الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
رغد (قصة قصيرة)
هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث
(Hashem Abdallah Alzben)
2019 / 12 / 24
حقوق الانسان
*القصة مكتوبة من وقائع حقيقية والأسماء مُستعارة.
يجب أن أكتب، ولكن عندما أمسكتُ قلمي، واستحضرتُ ما رأتْ عينايّ وسمعتْ أُذنايّ، بدا الأمر بالغ الصعوبة!
وكأنني وقد رسمت في مُخيّلتي مشاهد وأحداث، قد تُهت في دوامةٍ من المشاهد والصوّر الكثيرة والمُتشعبة... فأخترت الإيجاز وبلغةٍ عاميّة أعتقدُ بأنها الأنسب لطرح القصة أو القضية.
في العاشر من أيار/مايو عام 2015م، وفي حيّ "م"، وهو أحد أحياء غوطة دمشق من الجهة الشمالية، أشرقت الشمس كأيّ يوم عاديّ، إستيقظت عائلة "س" للبدء في يوم جديد، الأم هي أول المُستيقظين وهي التي تُوقظ الجميع،
وعلى طاولة الإفطار تجمّعت العائلة المًكونة من: الأم والأب ورغد وهي الإبنة الكبرى وعطا الله وهو الأبن الأكبر وسارة ويوسف وخديجة وأحمد، على وجوههم جميعاً، ترتسمُ ملامح النُعاس والضجر والترقب، كانوا جميعًا ما عدا سارة يترقبون قرار أحد الوالدين بمنعهم عن الذهاب إلى المدرسة لهذا اليوم فقط... لأن الوضع خطير... أو قد صار هكذا مُؤخراً.
لا، لم يُقرر أحد الوالدين قرار "الغياب عن المدرسة"، لذلك خَرج الجميع من البيت الّا الأم وسارة، خرجوا وودعتهم الأم من نافذة البيت، وقد كانت عيناها تحبسان دموعاً وخوفاً وقَلقاً، كلّ يوم تزداد تلك المشاعر ضراوة، بينما لا تستطيع حمايتهم لا في الخارج ولا في الداخل...!
عادوا بعد ساعاتٍ ليجدوا البيت وقد تغيّرت بعض ملامحه، ها هي إحدى نوافذه تنفثُ دُخاناً أسود، والبابُ مفتوح على مصراعيه، وبرك الماء الأسود تتوزع في الساحة الأمامية لبيت العائلة، وهدوءٌ شديد يُخبر كم من صخبٍ وضجيج عصف في هذا المكان قبل لحظات... وبكاء طفلةٍ ونحيبها أيقظ المذهولين، هي سارة افلتت من بين يديّ جارة العائلة وركضت كملسوعةٍ وصارخة نحو أبيها وأخوتها الذين توقفوا للحظات أمام مشهد البيت الذي تعرض لصاروخ او قذيفة او... المهم هو الدمار الذي حلّ ببيت العائلة، وعندما شاهد الأب ابنته راكضةً إليه، تسائل:"وين نادية"..
"من شوي صحيت من النوم... وشي بالمراي بخوّف... عيوني منفخيّن و... أنا بشعه كتير... هالهدوء أديشو حلو... كل اهلي نايمين... كلنا بنّام بنفس الأوضة هههه... عن شو بحكي ؟ ما إحنا عايشين بهالكرفان... والحمد لله على كل شي.
آه نسيت أعرفكم على حالي، أنا رغد وعمري "سبع طعش سنة"(17)...
حياتي هون عبارة عن أيام تتشابه في كل شيء الّا بالتواريخ، بس كل فترة بحس إني بلشت... مش عارفه كيف احكيها للكلمة ؟! بلشت... اتغيّر!!
او اتعود او صرت قويّة فعلاً !
بهاد المخيم عشت خمس سنين، يعني إجيت وعمري "اطنعش"(12)، هلأ بحاول -دايماً- اتناسى آخر أيام عشت فيها بسوريا بالتحديد الحيّ اللي كنت عايشة فيه أنا وعيلتي بالغوطة وكيف طلعنا من هُناك هربانين من الموت والقتل والدم...
بس عمري ما راح أقدر اتناسى تفاصيل حياتي هُناك، وهاد الشي هو يلي بوجعني مع أشياء كتيرة ما بعرف كيف بدي أكتبها...
هون بهالمخيم كبرت وتعلمت وعشت حياة ما بقدر أوصفها الّا بالصعبة والمؤلمة...
بعرف إن مُعاناتي صارت إعتيادية، مش جديدة عالعالم، هُناك ملايين اللاجئين حول العالم، وأنا وحده من هالملايين، بس إتأكدوا إن لكل لاجئ "قصة مأساة"، وبكل كرفان وخيمة لجوء أوجاع وآلام لا يعلمها الّا الله، ومن اوجاعي اللي بحاول إخفائها جواتي، هو عبارة عن سؤال، اوجهه للعالم أجمع: "ليش إحنا صار معنا هيك؟ شو ذنبنا ؟؟" بعرف إن سؤالي ساذج جداً ! بس بالمُقابل بوجّع كتير !"
******
"اليوم متل كل يوم، بصحى بكير وما بلّحق أغسّل وجهي الّا والساعة صارت 7، بسرعة أنادي على إخواتي التنتين، سارة وخديجة واصحيهم من النوم لحتى يروحوا معي عالمدرسة، ما بنفطر لأن... الخبز ما بنجيبه الّا متأخر، يعني بعد ما بنروح عالمدرسة "يأتي الخبز"، يعني تعودنا تقريباً على عدم الإفطار، وللأسف ما بنلبس زي مدرسي، وما عندنا خزاين للاواعي أصلا!
كل البنات اللي بعمري تزوجوا، آخرهم فرح تزوجت قبل شهرين، وأنا بدي اكمّل دراستي... بعرف انو الصف الأول ثانوي هو عامي الدراسي الأخير، والسبب: ما في بكالوريا (ثانوية عامة) هون ! ما فيه مشكلة المهم أنو ما أوقف عن الدراسة، بحلم أكون مُحامية او مُعلمة او عالمة او كاتبة، ما بعرف؛ لسى ما حددت حلمي، بس حابه أكون "شخصية ناجحة" بالحياة !
بيتنا هو الكرفان، كرفانين اتنين؛ واحد منهم للنوم، والتاني للطبخ والجلوس، شو بدي أحكي لأحكي عن بيتنا ؟
بالصيف يتحول لـ "غرفة زُجاجية" تمتص حرارة الطقس وتخزّنها فيه ! وبالشتوية يتحول لـ "فريزر"، وكمان تعودنا على العيشة فيه.
الحمّام مُشترك لمجموعة بيوت، عفواً قصدي كرفانات يشكلوا حيّ سكني! والحمام يُقسم لقسمين قسم لقضاء الحاجة وقسم للإستحمام، وبالجهة التانية من الحارة يوجد حمّام الرجال.
والمي كمان مُشتركة، بكل تجمع سكني يضم حوالي تلاتين كرفان هُناك مكان مُخصص للمياه، هو عبارة عن كتلة اسمنتية خضراء اللون، تخرج منها أربع(4) صنابير، بكل جهة تنتين(2)، المي بس لساعتين من الساعة 7 الصبح لـ 9 وبعدين تنقطع طبعاً!
والكهرباء قصتها قصة، تنقطع كل ليلة عالساعة إطنعش(12)، وترجع عالتسعة(9) الصبح!.
ليش لون الكتلة الاسمنتية، او متل ما بنسميها «خزّان المي» لونها أخضر ؟
ومن وين تيجي المي ؟ وليش الكهرباء تقطع عالطنعش بالتمام وترجع عالتسعة بالتمام ؟
هالاسئلة السخيفة أحيانا تخليني ما بعرف أنام بالليل! يمكن السبب الناموس او التفكير ويا الله ما أصعب التفكير!
إمي ما إجت معنا لهون! آخر مرة شفتها، كانت قبل خمس سنوات، قبل ما نهرب من بيتنا بسوريا !كل اللي بتزكرو ان سارة
كانت بعمر سنة، وكنت حاضنيتها وببكي, كنت راجعة من المدرسة، إنتبهت أنو أمي مش معنا ! حكيت لأبي وبكيت وكنا مو عارفين شو بدنا نعمل ! حواليّ إخواتي يصرخوا، خديجة وعطا الله وأحمد ويوسف وأنا حاضنة سارة وأبكي.. وأبي كان يبكي وهو ماسك رأسه بإيديه (كانت أول مره وآخر مره يبكي فيها واحنا شايفينه)..!
تركنا بيتنا وأمنا، وجئنا إلى هُنا. هاربين من الموت.
أبي هون تغيّر كتير، ما بحكي كتير، دايما مشغول، وحتى لما يضحك بحسّ إنو بمثّل علينا !
كبرنا وعرفنا بأن أبي كان يتدثر بجاكيته، لينام ويضع لحافه علينا لكي لا نبرد في ليالي الشتاء الصحراوية، في هذا الكرفان أبي وضع صورةً لأمي وأخبرنا بأنها ترانا وكان في كل صباح يُحييها على مرأى منّا ويبتسمُ لنا بعد تحيّتها، ويخبرنا بأنها سعيدة، وبأننا سنلتقي بها يوماً في بيتنا... في سوريا.
أمي تبتسمُ في الصورة، وأبي يبتسمُ في وجوهنا كلّ صباح.
