الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل التاسع/ 1

دلور ميقري

2019 / 12 / 28
الادب والفن


سنواتٌ خمس، مرت على اكتساب سارة صفة القابلة، قبل أن تحتاج هيَ بنفسها إلى مَن يُساعدها كي تُخرج طفلها الثاني إلى العالم. في أثناء تلك المدة الطويلة، كان من الطبيعي أن تجري أحداث كثيرة مع جريان الماء في نهر الحارة، المستمد مياهه أساساً من جهة بلدة بطلتنا؛ الزبداني. وكان القرينُ، الصارم والمحافظ، قد أذن لها ذات مرة بزيارة بلدتها كي تحضر عزاء جدها. كان هذا قد توفيَ طاعناً في السنّ، وهوَ لا يكاد يتعرف على أحدٍ من أهله. ثمة في العزاء، بدلاً عن سماع نميمة نساء العشيرة عن أرملة جدها لأمها، إذا بعضهن يرمينها بلمزٍ عن خلافات محتدمة بين السيّدة أديبة وزوجها على خلفية قضايا مالية وصفقات تجارية. كونها مناسبة حزينة، علاوة على أنّ إذن الزوج لا يعدو عن ثلاثة أيام، لم تشأ سارة مفاتحة أمها بما نمّ إليها وتكدير لحظات سعادة وجودها في مسقط رأسها.
على صعيد عشيرة الزوج، كانت امرأة غريبة أخرى قد اقتحمتها، وذلك بعد فترة قصيرة من عودة ابن نيّو الكبير من الأسر وعقد قرانه على ليلى. وإنه الابن الآخر، مَن أتى بالمرأة الغريبة بطريقة تكاد أن تكون خطفاً؛ أو على الأقل، رغماً عن أنف والدها. " سلمى " هذه، كانت من أسرة صالحانية، تقيم في إحدى حارات سوق الجمعة. جهلها اللغة الكردية، وثّق من علاقتها بسارة، وكان رأسُ هذه قد كاد يتبخر منه آخرُ مفردات القاموس الشاميّ. لكنها كانت أجدى طريقة لتعليم المرأة الغريبة لغةَ هذا الحي اللدود، المجاور لحيّها: وقائع عديدة حصلت بين شبان كلا الحيين، جرت في بعضها الدماء مع ضحايا وجرحى. سببُ أغلب حالات المعارك، كانت تلقى على أبناء الحي الكرديّ. إذ لم يكن الآخرون بمقدورهم التظاهر بالعمى، حينَ كان جيرانهم يمرون من سوق الجمعة للتسوّق، أو في طريقهم لمركز المدينة، وهم يتبخترون بزيّهم القوميّ، فيما أسلحتهم تتوسط الأحزمة المحيطة بالخصور العريضة.

***
برغم أنّ مهنة القابلة غير عادية، لناحية تطلّبها الهروع في أيّ ساعةٍ تلبيةً لطلب مساعدة، علاوة على إمكانية السهر طوال الليل، لم يمنع الحاج حسن امرأته من مزاولتها باعتبارها مهنة مقدسة. ولا كذلك كان رأيُ والدته، التي اعتبرت عمل زوجة زعيم الحي حطّاً من قيمته أمام الملأ، كونه قد يشي بالحاجة إلى دعم ماديّ منها. لكنها آثرت ألا تعترض إرادة الابن، وكذلك إشفاقاً من تأثر المعنيّة؛ وكانت تكنّ لها المحبة أكثر مما لو أنها من رحمها. لم تكن أموّ لتشمل المهنة ببركتها قبلَ مضي فترةٍ على مزاولة المرأة الصغيرة لها، وفي التالي، سماعها بنفسها الثناء على القابلة، البالغ بها العطف على الفقراء أنها تعفيهم من الأجرة بل وتحمل لهم أحياناً مئونة أو ألبسة. في بعض الحالات، وغالباً أثناء النهار تطوعت امرأة الزعيم لمرافقة زوجته عند استدعائها لتوليد إحدى نساء الحارة.
سارة، كانت تساعد حقاً المحتاجين بدلاً أن تحصل منهم على أجرتها. كانت تعوّض ذلك من الميسورين، وهم الفئة الأكثر عدداً في مجتمع الحارة. إنما تعتبرها شؤماً، أن تكون الولادة خاصّة بإحدى العائلات الأرستقراطية. كانت تبرر ذلك بالقول: " بناتهم يُجبرن عادةً على الزواج بأبناء العم، كيلا تنتقل الثروة للغرباء، ما يعني احتمال أن يأتي الوليد معاقاً ". لم تكن ترغب بتنفيذ مهمة القابلة، عندئذٍ؛ بليّ عنق الطفل المسكين، وذلك بطلب من أهله: في زمن طفولتنا، كان ثمة شخصٌ من ذوي الحاجة، المعرَّف الواحد منهم على لسان العامّة باللقب المشنوع، " عبو ". كان لا يُعرف له عُمراً، يرافق عادةً الجنازات كي يحصل على نفحة من النقود. في شأن ولادته، قال بعضهم أنها القابلة " بهيجة "، شقيقة الزعيم التاريخيّ للحزب الشيوعي، مَن رفضت قتله في حينه بتلك الطريقة المريعة، وتركته يعيش: هؤلاء، كانوا يحمّلونها وزرَ حياته البائسة، بدلاً عن الإشادة بها على إنسانيتها.

***
نظرة الزعيم لمهنة امرأته، بوصفها مقدسة، لم تنسحب في المقابل على الطب إلا لو كان شعبياً؛ أو ما صارَ يُعرف في زمن آخر ب " الطب النبويّ ". احتقاره للطب الحديث، بوصفه من بدع النصارى واليهود، ما كان في حقيقة الحال مجردَ اجتهادٍ شخصيّ منه ـ كعالم دين. إنما كان ذلك صدى للعقلية الرجعية، السائدة في الأوساط المتنفذة بعد فترةٍ من تبنّي سياسة الإصلاحات، المعوّل من خلالها اللحاق بركب الدول الأوروبية والتي راحت يوماً بعد يوم تقضم أجزاء من بدن الإمبراطورية أو تساعد أجزاء أخرى على نيل استقلالها. ولو دققنا المسألة بعيداً عن تلك العوامل الخارجية، لأمكن التأكيد ببساطة أنّ الحاج حسن كان يستهول فكرة كشف جسد امرأة مسلمة أمام رجل غريب، بله أن يكون نصرانياً أو يهودياً.
ربما لم يكن زوجُ سارة مسئولاً مباشرةً عن موت سلمى، وذلك بنصحه رجلها، علي آغا الصغير، ألا يعرضها على طبيب من المدينة على اثر تفاقم حالتها المرضية بسبب طول تناولها وصفات العطارين أملاً بإنجاب طفل. مع ذلك، شكّل المصيرُ الفاجع لتلك المرأة عائقاً دائماً أمام استعادة سارة لعلاقتها الحميمة بليلى. هذه الأخيرة، كانت اقرب الصديقات لسلمى حتى عد تفاهمهما مثالياً ومضرب المثل.
ثم جاء الدورُ على سارة، كي تشعر بمقدار ألم فقدان الصديقة المقربة. عقبَ رحيل امرأة علي آغا الصغير ببضعة أشهر، توفيت الابنة البكر لمحمد آغا وذلك غبَّ وضعها وليداً ذكراً على يد صديقتها القابلة بالذات. فاتي المسكينة، قيل أنها كانت ضحية لرغبة والدها في الخلاص من الجنين كي تفك رباطها مع الزوج، المُعرّف من لدنه تشنيعاً ب " الأعرابيّ القذر ". لكن الأيام أثبتت أنّ تلك كانت أقاويلَ مفترية على الأب، كونه بقيَ يستخدم الصهرَ الأرمل كوكيل لأعماله ثم ما عتمَ أن زوّجه بابنة أخيه.

*مستهل الفصل التاسع/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