الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الثامن/ 1

دلور ميقري

2019 / 12 / 24
الادب والفن


في أواخر فبراير/ شباط، من عام 1885، وصل الحاج حسن إلى الزبداني صُحبة والدته وشقيقته الوحيدة. الشتاء، كان من الخمول أنه استلقى فوق الوسائد البيض لقمم الجبال، تاركاً السفح والوادي في رعاية الربيع، القادم مبكراً على غير العادة إلى البلدة الجبلية. بخلاف العادة أيضاً، وجدت المرأتان نفسيهما لأول مرة خارج الشام، وكان ذلك بطلبٍ من الحاج ذاته، المعرَّف بتقنين تحركاتهما وحصرها تقريباً بين جدران المنزل. برغم أنّ الأم مشهودٌ لها بقوة الشخصية، إلا أنها وافقت ابنها على مضض في أمر هذه الزيارة. كان قد شاهد الفتاةَ مرةً واحدة، ووصفها متولّهاً بالحسناء البارعة الجمال، الصهباء والمعتدلة القامة. ما عدا ذلك، تتمتع بوجود ثروة كبيرة، مصدرها الأم، ستتقاسمها مستقبلاً مع شقيقٍ وحيد.
لم يسبق أن جيء بعروس غريبة إلى عرين العائلة، مثلما تتذكّر أمّو، المقاربة سنّ السبعين. وها هوَ ابنها البكر، المتأخر كثيراً في الزواج، يُقدم على ذلك متحمّساً ومتلهفاً. لم يشفع للعروس، كون جدّها لأمها كردياً من الحارة. ما لم تعرفه أمّو حينئذٍ، أن رمضان آغا رحلَ عن الدنيا على أثر أزمة صحية، دهمته حينَ كانت إصبعه على زناد الطبنجة، المسددة إلى مَن أغوى ابنته. لكن نم إلى علمها حقيقة أخرى لا تقل خزياً، بحَسَب العُرف الشائع، وهيَ أنّ السيّدة أديبة حصلت على الطلاق من زوجها الأول لدى القاضي. هنا أيضاً، ما قُدّر لحماة المستقبل أن تحظى بكامل الحقيقة: إن من أحنت رأسَ أبيها، وأوصلته للقبر، طلبت الطلاق على أثر فضيحة ذاع خبرها في البلدة كلها.

***
براءة سارة، كانت سبيلها للولوج في سهولة ويسر إلى قلب حماة المستقبل. في واقع الحال، أنّ الخطبة لم تستمر لأكثر من أسبوعين، وقد تم على أثرهما كتب الكتاب والعرس. من ناحيته، قدّرَ الحاج حسن نعمة الحظوة بصاحبة الصورة البريئة والمبهرة، مع أنه كان مُحرجاً أمامها كون لقبه السامي، كزعيم للحي، ما كان موافقاً لمنظر منزل أسرته، الرث البائس. السيّدة أديبة، كانت الموحية لفكرته حينَ لحظ ما اعتراها من ضيقٍ، حدّ الجزع، لدى غشيانها المنزل وراء موكب ابنتها العروس. هذه الأخيرة، هوّنت عندئذٍ من سبب تكدّر الأم بالهمس في أذنها، " حال زوجي، دليل على نظافة يده وأخلاقه العالية ". كذلك كانت سارة تأمل بدعم والدتها الماديّ، لو أنها عزمت على إجراء ترميم شامل لبيت الزوجية. فيما بعد، أجبرت على أن تسلوَ أيّ أمل من هذا الجانب: لا الزوج، ولا والدته، أبديا شيئاً من الترحيب بتجديد الدار. كأنما لسان حالهم يقول، أنهم ألفوا هكذا نوع من السكن؛ أنّ الأسلاف عاشوا وماتوا دونَ أن يعرفوا غيره، سواءً في الموطن الأول، الريفيّ، أو في الشام الشريف، المتمدن!
إنسانة أخرى في المنزل، كانت تتسم بالبراءة المحببة؛ ولو أنها براءة شبيهة بما لدى الوليّ المجذوب، التي يأمل صاحبُ الحاجة بلمسةٍ مباركة منها دونَ أن يستطيع منع نفسه من الابتسام. كانت زَري، مثلما علمنا، تصغر شقيقها الوحيد بخمسة أعوام؛ بمعنى أنها فوتت تقريباً سنّ الزواج. لكن ذلك لم يقلبها لإنسانة سوداوية القلب، إنما على عكس ذلك، كانت طيبتها تفيض على من حولها. أكثر مَن أولته عنايتها مؤخراً، الشابةُ العانس، كانت ولا غرو امرأةَ أخيها. كون فارق العُمر بينهما لا يقل عن عقدٍ من السنين، راحت زري تعامل العروس كما لو أنها ابنة رحمها. في المطبخ، وكان بدائياً حال كل ما في البيت، كانت تُبعد سارة عن أشغاله بالقول وهيَ تمسك يدها: " هذه الأنامل الجميلة الرقيقة، سيذهب بحُسنها الصابون والماء البارد ". ترد عليها عندئذٍ امرأةُ الأخ، ضاحكةً: " أنا من صلب رجل فلاح، ولن تبدل الشام طبيعتي ".

