الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَنْسَف لحم

ضيا اسكندر

2019 / 12 / 28
كتابات ساخرة


عند الظهيرة، وقُبَيل توزيع وجبة الغداء بدقائق، فُتِحَ باب زنزانتنا ودخل رجلٌ أربعينيٌّ معزّزاً مكرّماً خلافاً لجميع الموقوفين في الفرع. وقام السجّان الذي أدخله بتوصيتنا به هاتفاً بنبرةٍ متآمرةٍ ظافرة: «ديرو بالكن عليه هه.. ما بدّي حدا يزعجه أبداً. هادا حصّتي، مفهوم؟» وأغلق الباب منصرفاً.
ألقى التحية النزيل الجديد وجلس على طرف البطّانية تحوم على وجهه ابتسامة مرتبكة. سارعنا إلى الترحيب به واستجوابه بالسؤال التقليدي: «خير يا أخ؟ شو التهمة؟» فأجاب بعد أن زمّ شفتيه مستخفّاً: «شغلة بسيطة، تهريب حديد. بكرا بإذن الله بكون ببيتي. وأنتو شباب شو تهمتكن؟» أجاب ثلاثةٌ منا بصوتٍ واحدٍ تقريباً: «نحنا سياسيين..» تابع سائلاً: «إخوان مسلمين؟» أجبناه: «لا، بل شيوعيين». حوقل الرجل متمنياً لنا الإفراج القريب.
لحظات ويتم توزيع طعام الغداء علينا (مرقة دبس بندورة مع صحن برغل). راقب الرجل الطعام بفضول متسائلاً بصوتٍ يشوبه الاستغراب والإحباط: «ليش ما بيقدّمو لحمة مع الأكل؟!» ضحكنا ساخرين وأوضحنا له بأن اللحمة باتت من الأمنيات المستحيلة التحقق هنا منذ أشهر طويلة.. وأردف أحد الرفاق متذمّراً بقهر: «إننا نحلم بشواء، حتى لو كان من لحومنا!». بدأ الرجل يهزُّ رأسه بطريقة من يتفهّم الأمر. وسرعان ما وثب من مكمنه كالمحترق، وأخذ يقرع باب الزنزانة بعنف. دقيقة وتفتح طاقتها ويظهر السجّان الذي ارتسمت على وجهه بسمة عندما وجد قبالته الرجل الموصى به (حصّته). ولمّا لاحظه مقطّب الجبين، أبدى فوراً اهتماماً بالغاً وسأله بتلهّف: «خير؟! في حدا زعجك؟»
قال له الرجل باندفاع: «لا. شوف شو بدّي قلّك، بتوصّيلي على منسف لحم خروف مع سطل لبن، بدّي ياهُن خلال ساعتين. وخُدْ هاي مصاري قدّ ما بدّك.. اليوم عازم الشباب عالغدا» وسحب من جيبه رزمة من النقود وأعطاها للسجّان. ثم عاد وجلس ونحن نرقبه بعيونٍ مليئة بالأمل. نتخاطف النظرات المرتابة سراً.

وبالفعل، بعد حوالي الساعتين من الانتظار المرير، فُتِحَ باب الزنزانة ودخل أحد عناصر الفرع حاملاً صينيّة يبلغ قطرها متراً مغلّفة بالسيلوفان بالإضافة إلى سطل لبن، ووضعهما على الأرض متمنّياً للجميع غداءً هنيئاً.
وما إن أُغْلِقَ الباب حتى هرعنا إلى الصّيد الثمين. وبطريقة همجية مجنونة نزعنا السيلوفان عن الصّينيّة، ففاحت الرائحة المثيرة وبانت قطع اللحم المشويّة المسيلة للّعاب، وانقضّينا عليها كالوحوش الضارية. وإذ بهذا الرجل (المهرِّب) الشهم قد وضع إصبعه المعكوفة بين فكّيه وطفق يشهق باكياً وجسده يختضُّ بعنف وهو يقول: «يا رب! شو هالظلم؟ مو حرام هالبشر يكونو محرومين بهالشكل؟! ولك شو ذنبُن يا الله شو ذنبُن؟»
توقّفنا عن تناول الطعام مشدوهين، بعد أن كانت شهيّتنا مفتوحة على الآخر. غير مصدّقين أن هذا الرجل في داخله هذا الكمّ من العذوبة!
شكرنا تعاطفه وسخاءه ونبله معنا. وتمنّينا عليه بإصرار مشاركتنا الطعام، وإلا فإننا لن نتذوّقه أبداً. مسح دموعه وهو ينشج وكأنه يرزح تحت موجة كبيرة من الحزن. وبدأ يأكل معنا لُقيماتٍ صغيرة مجاملاً. فعادت شهيّتنا إلى سابق عهدها، ولكن هذه المرّة بشراهة أشدّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف