الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حضرة صاحب الفخامة: الديناصور ونجله

محمد حماد

2006 / 5 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


عندما أبدع الكاتب البرتغالي خوزيه كاردوسو بيريس روايته الرائعة حضرة صاحب الفخامة الديناصور، والتي كتبها في العام 1971 في منفاه بلندن، كان يريد أن يقول إن الديناصورات التي انقرضت من الطبيعة بقيت في الحياة، وإن الكائنات التي كانت تلتهم كل شيء يقع في حوزتها، لم يكن لها أن تبقى وإلا كانت الأرض نفسها في مهب ريح الدنصرة التي لا تبقى ولا تذر.
والرواية تحفة روائية بفكاهتها وخيالها وعذوبتها ولغتها الشعرية، وهي رواية عن دكتاتور التهم حاضر مملكته، ولم يوفر ماضيها، وأصبح هو عنوان حاضرها المقيم، تسمى كل شئ في المملكة باسم الديناصور: شارع الديناصور، وكازينو الديناصور، ومصرف الديناصور، وعملات الديناصور الذهبية، ومطار الديناصور، وأكاديمية الديناصور، ونادى الديناصور لكرة القدم، وقصر الديناصور، واستراحة الديناصور، وشرم الديناصور، ولا شيء يصير في المملكة بدون الديناصور، ولا أحد يعمل إلا بتوجيهات الديناصور، وكل الأنشطة العلنية منها والمخفية تجرى تحت رعاية الديناصور، متأني في جميع قراراته، وتاريخي في جميع خطاباته كما تقول قصيدة جمال بخيت الرائعة في وصف حال كل الديناصورات.
وفي رواية خوزيه كاردوسو بيريس يبلغ الجنون بالديكتاتور الديناصور حد توجيه خطبه المسجلة إلى الكواكب الأخرى، من أجل إيصال الدنصرة إلى الكون كله، فلم يعد يكفيه التهام مملكته وحدها، التي لم تشبع شهوة الالتهام التي تتلبسه، وينتهي الحال بالدكتاتور المخبول ملتصقاً بكرسيه جثة بين الحياة والموت، تزكم رائتحها المملكة كلها.
الرواية التي تفضح ظاهرة الدنصرة تذكرك برواية خريف البطريرك لجارسيا ماركيز، وهي ليست منقطعة الصلة برواية السيد الرئيس لأستورياس، ولا حتى برواية 1984 لجورج أورويل، وستجد ظلها في روايتي عبد الرحمن منيف شرق المتوسط و الآن، هنا أو شرق المتوسط ثانية وفي رواية القصر لفرانز كافكا ..
تكرست الدنصرة في السياسة فانعكست في الإبداع والأدب، وهي في الواقع المعاش أكثر ألماً وأشد وبالاً، وأنت تقرأ واحدة من هذه الأعمال لن تشعر في لحظة أنك غادرت المنطقة، ولا تحركت قيد أنملة من بلدك، ستختلف الأسماء، ويبقى الفعل واحداً، وتبقى الظاهرة نفسها، بنفس خطوطها العريضة، وبنفس تفصيلاتها حتى تكاد تتطابق الوقائع والرموز!
انظر حولك، تجد الدنصرة تلتهمنا جميعاً، وتجدها عنوان السياسة المعروف في بلادنا، وهي المحل المختار لنظام الحكم الذي يجثم فوق صدورنا بدون مفارقة، ولا أمل في مفارقة قريبة، وتبقى روائحه الكريهة تصل إلينا تنبئ عن جثث طال انتظارها للدفن!
انظر حولك تكتشف أن الدنصرة ليست فعل ماضي، لم يعد له وجود مع انقراض الديناصورات التاريخية، ولكنها فعل الحاضر الذي يعيش فينا ويعيث فساداً وإفساداً في البلاد والعباد!
الدنصرة كما في الأدب وفي السياسة هي أن يلتهم فرد كل هذه الاختصاصات التي تجعل منه صاحب الفخامة الديناصور، القادر بحكم دستور الدنصرة أن يلتهم بهذه الاختصاصات كل شئ في البلد!
الدنصرة هي التي تفسر لنا ظاهرة أن يكون فرد في حجم بلد، وتكون فرنسا هي جورج الخامس، ويكون جورج الخامس هو فرنسا!
الدنصرة هي التي تدلنا على السبب الذي يجعل صاحب الفخامة الديناصور يفكر دون أن يجد في ذلك غضاضة في أن ينقل ملكية البلد لابنه الديناصور المتلمظ لالتهام ما بقى خارج نطاق التهام أبيه!
لا شئ غير الدنصرة يشرح لنا كيف يلتهم الديناصور حزباً ليلتهم به كل الأحزاب، ويشكل به حكومة يلتهم بها الدولة ليتسنى له أن يلتهم بها الشعب نفسه!
وليس لك أن تتعجب حين تسمع وتشاهد بأم عينك صاحب الفخامة الديناصور يلتهم باسم الشعب تمثيل الشعب، وبالبلطجية الرسميين منهم قبل المسجلين خطراً يفرض على الجميع النسبة التي يريد الحصول عليها ليمارس مستريحا شئون الدنصرة!
والدنصرة لا تلتهم أصوات الناخبين الأحياء قبل الأموات فقط، ولكنها على استعداد لالتهام الناخبين أنفسهم إذا أبدوا رغبة في رفض حيتان صاحب الفخامة الديناصور الكبير!
والدنصرة ليست مثل الصبر الذي له حدود، فهي لا تتوقف عند حد، يزيدها الالتهام شهوة في الالتهام، وتغريها السهولة التي تمارس بها التهامها لكل ما تقع عليه بالرغبة في استمرار الأمر لها، واستقراره عليها!
وفي بلد يحكم فيه صاحب الفخامة الديناصور لا يوجد قانون غير قانون الدنصرة، وعن طريق ديناصورات صغيرة تكبر كلما التهمت ما يقع تحت يدها يتحكم في البلاد!
وفي مملكة صاحب الفخامة لا أحد يريد أن يفقد كرسيه، وبالتالي يفقد قوته وجبروته وسطوته، ويتحول من ديناصور قادر على الالتهام إلى مواطن قابل للالتهام، وهذا ما يجعله يبتكر شتى الأساليب الوحشية للمحافظة على الكرسي، وعلى التصاقه به.
والدنصرة لا تقتل القتيل وتمشى في جنازته، ولكنها تقتله لكى تلتهم عظامه قبل لحمه!
وشرطة صاحب الفخامة الديناصور في خدمة الدنصرة، والسوط والزنزانة والسيف والسنجة لمن يتخيل الكرسي فارغاً من جثة صاحب الفخامة!
الدنصرة باختصار أعلى مراحل البلطجة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال


.. روسيا تواصل تقدمها على عدة جبهات.. فما سر هذا التراجع الكبير




.. عملية اجتياح رفح.. بين محادثات التهدئة في القاهرة وإصرار نتن


.. التهدئة في غزة.. هل بات الاتفاق وشيكا؟ | #غرفة_الأخبار




.. فايز الدويري: ضربات المقاومة ستجبر قوات الاحتلال على الخروج