***
بنبلها وطيبتها، كانت سارة قادرة على منح قلبها كليّةً لرجلٍ لم تره سوى مرة واحدة حَسْب، وعن بُعد أيضاً. أما وقد صارَ الرجلُ قرينها، فإنها جهدت ما في وسعها لشمله بأسباب الراحة في أوان وجوده في الدار. المرأة الطيبة، والذكية الفؤاد في آنٍ معاً، رأت أنّ أقصر طريق لتحقيق تلك الغاية إنما يكمن في إجادة اللغة المتداولة في الحي الكرديّ، النائي والمنعزل. نتيجة تقادم عهد اللغة العربية في آل زوجها، ربما أباً عن جد، لم تكن ثمة مشكلة في التفاهم بهذه اللغة داخل المنزل. لكن على خلاف ذلك، كان الأمرُ مع الأقارب والجيران. سوى المرأة الجميلة، " شملكان "، زوجة ابن عم الحاج، وكانت تُجيد العربية بطلاقة مع لكنةٍ تعود لموطنها الأول في مدينة ماردين. في أوان تعرفها عليها، أخبرت هذه سارة بأنها سارت على طريقٍ فيه الكثير من الإلتواءات والانكسارات لحين أن أمكنها التفاهم مع محيطها الجديد في البلد الغريب.
ذات مرة، قالت شملكان للعروس وهيَ في أرض الديار جالسة على كرسيّ من القش تضع رجلاً على رجل: " أتصور لو أنّ الزعيم يدخل الآنَ، على حين فجأة، ويراني بهذه الهيئة ". ثم راحت تقهقه، مطلقةً هذه المرة ساقيها العاريتين للهواء. ما لبثت أن تقمصت لهجة جدية، لتقول: " إنه يعدّني الثمرة الفاسدة في شجرة العائلة، كوني أرفض الخمار الأسود ومحتفظة بمظهري مذ قدومي للشام ". وأردفت متسائلة، وهيَ تتفحص هيئة سارة: " ألم يكلمك إلى الآن، بشأن تغيير ملابسك هذه؟ "
" لا، ولكنه سيفعل ذلك بكل تأكيد لما يحين وقت زيارتي لأسرتي في الزبداني "، ردت الأخرى مبتسمة.
قالت شملكان عابسةً، وكأنما تتخيل وجه الرجل المتجهّم: " لا أظنه يسمح لك بهكذا زيارة، اللهم إلا أن يكون ثمة سببٌ قاهر ومستطير ".

* مستهل الفصل الثامن/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