقالة, فاحول ذلك الغضب الى ما يسعدني."
وحين اقرأ في مواقع الإنترنيت اجد غالبا من يكتب في المساء ليعيد الصفعات التي تلقاها نهاراً, ومن يقرأ ويقيم فأنما يفعل ذلك كمشاهد لجولة ملاكمة, جاء ليفرغ توترات يومه واحباطاته ومقالقه بمشاهد العنف الثقافية. إنه يقيم ما يقرأ بقدر ما يكيل الملاكم الذي يحبه, الضربات الى خصمه, خصم القارئ, ليخرج من قراءته, ليس بمعلومات اضافية او وجهة نظر جديدة, بل بمتعة جديدة وابتسامة عريضة, او تجهم في الوجه.

أنه يقلب المقالات كمن ينتقي الحلبات التي سيشاهدها. يمر على المقالة سريعا, ملقياً نظرة سريعة من باب الحلبة نصف المفتوح ليرى ان كانت المقالة – الحلبة مرشحة ان تسره بإنتصارات ملاكمه ام تثير الغم فيه حين يتلقى الرأي الذي يعتنقه, او البطل الذي يحبه, اللكمات المستقيمة المؤلمة.

بعض المواقع الألكترونية تتيح للقاريء المتحمس ان يشارك في النزال بلكمة يكيلها الى الكاتب او الى خصم الكاتب, مستفيداً من امكانية تقييم المقالة, فيعطيها الدرجة الدنيا او القصوى, او من خلال كتابة تعليق محطم او مصفق.

كلنا يفعل ذلك بدرجة او اخرى, رغم اننا جميعاً نؤمن بالمثل الأعلى في المباريات: "ليكن الفوز للأفضل".
لكن التوتر مستعجل للإفراغ بالتمتع, بينما الأمثال العليا يمكنها ان تنتظر. لذا نفرح ان فاز فريقنا ولو بضربة حظ كما اننا سنتساهل عن بعض الغش البسيط هنا وهناك ان كان يساعدنا على الفوز.

لقد كتبت العديد من المقالات من مختلف الأنواع, ولاحظت ان المقالات الدراسية المليئة بالاستشهادات والتي تأخذ من وقتي اكثر من غيرها, ليست الأكثر شعبية بين القراء, رغم انها من المفروض ان تقدم محتوى أغنى, ومساهمة اكبر في البحث عن الحقيقة.
لكن "الحقيقة" ليست بالشعبية التي نتصورها. يقول نيتشة: " لقد اثبت التأريخ ان حاجة الإنسان للوهم اكبر من حاجته الى الحقيقة". ويبدو لي ان حاجة الإنسان ليست تماماً الى "الوهم" بل لعلها الحاجة الى الإطمئنان, والوهم الذي يسمح لنا ان نشكله حسبما نريد, اقدر عادة على تقديم هذا الإطمئنان السريع, من قدرة الحقيقة الحيادية القاسية على ذلك, خاصة عندما يكون التوتر والقلق عالياً مستعجلاً, كما هو الحال غالباً اليوم.

"الحقيقة" يمكنها هي الأخرى ان تعطي الشعور بالإطمئنان, إلا في الحالات الميؤس منها تماماً. فالحقيقة تقدم جواً نهارياً مضيئاً يكشف الوحوش المخيفة واسنانها اللامعة, لكنه يكشف ايضاً الطريق الى الخلاص, ولعل هذا ما يدفع البعض للبحث عنها بحب واصرار.ومثل هؤلاء يصعب على الوهم ان يعطيهم الأمان.

لكن "امان الحقيقة" أمان محدود مهدد ويتطلب دائماً جهدا لتحقيقه, لذا فأن شديد القلق والمتعب لن يجد ضالته فيها غالباً, فيتحول الى الوهم. لذا ليس من الواقعية ان نتوقع قارئأً يقرأ من اجل الحقيقة المجردة في ظروف الحرب أو الإرهاب او الإضطهاد الدكتاتوري, او كاتباً يكتب من اجل تلك الحقيقة فقط.

ورغم ان الحقيقة المجردة هي اكثر الطرق كفاءة للوصول الى حل, لكن الإنسان ليس حاسبة, ودماغه ليس قرص صلب يملأ بالمعلومات بضغطة على لوحة المفاتيح. انه يبحث عن المعلومات والأجوبة فقط حين يحار وتقلقه الأسئلة وتقض رقاده. يقول مثل فرنسي: "رجل سعيد, رجل لا يفكر"

فكيف الحل لهذا الإشكال: الحقيقة هي الطريق الأنسب لحل المشاكل, لكننا لا نفكر إلا عندما نقلق, وعندها نبحث عادة عن الوهم وليس الحقيقة! او بعبارة اخرى ان الحافز للبحث عن حل, هو نفس الحافز لتجنب الحقيقة لحساب البحث عن الوهم, وكلما ازداد الحافز حدة, ازداد النشاط للبحث عن حل, وازدادت معه الرغبة في اللجؤ الى الوهم. فما الحل؟

يبدو لي ان خير ما نستطيعه مع طبيعتنا المتناقضة هذه هو ان نستعين بالوعي بهذه الإشكالية ليزيد من ارادتنا بالإبتعاد عن الوهم الدافئ اللذيد وتحمل البقاء قرب الحقيقة الباردة اطول مدة ممكنة. أن نراقب ميولنا, وان نتفهمها...وتعالوا نتفق ان ننظر الى ايدينا قبل ان نكتب او نقرأ او نقيم, لنر ان كانت تحمل قلماً ام ترتدي قفاز ملاكمة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي تداعيات إبطال محكمة العدل الأوروبية اتفاقيين تجاريين م


.. إسرائيل تستعد لشن هجوم -قوي وكبير- على إيران.. هل تستهدف الم




.. واشنطن بوست: تساؤلات بشأن مدى تضرر القواعد العسكرية الإسرائي


.. مسيرات تجوب مدنا يابانية تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة




.. رقعة | كيف أبدل إعصار هيلين ملامح بلدات نورث كارولينا في أمر