ولكنني الآن، في هذا الصباح، أعلم بأن أمي توفيّت تحت ركام بيتنا !
وبأن أبي لم يعد يحتمل مزيداً من التظاهر، وبأنه بدأ يفشل حتى بالابتسام والتحيّة الصباحية للصورة التي بدأت ألوانها تبهتْ!
وأنا رُغم فداحة الحقيقة، إلا أنني أشعر بالتماسك والقُدرة على القيام بدور أبي في كل صباح على أكمل وجه!"
" مدرستي لا تختلف عن بيتي، هي مجموعة كرفانات يحوّطها شيك عالي، وباب المدرسة الخارجي ضيّق كثير، ما بعرف ليش ؟ سألت كتير وما لقيت جواب! ليش عاملينه متل كأنه باب حوش لبيت عائلة، مش بوابة لمدرسة!
ههههه، فعلاً على قولة المثل: الفاضي يعمل قاضي، كويس يلي إلنا مدرسة!
يبلش دوامنا بالمدرسة عالساعة تمانه(8)، وينتهي عالساعة إطنعش(12)، يعني دوامنا أربع(4) ساعات بس، قبل سنة كنت أعاني من المدرسة ونفسي ما أروح إلها، وأهم أسباب مُعاناتي تعامل المعلمات معنا وإحساسي الدائم بإني... غبيّة وما بفهم! بهديك السنة بأول أيام الفصل الأول للصف العاشر، ما بنسى ابداً منظر وحدة من طالبات صفي وهي تبكي وتصرخ من ضرب المعلمة إلها، لأنها مُشاغبة... آه هيَّ كانت مُشاغبة كتير وكلنا كنّا -وما زلنا- متلها، بس الضرب كان وحشي كتير وأوجعنا أكتر !
المُخيم وطني، وكمان ما أبالغ إذا سميته سجني !
شو الفرق بين السجن والوطن ؟
ما بدي تجاوبوني، بدي أحكي، عفواً بدي أكتب ذكرياتي وحاضري، بتزكر زمان لمّا كان عمري أقل من عشر(10) سنوات، بيتنا كان كبير وواسع وكان فيه بالبيت قفص عصافير، ونافورة ميّ بنص الحوش، وكم شجرة خضرا بوسط البيت، وكنّا دايماً نلعب بالمي الباردة بالصيف والدافية بالشتوية، وكنّا نستغرب طبعاً من هاد التناقض الغريب...!
لهلأ اسمع أمي بتنادينا لنوكل، وأسمع إخواتي الصغار يطّاوشوا وأحيانا يتضاربوا، وعالسريع تبدأ إمي بالصريخ عليهم، ويهدأ كل شيء... "لأسمع قطرات ماء تتساقط من فم صنبور الخزان الخارجي، ونُباح الكلاب البعيدة، وافتح عينيّ على ظلامٍ دامس، وهدوء مُزعج يكتنفُ المكان، لا صوت أمي ولا شجارُ إخوتي، لا شيء سوى الظلام وانفاس النائمين من حولي تكادُ تختنق او هكذا أشعر"..
بالليل كلّ يوم، ما بقدر أنام بكير، جميعنا بدون إستثناء ننام بموعد واحد... تقريباً الساعة ايديعش(11)."
"من زمان كتير آخر مرة نمت فيها بعد ما دخلت الفراش بساعة، لازم أضل صاحيه لساعتين(2) او تلاته(3)، هاد إذا ما حسيّت بإختناق او كأن شي ثقيل موضوع فوق صدري!
أول ما احط رأسي على المخده، أشوف وجه أمي. أتذكر تفاصيل التفاصيل، واسئل نفسي كل يوم نفس السؤال؛ شو يلي صار ؟ ليش ما ضلينا عايشين متل ما كنا عايشين ؟
بعرف إن سؤالي طفولي وبعرف إني زكرت شي قريب من هالشي بكلماتي السابقة، بس مين يقدر ينكر جوهريّة السؤال إن صحت العبارة ؟!
من سنة تقريباً بلشت أتساءل بيني وبين نفسي عن مستقبلي وشو مُمكن يحصل معي ؟ فكنت دائما اصطدم بالحاضر اللي عايشته.
كمثال، أنا متأكدة إنه بعد سنة -بعد ما اخلّص الأول ثانوي- راح أكون مُطالبة بأن أرضى بأيّ عرض زواج مني، يُعرض على والدي.
مش متفائلة ابدا وكمان لسا ما وصلّت مرحلة اليأس، من إني احقق اهدافي، منها على سبيل المثال لا الحصر، دراسة الحقوق او أي شي تاني المُهم أكمل دراسة، وطبعاً الزواج خارج مُعادلة اهدافي، بس كيف بدي اقنعهم بهالشي ؟!
