الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إمكانية المهمة الديموقراطية في سوريا

راتب شعبو

2019 / 12 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


بعد امتصاص الصدمة الأولى للثورة السورية، وبدء تشتت فاعلية القوة الشعبية غير المنظمة، فإن القوى الداخلية التي أثبتت فاعلية وفرضت نفسها في إطار الصراع الذي يقترب من إكمال عامه التاسع في سورية، هي القوى التي تتمتع بمركزية عالية في التنظيم وقدرة على الضبط والفرض والمحاسبة. بكلام آخر، هي القوى ذات اللب التنظيمي العسكري الذي يحيل كل جوانب النشاط الأخرى فيه، أكانت سياسية أو فكرية أو إغاثية ..الخ، إلى توابع ترويجية له. هذا النوع من القوى يستطيع ضبط الأفراد وتسخير طاقاتهم لخدمة الغرض الذي يريد. يكون ذلك، بلا شك، على حساب القيم الديموقراطية الداخلية. لا يخرج عن السياق إمكانية وجود واجهات ديموقراطية لهذه القوى التي تحتفظ دائماً بمركز قرار متحرر إلى حد بعيد من تأثير هذه الواجهات حين توجد.
هذا النمط من القوى، والذي تجسد في سوريا، بصورة أساسية، في نظام الأسد وجبهة النصرة ووحدات حماية الشعب الكردية، يقوم على نفي مزدوج للديموقراطية: الأول هو نفي العلاقات الديموقراطية الداخلية لصالح وجود قيادة لا تُنازع وتتمتع بسيطرة كبيرة على النشاط العسكري، الأمر الذي ينطوي على بعد "ترهيبي" مباشر أو غير مباشر، يطال المخالفين أو المنشقين "الشواذ". والثاني هو نفي العلاقة الديموقراطية مع المحيط، ما يعني الصدام الحتمي مع الأفراد أو القوى النقدية أو المغايرة وصولاً إلى إلغائها التام إذا أمكن ذلك. أو يمكن السماح بوجود محدود ومضعف ومراقب لقوى مغايرة، وجود مضبوط تحت السيف، لمجرد التمويه والتغذية الإعلامية.
وسط البيئة السياسية السورية المعقدة والمتحركة اليوم، تسمح البنية المركزية الصارمة للتنظيم بضبط الجسد التنظيمي وتوجيهه، ذلك أن وجود نواة قيادية مقررة وتملك إمكانية الردع المعنوي (تبجيل القيادة الذي تغذيه الماكينة الإعلامية للقوة) أو الردع المادي (شتى صنوف المضايقات وصولاً إلى إمكانية التصفية، حتى لو تمكن الفرد من الفرار إلى الخارج) تحيل التنظيم إلى جسد تنفيذي وتمنع التمايزات السياسية داخله إلى حد كبير، فيتحول إلى وزن فاعل ومؤثر.
غير أن نشوء مثل هذا التنظيم غير ممكن دون وجود "قضية" تكون منبعاً للعصبية التي تشد الجمهور وتدفعه إلى الفعل والتضحية، وإلى إخماد التفكير النقدي. كانت "قضية" نظام الأسد في الحضيض حين ثار السوريون مطالبين بالتغيير، فاعتمد في البداية على رصيد قوته المتوفر سلفاً (قوة الدولة)، ثم راح يبني قضيته على الجمع بين تشويه الخصم بوصفه طرفاً عميلاً يريد تدمير الجيش والدولة السورية، وبين اعتباره طرفاً سنياً طائفياً يضمر تأسيس "إمارات" والانتقام من العلويين والأقليات المذهبية الأخرى، وما يقود إليه هذا من تغذية طائفية "أقلياتيه" بالنتيجة. في حين توفر لجبهة النصرة "قضية" جاهزة هي مظلومية السنة في "الشام" (الشام توجد في كل التسميات التي اعتمدتها الجبهة) والتكليف بإقامة شرع الله، كما توفر للتنظيم الكردي المظلومية الكردية العريقة.
بالطبع لا نساوي هنا بين القضيتين الأخيرتين إلا من باب كونهما مصدراً للشد وللعصبية التي يستثمر بهما تنظيمان شديدا المركزية. غير أنه يمكن القول إن القضايا تتساوى من منظور النمط العسكري والترهيبي للتنظيم الذي ينشأ على "نصرة القضية" فيجعلها أساساً للقمع الذي يمارسه التنظيم في الداخل (داخل التنظيم) وفي الخارج. واللافت أن هذه القوى تتجه إلى أن تتخذ شكل "دولة" غير معلنة في مناطق سيطرتها. من هذه الناحية، فقط داعش مضت في المشوار إلى نهايته فأعلنت نفسها دولة منذ مرحلتها العراقية الأولى.
