الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكومة المالكي ونزع فتيل الطائفية

جوزيف بشارة

2006 / 5 / 29
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


بعد مرحلة مخاض عسيرة وطويلة دامت نحو خمسة أشهر، أعلن الفرقاء العراقيون اتفاقهم على تشكيل حكومة عراقية جديدة برئاسة كامل المالكي. تأتي حكومة المالكي تتويجاً للإنتخابات البرلمانية التي شهدها العراق في ديسمبر الماضي. ما بين الانتخابات وتشكيل الحكومة من فترة مرحلية طويلة شهدت خلافات وصراعات طائفية، وعنفاً وإرهاباً مقيتاً يعكس التحديات العصيبة التي تنتظر حكومة المالكي، وهي التحديات التي تتطلب في مواجهتها عملاً وجهداً، بذلاً وعطاءً، حواراً وإنصاتاً، صبراً وتفاهماً، وتعقلاً وتسامحاً. لم يختر العراقيون ماضيهم الذي جاء صعباً وقاسياً في مراحل كثيرة فرضتها نظم حكم دكتاتورية كان أخرها النظام البعثي برئاسة صدام حسين، كذلك لم يختر معظم العراقيين حاضرهم الذي يشهد عدداً من المتناقضات ربما يصعب أن تشهدها دولة أخرى في عالم اليوم. لقد طال انتظارغالبية العراقيين للحكومة الجديدة، ومع الانتظار حل اليأس في إيجاد حلول لمشاكل العراق المزمنة محل الأمل في عراق يانع ومستقل وحر، وهو الأمر الذي وضع على عاتق حكومة المالكي، حتى قبل تشكيلها، مسئوليات كبيرة ومهام كثيرة لتحقيق طموحات العراقيين المشروعة.

لعل أولى وأهم المهام الصعبة التي تنتظر حكومة المالكي تكمن في نزع فتيل الطائفية عبر التواصل مع الأطراف المختلفة والمتخالفة، واكتساب ثقة الشارع العراقي بغرض تشكيل إجماع وطني يلتف حول الحكومة الجديدة ويؤيد مساعيها الوطنية في بناء عراق جديد قوي مبني على التعددية والتسامح. لا تبدو مهمة الحوار بين الفرقاء سهلة في ضوء الاختلاف الواضح في رؤى وتوجهات واهداف كل منها، وهي مهمة تبدو أثقل من أن يتحملها فرد أو مجموعة من الوزراء أو المسئولين بعدما نجحت سنوات الظلم والظلام في العراق في تخدير وتغييب الشخصية العراقية الجمعية، وهو ما أدى بدوره إلى نشوء الشخصية الفئوية الطائفية العصبية التي تدين بالولاء بالمقام الاول للطائفة او الملة أو الدين أو العرق. لا ينبغ فهم رأيي هذا على أنه معارضة للتنوع الثقافي في العراق، إذ لست ارى غضاضة في فخر البعض بالانتماء لمجموعاتهم المميزة، ولكن ما اعنيه هنا هو خصوصية الانتماء الوطني والحضاري والثقافي في إطار عراقي.

يلعب التقسيم الطائفي، الذي تدعمه بالطبع تدخلات خارجية من جماعات ودول ذات مصالح سياسية واستراتيجية وتحريضات داخلية، دوراً كبيراً في حالة عدم الاستقرار التي يعيشها العراق حالياً والتي قد تؤثر بالسلب على وحدة ترابه إذا لم تبلي الحكومة العراقية الجديدة بلاءً حسناً في تعميق شعور العراقيين بعراقيتهم. لا يكون زرع الانتماء في الحالة العراقية إلا باستئصال الطائفية من المجتمع المدني، وفصل المنابر والمراجع الدينية عن السياسات الحكومية. من الغريب أن يكون صعود النزعة الطائفية في العراق متزامناً مع بشائر نسمات الحرية التي بدأ يستنشقها العراقيون في السنوات الثلاث الأخيرة، إذ لم يعرف عن العراقيين تلك النزعة حين حكموا بالحديد والنار أبان حكم نظام صدام حسين البوليسي. لقد بات واضحاً خلال السنوات الثلاث الماضية أن هناك من يعمل قدر طاقته بتحريض من منتفعين خارجيين ومحليين لتفويت الفرصة الذهبية لبناء عراق علماني ديمقراطي.

مهمة أخرى بالغة الصعوبة والتعقيد ينتظر أن تضطلع بها الحكومة العراقية الجديدة وهي تتمحور في العمل الجاد على وقف الإرهاب عن طريق تثبيت دعائم المجتمع الديمقراطي المدني العلماني الوليد، واقتلاع جذور الإرهابيين من عينة أبو مصعب الزرقاوي. لا يمكن فصل الإرهاب عن الطائفية في العراق، فجميع الأعمال الإرهابية تتم بدافع الانتقام الطائفي أو التقليل من شأن إحدى الطوائف العراقية. رغم أن الإرهاب لم يقد العراق إلى ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "حرب أهلية"، بسبب حكمة بعض القادة الوطنيين، إلا أن استمرار استهداف بعض الطوائف وعدم السيطرة على الإرهاب قد يدفعان بالبلاد نحو حرب طائفية لا يحمد عقباها. لذا تبدو الحرب على الإرهاب غاية في الأهمية في المرحلة الراهنة وتتطلب من حكومة المالكي تكريساً للعقول الفكرية والإمكانات البشرية والمادية والعسكرية حتى يتم وأد الفتنة قبل أن ينفذ صبر العراقيين الأبرياء.

