الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضحية ترأف بجلادها

كريم رضي

2003 / 4 / 10
حقوق الانسان


بتصرف من الكلمة التي ألقيت في الأمسية الشعرية لجمعية حقوق الإنسان لمساندة ضحايا التعذيب في 25/6/2001 م في البحرين بعيد عهد الانفراج السياسي:

ضحية ترأف بجلادها

كان الجواهري عليه الرحمة يقول ذات خيبة واصفا شعبه المثقل بالشتاءات:
لم يعرفوا لون السماء
                            لفرط ما انحنت الرقاب
ولم يكن الجواهري فيما نؤول هذا النص الصغير ولكن المشع باكتماله دونما حاجة لما يسبقه وما يليه في عمود الشعر الكلاسيكي, يتحدث عن البشر بل عن النصوص أيضا.
إن الضحية التي حشرت ذات ظلمة بين الحذاء والجدار أو بين السوط والسطح البارد أو أيا كان عذابها تتماهى مع النص المصادر والمحصور بين ظلمة المخيلة وتحريم الكتابة. النص المدان والملغى.
و ما أن تبرز الحرية حتى يكتشف الجسد المعذب أن ثوبها كبير عليه.
لقد انكمش الجسد حتى الطفولة وهو: (يلملم ظله ليصد جيشا) كما يقول الرائع: قاسم حداد.
وهنا أيضا يجد النص نفسه وكتابة الحرية تفيض على ضيقه وانغلاقه.
وإذا كنا سنساعد الضحية كما يعلن جمع الأحبة هذا المساء, فإن أهم ما نحتاج إليه هو أن نساعدها على ألا تتقمص جلادها.
كما نساعد النص على أن يتحرر من عنفه الرمزي تجاه ذاته وتجاه الآخر, ذلك العنف الذي عاشه النص في سرداب العذاب.
نساعد الضحية على أن ترأف بجلادها ونساعد النص على أن يرأف بمشروعه الشعري بعيدا عن شهوة القصاص.
كل ضحية مشروع جلاد إن لم تتأمل نفسها في لحظة خلاقة و إن واصل النص الثقافي بكل تمثلاته في الشعر والدين والسياسة والقص إعادة إنتاج نوستالجيا الحنين إلى الثأر والإنتقام.

بالأمس وقبيل إعدام ماكفاي الذي دبر انفجار أوكلاهوما الأميركية وقف أحد والدي إحدى ضحايا الانفجار المائة والخمسون ليقول في إيثار إنساني كبير:
إن الحكم بإعدام ماكفاي انتقام وليس عدالة
(THIS IS REVENGE NOT JUSTICE)
 واليوم نحن إذ نحتفل برفقة الضحية ومساندتها نقترح عليها بساطة العبارة التالية: برغم كل عذابي أرفض تعذيب جلادي, أنا الضحية فلتسمعوني, ببساطة لا أريد أن أثأر, لا أريد أن أثور, أريد أن أؤثر.
كأن الضحية تتضامن مع الجلاد, قاتلاً وقتيلاً لننتج معا نصنا الجديد
نريد الاعتراف لكي لا ننسى, لا لكي ننتقم
لا نريد القصاص,  نريد العدالة
لا نريد العذاب, نريد الحساب
لن نصفق لتعذيب يحل محل تعذيب آخر
لن نهتف لنص يعدنا بالثأر للضحايا دماً دماً وفصلاً فصلاً
سنعمل من أجل ألا تكون هناك ضحية أخرى للتعذيب بعد اليوم مهما كانت الأسباب والذرائع.
لننشط معاً في جمعيات حقوق الإنسان ومن بينها جمعيتنا الفتية لنحفظ لنص المادة الخامسة من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان هيبتها وشأنها الكريم ونكررها ببساطة النص ولا اجتهاد أمام النص كما لا ينفك الفقهاء يقولون:
(لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة.) -  المادة الخامسة من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان- عام 1948م.    

 وسيكون النص الذي سننشط في إبداعه واسعا بحجم هذا العالم.
سنذهب لمساءلة كل نص يبشر بالعذاب والتنكيل أو يجعل منه شرطا للتطهير الروحي في الموروث الديني والأدبيات السياسية والتربوية والإبداعية. وهنا يتقاطع المثقف الحقوقي والمثقف الإبداعي, فبينما سيعمل الأول على ضمان تحريم ممارسة التعذيب سيشتغل الآخر على تربية الروح الإنساني على مبدأ احترام الجسد.
كل الاحترام لهذا الجسد تماما كما تحترم الروح.
أعني هذا الجسد الذي لم يكن لتعذيبه أن يمر بهذه السهولة في الوعي البشري لولا أن قيمته الاعتبارية تدنت بازاء قيمة الروح في معظم تفاسير وأخبار الفلسفات والأديان الكبرى.
وإذا كان لنا أن نبحث في خلفية أعمال التعذيب عن أسباب حقوقية كغياب القوانين المحرمة للتعذيب أو تعطيلها أو إمكانية الإفلات من العقاب، فعلينا أن لا ننسى البعد الثقافي وراء فلسفة التعذيب القائمة على نظرية علو شأن الروح وتدني شأن الجسد.
وإن نظرة إلى النص الثاني أو الثالث ونعني بهما الأخبار المنقولة والأحاديث والتفاسير بعيدا عن قدسية النص الأول اللاهوتي والنبوي لتكشف لنا عن طاقة المخيال الهائلة في تصوير عذاب الجسد البرزخي أو الأخروي بشكل لا يمكن لأي فن بشري مهما بلغ في صناعة التعذيب وممارسته أن يصل إلى تجسيده.(كتاب الإسراء والمعراج مثالا)
على هذه المرجعية تربت عليها ذهنيتنا بحيث أصبح التعذيب مقبولا أو في أحسن الأحوال ممكنا ومتوقعا  طالما كان السبب فيما نراه عادلا حيث ليس للجسد الإنساني في حد ذاته منفردا قيمة مستقلة عن قيمة رقي الروح وسمو العقيدة، بل أن تطهير الروح من أدرانها وذنوبها لن يتم إلا عبر تعذيب هذا الجسد عذابا لا يطاق، لا ينتهي أبدا حتى بالموت إذ أنه عذاب من أهم صفاته الخلود.
وعودة بسيطة لطغاة الدول من صدر الإسلام مرورا بالأمويين فالعباسيين فالفاطميين فالأتراك فالمماليك فالعثمانيين حتى عذابنا القريب وجد نص التعذيب دائما ما يشبهه أو يغذيه بالصور والتقنيات في نصوص الأخبار والمنقولات  في تراثنا.
فمن الحرق بالنار إلى السحل بالحديد إلى إخراج الألسن من القفا إلى التعذيب بالجوع والعطش والأفاعي إلى ارتكاب الفعل الفادح بالضحية بالاتصال المباشر أم عبر الأسياخ و غيرها. وهي كلها أساليب قرأنا مثلها وأبشع منها في منقولات تراثنا المنسوب زورا الى الدين.
  بل لقد جاهر الحجاج والرشيد والمنصور وغيرهم بإسناد الممارسة الى النظرية الدينية في أكثر من جلسة تعذيب بحق معارضيهم، كقول الحجاج للسجناء: اخسئوا فيها ولا تكلمون. 
وعلى هذه الجبهة الثقافية ربما نحتاج إلى اشتغال كبير يبدأ من تنقية النص الإخباري وإعادة انتقاء وتهذيب طويلة له لإنتاجه بما يليق وإنساننا المعاصر الذي تستقر أعرافه وعقائده جيلا فجيلا على المزيد من احترام الجسد وتحريم الإساءة له مهما كانت الدواعي.           


كريم رضـــي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير مكتب الإعلام بالأونروا في غزة إيناس حمدان: غلق المعابر


.. الأمم المتحدة: إغلاق معبر رفح يؤثر على إمدادات الوقود والمسا




.. -اقطعوا العلاقات مع إسرائيل-.. طلاب يتظاهرون بجامعة غرناطة د


.. اليوم الجمعة.. دعم منتظر من الأمم المتحدة لمساعي فلسطين إلى




.. مشاهد لآلاف النازحين الغزّيين يتكدسون في دير البلح