البنية المركزية للتنظيم تساعده على حل المشكلة التمويلية، سواء من حيث قدرته على فرض أتاوات على المجتمع الذي يتواجد فيه، مستنداً إلى التعاطف أو إلى القسر، أو من حيث جاذبية تنظيم كهذا للقوى الدولية المؤثرة التي تستطيع الاعتماد عليه لتنفيذ سياستها في البلد، ليس فقط لأنه تنظيم "حديدي" قادر على التنفيذ والفعل، بل أيضاً لأنه يضمن الثبات في "التحالف" نظراً إلى لا ديموقراطية آلية اتخاذ القرار فيه، ما يعني غياب فاعلية الجسد التنظيمي في نقد أو رسم سياسة التنظيم. على هذا تصبح قوة التنظيم شبيهة بكرة الثلج، العناصر فيها تغذي بعضها البعض. يزداد التنظيم قوة، فيزداد الاعتماد عليه، ويزداد قدرة على استجلاب التمويل وعلى المضي أبعد في التجنيد والتسلح والسيطرة، وهكذا. ثم يصبح هذا التنظيم، بفعل تأثيره وقدرته على فرض نفسه، مركز جذب لأفراد يتحولون إلى محيط "ديموقراطي" هامشي له، بدل أن يكونوا عناصر لتنظيم ديموقراطي.
التنظيمات غير العسكرية التي صمدت وحافظت على شيء من الحضور والفاعلية (المجلس الوطني، الائتلاف الوطني، هيئة التفاوض) استمدت تماسكها واستمراريتها من قوى دولتية احتضنتها في السياسة وفي التمويل، أي استمدت تماسكها وحضورها من مصدر خارجي عنها. مع الوقت لم تعد هذه التنظيمات تكترث حتى بتمويه صورة تبعيتها.
أما المساعي التي تحاول تنظيم فاعلية العناصر الديموقراطية بطريقة ديموقراطية، فإنها تواجه الفشل على نحو ثابت. التعقيد السياسي للوضع السوري ينعكس على هذه المساعي على شكل تباينات في التقدير والتصورات من جهة، وعلى شكل غرق في التفاصيل والحساسيات، وتبديد للطاقات، في ظل غياب شخصيات سياسية جامعة لها وزن معنوي وفعل استقطابي. يضاف إلى ذلك انعدام جاذبية هذه المساعي حين تبدو مجرد لقاءات (افتراضية غالباً) للجدل اللانهائي حول كل شيء، هذا فضلاً عن المشكلة المالية التي تحد من الفاعلية.
الواقع الموصوف يدفع الديموقراطي السوري في ثلاثة اتجاهات: إما الإحباط والاستنكاف عن السعي، أو الالتحاق بالتنظيمات القوية من موقع التابع حتى لو شغل موقعاً إدارياً عالياً فيها، أو الكفر بفكرة الديموقراطية (أي بالتنظيم الديموقراطي) على الأقل كوسيلة تغيير والاقتناع فقط بجدوى التنظيمات المركزية، سواء شارك فيها أو بقي على هامشها.
يقودنا العرض السابق إلى تلمس إحدى العوائق الأساسية في الانتقال إلى الديموقراطية، وهي أن فاعلية الأداة، في ظل الشروط المحلية والدولية التي نعيشها، تستدعي المركزية الصارمة في التنظيم، وتستدعي تغذية عصبية منزاحة عن العصبية الوطنية، وهذا يطرد القوى الوطنية الديموقراطية ويبتلع أنصارها، ويجعل ساحة الصراع السياسي محتكرة لصالح قوى تتشابه في البنية والآليات ولاوطنية العصبية، ولا يشكل فوز إحداها فوزاً للديموقراطية، ومن غير المستبعد أن ينتهي صراع مثل هذه القوى في النهاية إلى تفاهم واقتسام مصالح فيها بينها بعد استهلاك شعب وموارد البلد.
كما يخرج من العرض السابق سؤال مقلق ويستوجب التأمل: هل يمكن بناء تنظيم وطني وديموقراطي وازن وفعال في البيئة السياسية السورية وأشباهها؟ بكلام آخر: إلى أي حد يمكن القول إن المهمة الديموقراطية ممكنة في هذه البيئات؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل