الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوظيفة الأيديولوحية في الرواية

أحمد بطاح

2019 / 12 / 25
الادب والفن


إن الباحث في فكر بول ريكور سيقف في كتابه " من النص إلى الفعل، أبحاث في الهيرمونطيقا" على ثلاثة وظائف تؤديها الأيديولوجيا وتشتغل بها باعتبارها ميكانيزمات، وأول هذه الوظائف نجد وظيفة التشويه، وهي الوظيفة التي حددها ماركس، على اعتبار أن الأيديولوجيا هي تشويه الواقع وقلب الحقائق، وخلق تصورات معكوسة عن الواقع. ثم تأتي وظيفة أخرى وهي الوظيفة التبريرية، حيث يقول بول ريكور: ".. ترتبط هذه الوظيفة عندما تتحول أفكار الطبقة المسيطرة في المجتمع إلى أفكار مهيمنة تدعي الكونية والشمولية"1 . بمعنى أن وظيفة التبرير تسعى إلى ترسيخ الأفكار المعكوسة وجعلها مقبولة لدى فئات المجتمع على أنها هي الأفكار الصحيحة والحقيقية، إن التبرير هنا يلعب دور الإيهام بالحقيقة. في حين تتجلى الوظيفة الأخيرة في الإدماج، ويقول عنها بول ريكور: "هذه الوظيفة على ما يبدو أكثر أهمية وعمقا من الوظيفتين السابقتين. ومن أجل أن نفهم هذه الوظيفة، سأنطلق من استعمال خاص للمفهوم، تظهر فيه بوضوح وظيفة الإدماج، يتعلق الأمر بمسألة تخليد جماعة ما احتفالاتها وذكرياتها الأساسية، بحيث يتمكن أفراد الجماعة من إعادة إحياء الأحداث التاريخية كأحداث أولية مؤسسة للهوية الخاصة بالجماعة، ترتبط هذه الوظيفة بتكوين بنية رمزية للجماعة"2 . إن وظيفة الإدماج حسب هذا المعنى هي عملية ترسيخ الحقائق المقلوبة والمبررة، وجعلها جزءا من الذاكرة الجماعية، بل رفعها إلى درجة المبادئ المؤسسة لما هو عام والتي تشكل الوعي الجمعي للمجتمعات.
من خلال إسقاط هذا التحليل لوظائف الأيديولوجيا على الرواية، ومحاولة فهم أبعادها الأيديولوجية، يتسنى لنا القول إن الرواية أيضا تقوم على بعد أيديولوجي يشتغل وفق هذا المنطق، إذ إن الرواية لا تنتج نسخة مطابقة للواقع، حتى في أقصى الحدود التي تتجلى في الرواية الواقعية، بل إنها تسعى، غالبا، إلى خلق عالم موازي، عالم الكلمات، عالم اللغة. إن الرواية هي إخفاق وتعويض، بحيث إن الروائي حينما يفشل في العالم الحقيقي يسعى إلى خلق عالم مزيف، يتحقق فيه ما لم يتحقق في العالم القائم، بل إن الرواية أحيانا هروب من الواقع، ليس في ارتباط بالكاتب فقط، بل حتى القارئ، هذا الأخير الذي يسعى إلى ترميم جراحه بالقراءة، وينتفض غضبا حينما تنتهي الرواية إلى نهاية حزينة، تناقض الإرادتين الفردية والجماعية في أن تكون النهاية السعيدة هي مآل الأبطال. وتعتبر قصة ستيفن كينغ بعنوان Miseryوالتي حولت إلى فيلم سنة 1990 من إخراج روب راينر ومن بطولة جيمس كان وكاثي بيتس، تقدم البطل الذي يعمل روائيا وقد وقع أسير إحدى معجباته بعد حادثة سير، هذه المعجبة التي ستقوم بتعذيبه وسجنه من أجل تغيير نهاية إحدى رواياته إلى نهاية تسعده. إن هذه القصة توضح بجلاء أن الرواية تسعى إلى خلق عالم آخر نعيد فيه معالجة إخفاقاتنا، عالم تظهر فيه الحقيقة مقلوبة ومشوهة. وهذا بالضبط ما سماه بول ريكور بوظيفة التشويه.
أما وظيفة التبرير فتتجلى أساسا داخل الروية، خاصة حينما يحاول الروائي أن يبرر الأحداث والشخصيات التي تكتب عنها، فالروائي أولا يحرص بشكل تام على التناسق المنطقي للأحداث، بحيث تكون هذه الأحداث متتابعة منطقيا، تتماشى والسياق الزمني الذي أنتجت فيه، في حين تكون الشخصيات في عالم الرواية قريبة من الشخصيات الحقيقية في العالم القائم، بحيث يحاول الكاتب أن يرصد السمات الواقعية للإنسان وأن يضفيها على شخصياته. إن هذا المنطق من الاشتغال هو منطق يسعى إلى تبرير معطيات الرواية، وجعلها جزءا من الواقع الذي يعيشه الإنسان، بل إن الرواية الناجحة هي الرواية الأشد إقناعا والأكثر إيهاما بصدقيتها. ولعل قوة الرواية أيضا تكون في قوة التلاعب الذي تمارسه على النفس، بحيث تجعل الإنسان يتعاطف مع الشخصيات، يحزن لحزنها، ويفرح لفرحها، ألم نتعاطف جميعا مع شخصية راسكولينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي بالرغم من قتله للعجوز المرابية؟
إن تبرير المعطيات التي تقدمها الرواية جزء أساسي من عملية الكتابة الروائية، بحيث يستحضر الكاتب أن عليه أن يقدم المعطيات كحقيقة، هذه المعطيات التي تكون في الأخير مجرد انعكاس للواقع على مرآة وعي الكاتب، فتغدو روايته وجهة نظر تدور حول الحقيقة دون أن تتغلغل داخلها، تقاربها دون أن تخوص فيها. إن الكاتب لا يلتزم الحياد في عملية الكتابة، فهو دائما يكتب من خلفية، ويطفو على السطح حتى ولو لو يرد ذلك. ووفق هذا النمط تظهر الأيديولوجيا، والتي يشكل الأدب الملتزم أعمق تجلياتها.
إن الروائي حينما يشوه الواقع، ويبرر معطياته المشوهة، يترك عملية الإدماج للعلاقة بين النص والمتلقي. ويلعب هذا الأخير دورا أساسيا في هذه العلاقة، ولو أن العملية أحيانا يحكمها ما هو نفسي عاطفي أكثر مما هو فكري. وقد تتسرب معطيات الرواية إلى وعي المتلقي لتغدو جزءا من بنيته الفكرية. ومن جهة أخرى ذات بعد جماعي فإن الرواية تشكل التصور العام لهذا النمط من الكتابة. فتصورنا للكتابة الروائية إنما جاء وليد ما قرأناه من روايات، بحيث أصبحت أشكال الرواية جزءا من التصور الجمعي الذي جاء نتاج التراكم الروائي وما كرسه من إدماج. بالإضافة إلى ذلك تسعى الرواية إلى إدماج ما تقدمه من معطيات، تتحول إلى حقائق يؤمن بها الجميع، بل حقائق يستدل بها، ولا ننسى ذلك الدور الذي لعبته شخصيات روائية في علم النفس، خاصة شخصيات دوستويفسكي، أو الأسئلة التي تطرحها بعض الروايات، والتي تتحول إلى أسئلة ينبغي الإجابة عنها باعتبارها تبحث في الحقيقة، نحو السؤال الذي طرحه غسان كنفاني: "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟"3 إذ أصبح السؤال الجوهري في القضية الفلسطينية.
بناء على كل ما سبق يتضح أن الكتابة الروائية تزييف وتبرير وإدماج، أنها محاولة خلق عالم لا وجود له إلا باللغة وداخل اللغة. إن العلاقة السحرية بين القارئ والرواية، والتي أدت إلى انتشار هذا الصنف الأدبي، تجد تفسيرها في هذه المعادلة المتكافئة، فالرواية هي ذلك العالم اللذيذ الوردي والجميل والذي يلجه القارئ هروبا من عالم قذر وحشي مطلي بالدماء والعنف والإخفاق. إن الرواية هي بلاد العجائب التي تأخذ "أليس" في رحلة خرافية، لكنها رحلة وهم وهروب من الواقعǃǃ
----------------------------------------------------
1 بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث في الهرمينوطيقا، طبعة سوي 1986، صفحة 424.
2 المرجع نفسه، صفحة 425-426.
3 غسان كنفاني، رجال في الشمس، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1980، ص 93.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??