هالبرد القارص متل ما يسموه، بس هوا مش قارص، هالبرد يشبه الحبل المتين اللي يلتف حول الجسد ليشلّ حركته.
فصل الشتاء، هو حالة طوارئ دائمة، هُنا في هذا المُخيم الصحراوي، ما أن تهطل زخات المطر، حتى تبدأ السيول بالجريان، ويبدأ الناس في منع تيارات الماء من التوغل لقعر الكرفانات. والشتاء هُنا يعني: صقيعٌ ينفذ للعظم، ورياحٌ شرقيةٌ زمهريرية، ودفء نشتاقه وقلّما نجده، حتى وإن اوينا إلى مهاجعنا باكراً ووضعنا فوقنا اللُحف الثقيلة، تبقى أجسادنا رهناً للإرتعاش المُشتاق لدفء يحتضنه بأسرع ما يُمكن، وللأسف يتأخر الدفء او لا يأتي أبدا !"
"اليوم بمركز...(مركز خدمة مجتمعية داخل المخيم، لإحدى المنظمات الإنسانية)، كان فيه إحتفال او مهرجان المُهم كان موجود أربع(4) اجانب تلت(3) رجال ومره(إمرأة واحدة)، عملوا بالمركز شي يشبه السحر، أنا بالعادة ما بروح للمركز... لأنه ببساطة ما فيه شي هُناك، مُجرد ألعاب مُمله وإحساس دائم بالحاجة والنقص!
المهم... اليوم ومع بعض الشعور بالسعادة اللي حسيت فيها وأنا بشوف الأجانب وهمّا لابسين زي المُهرج ويعملوا حركات وخدع... شعرت بحاجة ماسّة لـ... البكاء! تعرفوا ليش ؟ لأني أيقنت بأننا... الكلمة الوحيدة اللي خطرت على بالي بهديك اللحظات هي: نحن زائدون... مَنسيّون... لا ما اقتبست هالعبارة من قصيدة او ديوان قرأته، ما بعرف ليش فكرت بهالعبارة وأنا أراقب المشهد أمامي؛ أطفال يتحلّقون حول الأجانب الذي جائوا من بعيد، لهذه الصحراء البعيدة حيث يوجد المخيم، ليقوموا بحركات وأفعال تستدعي... تشحذ الابتسام والضحك في وجوه الأطفال، على وجوهنا، نحن الذين وإن ضحكت شفاهنا، تبقى ملامحنا تُخبر بمقدار ما في أعماقنا من مأساة ولوعة!
بدي أحكيلكم هالحكاية وأُنهي فيها كتابة واقعي، على أمل كتابة المزيد في المستقبل، ولأن الكتابة إحدى مواهبي التي سأستخدمها لمواجهة الآم الواقع وتحدياته: كان يا مكان، كان في صبيّة صغيرة إسمها... سورية، كانت سورية كل صباح تلبس مريولها المدرسي، وتحمل حقيبتها على ظهرها، وتذهب للمدرسة، تعودُ آية بعد الظهر لتستقبلها أمها بقبلة وحضن، وما إن تدلف إلى البيت حتى تحاصرها رائحة الغداء الشهيّة، تجدُ والدها وقد عاد من عمله، جالساً على السفرة ينتظر الغداء ويستعجلُ الأم للإتيان به... ينتبه لعودة ابنته من مدرستها، يبتسمُ ويناديها ليحتضنها ويحملها بين يدية، وبعد دقائق، يكون المشهد كالتالي: عائلةٌ صغيرة تجلس حول مائدة الغداء، وعلى وجوههم ترى علائم الطمأنينة والسعادة والرضى... ولكن في مكان آخر وعلى نفس الأرض، وقد لا تكون المسافة الفاصلة بين المكانين سوى بضعة كيلو مترات، عائلةٌ نصفُ أفرادها مفقودين او غائبين او ميّتين... يجلسون حول مائدة غداء، وعلى وجوههم ترى وتقرأ ما تعجز الألسن عن البَوح به..."
2018/10/30
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - ؟؟؟؟
ماجدة منصور
(
2019 / 12 / 27 - 09:23
)
و كأني بك تترحم على ايام الأسدين؟؟؟
عم جرب أفهم مقالك العاطفي0
شكرا
.. تحذيرات أممية من حظر إسرائيل وكالة الأونروا.. ما التفاصيل؟
.. الأمم المتحدة: نصف مليون لبناني وسوري عبروا الحدود نحو سوريا
.. مستوطنون حريديم يتظاهرون أمام مقر التجنيد قرب -تل أبيب- رفضا
.. مسؤولة الاتصال في اليونيسف بغزة: المستشفيات تعاني في رعاية ا
.. الأمم المتحدة: أكثر من مليون نازح في لبنان