على جانب أخر، ترتبط الحرب على الإرهاب بمهمة أخرى لا تقل أهمية عن المهمتين السابقتين وإن لم تزد، حيث ستجد حكومة المالكي نفسها مطالبة بالتفاوض مع القوات الأجنبية من أجل وضع جدول لرحيلها عن العراق. لا يبدو أن الحكومة العراقية في عجلة من أمرها بشأن المهمة الثالثة في ظل حالة عدم الاستقرار الداخلي، فضلاً عن عدم أهلية العراق وقواته المسلحة الوليدة في الدفاع عن استقلاله وحدوده في الوقت الراهن. ولكن استطلاعات الرأي الأخيرة تبرز أن انسحاب القوات الأجنبية يمثل أولوية لغالبية العراقيين الذين أصابهم اليأس من عدم قدرة هذه القوات على خوض مواجهة حاسمة ضد الإرهاب، بل أن الأصوات التي رحبت بعزل صدام حسين أعربت عن ندمها بعدما تبين لهم أن نظام الطاغية الحاكم قد استبدل بعشوائية الطغاة الإرهابيين. المثير أن أصواتاً من هنا وهناك بدأت في ترديد اتهامات حول وجود علاقة بين القوات الأجنبية وأولئك الذين يبثون حالة عدم الاستقرار في أوساط العراقيين.

مما لا شك فيه أن للقوات الأمريكية مصالح استراتيجية في العراق تتطلب وجوداً عسكرياً مكثفاً ونفوذاً سياسياً قوياً، غير أن مقولات عن ضلوع الأمريكيين في حالة عدم الاستقرار ليس لا ما يؤيدها، إذ أن من مصلحة إدارة الرئيس بوش أن يشهد العراق استقراراً ولو نسبياً لمواجهة الضغوط الداخلية التي أودت بشعبيتها داخلياً وشوهت صورتها خارجياً. فرغم محاولات الإدارة الأمريكية إقناع العالم بنجاحات في العراق، إلا أن اعترافات بوش الأخيرة بالأخطاء التي ارتكبتها القوات الأمريكية والمصاعب التي تواجهها هناك تثبت عدم رضاه عن النتائج التي أفضت إليها الحرب في العراق. لا يغفى أن الغرض من وجود القوات الأمريكية في العراق قد تحول من مجرد الإطاحة بنظام صدام حسين إلى الجعل من العراق نواة للديمقراطية في الشرق الأوسط، لذا فالرئيس الأمريكي يرفض وضع جدول انسحاب لقواته في الوقت الراهن، ومن ثم فمن غير المتوقع أن ينسحب الأمريكيون كلياً من العراق في ظل التدهور الخطير في الأوضاع الأمنية وعدم الاستقرار السياسي اللذين يعانيهما العراق واللذين يعيقان بوش من تحقيق أحلامه وطموحاته في المنظقة.

لست هنا بصدد مناقشة صحة توجهات بوش الشرق أوسطية من عدمها، ولكن ما أريد التأكيد عليه هو أنه في الوقت الذي قد يعيق فيه الإرهاب والطائفية الحكومة العراقية الجديدة من إحلال الاستقرار الامني والاجتماعي فإنهما سيعنيان استمرار بقاء القوات الأجنبية في العراق حتى إشعار أخر، حيث أن المالكي، لا محالة، سيجد صعوبة كبيرة في طلب رحيل الأمريكيين والبريطانيين. المزاعم التي يطلقها البعض بتصوير الإرهاب على أنه مقاومة، وافتراض أن النشاط الإرهابي يرتبط بوجود القوات الأجنبية وسيتوقف برحيلها هي مجرد افتراءات تفتقد للصحة والدقة والوطنية، وهي تمنح الإرهاب مبررات النخر في أسس المجتمع العراقي. إذ كيف توجه مقاومة وطنية سلاحها إلى صدور العراقيين؟ لقد افزعني خبر بثته وكالة الانباء الفرنسية الأسبوع الماضي عن تصفية للنخبة المثقفة العراقية، حيث قام الإرهابيون خلال السنوات الثلاث الماضية بتصفية ما لا يقل عن 500 من أستاذة الجامعة والحاصلين على رسائل الماجستير والدكتوراة. فهل هذه مقاومة؟ إنها بدون أدنى شك أسوأ أنواع الخيانة الوطنية التي لا ينبغي تبريرها أو التسامح معها.

إن مهام الحكومة العراقية الجديدة التي ناقشتها هنا وغيرها تبدو صعبة وشاقة، ولكنها ليست بالطبع مستحيلة. رغم إشفاقي على المالكي ووزرائه ومن قبلهم ومعهم الرئيس جلال الطالباني في مهامهم الجسام الحسام، إلا أن الأمل يحدوني في ان ينجح هذه الفريق في تجاوز الطائفية المقيتة التي تمزق ولا تؤلف، تقسم ولا توحد؛ تلك الطائفية التي يدفع ثمنها ذاك العراقي البسيط الذي يفقد حياته أو حياة حبيب او قريب أو نسيب. إذا كانت قسوة الماضي وتحديات الحاضر قد ساهمتا في غرس بذور الطائفية في جسد عراق الأمس واليوم، لكن من المؤكد أن عراق المستقبل يحمل وعوداً مشرقة للعراقيين إذا ما نجحوا في تكوين المجتمع المدني العلماني الذي يقوم على التعددية والتسامح، ويتجاوز الطائفية ،ويتغلب على الإرهاب، ذلك جنباً إلى جنب مع حصولهم على استقلالهم الكامل وحقوق إدارة شئون بلادهم بعد جلاء القوات الأجنبية. فهل ينجح المالكي في مهمته الصعبة؟ ذلك ما ستجيب عنه الأيام والأسابيع والشهور وربما السنوات المقبلة.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي