الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درس للعراقيين من ثورة السودان

جعفر المظفر

2019 / 12 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


جُنيههُم ودينارنا
ــــــــــــــــــــ
هناك فرق كبير بين أن تقرأ عن شعب أو أن تذهب لتعايشه, حتى لو كان ذلك لعدة أيام.
كان الكثير من العراقيين قد تعرفوا على السودانيين من خلال وجود هؤلاء في العراق, وبخاصة أثناء الحرب العراقية الإيرانية, حيث إزدادت الحاجة إلى الأيدي العاملة وخاصة في قطاع النشاط الخاص. وعرف عن السوداني إخلاصه في العمل وعزة النفس والبعد عن الفهلوة. وبعد أن دخلت المنطقة ثورات العسكر إحتلت بلدان الثورات ومنها السودان أسفل قائمة الفقر. وبعد أن كان جنيهها مثل دينارنا معادلا لثلاثة دنانير وعشرين سنت أصبح بعدها عبارة عن ورقة لا تعادل ثمن الحبر التي أستخدم في طباعتها, ولذلك صرت تراهم في كثير من بلدان العالم. وكان العراق قد سد لهم حاجتهم وسَدَّ بهم حاجته, قبل أن يلج بفعل الحروب والحصار إلى نفس الخانة, فصرت ترى الشباب العراقي يقبلون في العمل في كل المجالات التي أضطر على العمل فيها المصريون والسودانيون من قبله.
منتصف التسعينات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور إبراهيم غندور (وقتها كان عميدا لكلية طب الأسنان في جامعة الخرطوم ثم أصبح وزيرا لخارجية السودان في السنوات الأخيرة من عمر نظام البشير) إشتكى لنا حاجته إلى مدرس لموضوعة الجسور والتيجان الثابتة, وهي الموضوعة التي كنت أدرسها لطلبة كلية طب الأسنان في جامعة بغداد, وذلك قبل العقوبة السياسية التي كان من فقراتها الإثني عشر نقلي من الكلية ومن ثم القبول بطلب إحالتي على التقاعد. (قلت ممازحا صديقا لي شاركني نفس المحنة : الحمد لله أننا كنا قد تزوجنا قبل العقوبة وإلا لمُنِعْنا من الزواج أيضا)
كان الدكتورغندور صديقا مقربا لأخي الدكتور غالب الجاسم نقيب أطباء الأسنان في العراق, فلما عرضا حاجتهما علي لم أتردد عن قبول الطلب, بل إعتبرت ذلك, إضافة إلى الخدمة التي سأتقدم بها, فرصة أيضا للتعرف على شعب تم إلقاءه خارج المدارات الإنسانية, حيث تكالبت على إسترقاق إرادته وحلبه وإفقاره دولا متعددة. فالسودان, كما اليمن, ظلا يمثلان خزانا بشريا لتزويد دول المنطقة, وخاصة السعودية ودول الخليج, بالثروة البشرية التي يتوزع غالبيتها على قطاع الخدمات, ولم يكن أمام الكفاءات السودانية خيار أفضل من الهجرة إلى هذه البلدان حتى تراها وقد فرغت منهم.
أخوان البشير
ـــــــــــــــــــ
كان الأخوان المسلمون قد سيطروا تماما على الحكم من خلال إنقلاب العسكر الذي قاده البشير بالتعاون مع ثعلب السياسة السودانية حسن الترابي, وكان بإمكان هؤلاء أن يباشروا تدريجيا إعادة بناء السودان من جديد, غير أنهم, ولعلة في عقيدتهم وأيديولوجيتهم, إهتموا كثيرا ببناء السلطة, وعجزوا عن مغادرتها إلى بناء الدولة. ثم كانت لهم صلاتهم الإقليمية والدولية بالإتجاه الذي بوبّهم في خانة الإرهاب وجعل رئيسهم نفسه متهما بالتهمة ذاتها وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة بإلقاء القبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة, أما على صعيد الداخل فقد بدأ الإنسان السوداني وجنيهَهُ يتدحردان بقوة نحو الأسفل, حيث الإنسان وقد إزداد فقرا, والجنيه وقد إزداد إنخفاضا, وتشابهت قصته مع قصة الدينار العراقي الذي كان يعادل قبل صدام حسين ثلاثة دولارات وخمس الدولار فصار لا يساوي قيمة الورق الذي يطبع عليه.
الموت جوعا
ـــــــــــــــــــــ
سلة الغذاء التي قيل أن بإمكانها أن تشبع القارة الأفريقية برمتها لو أحسن إدارتها صارت تموت من الجوع. وأنا أتوجه إلى الكلية صباحا سألت عميدها السابق د. محمد عباس الذي تفضل علي ونقلني بسيارته إلى الكلية عن الرجل الملقي من وسط ظهره على صخرة : هل من المعقول أن ينام إنسان بهذه الطريقة. أجابني: لا الرجل ليس نائما بل هو ميت والأغلب أنه مات جوعا.
لم يعد ذلك الأمر غريبا في السودان, فالفقر الشديد ضرب أطنابه, ولم يعد في سلة الغذاء ما يسد رمق الكثير من السودانيين الذين ينخرهم الجوع. أما السلطة المتعبة بحروب الداخل فلم يكن بإستطاعتها تقديم أي شيء ما عدا الحديث عن التآمر الصهيوني الأمبريالي ضد ثورة البشير وأعوانه من الأخوان.
السوداني في مشهده الآخر
ــــــــــــــــــــ
على الطرف الآخر كانت الأغلبية من السودانيين, رغم فقرهم وعوزهم متشبثين في الحياة ومتطلعين إلى غدٍ أفضل, وكان ممكنا الإعتقاد أن شعبا كهذا لن يصبر على ضيم طويلا. نظام الأخوان أوصلهم إلى نقطة الإنفجار. البلد الذي تقرأ على سطحه الرضوخ كان يغلي في داخله. والأمر قد تشابه كثيرا مع أخيه في العراق. حاجات الإنسان الأساسية لم يعد بالإمكان تلبيتها, والموت جوعا لم يعد غريبا, والنظام السياسي لم تكن بنيته تسمح على البناء والعطاء وما عاد بإمكانه فعل أي شيء غير صب اللعنة على الإمبريالية والصهيونية والتحليق على جناحي نظرية المؤامرة.
السودانيون والعراقيون
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفجر السودانيون وإنفجر العراقيون بعدهم .. قد تختلف بعض الأسباب وقد تتفارق الحكايات, لكن الإحباط واليأس والجوع وعملية الخداع بإسم الدين كانت كلها عوامل متشابهة. في البداية ظنت السلطة السودانية أن بإمكانها التعامل سريعا مع المئات الذين نزلوا إلى الشوارع غير أن المئات صاروا ألوفا والألوف راحت تتكاثر سريعا.
وكما في العراق كذلك في السودان القبلي, السلطة في البداية كانت في صف والمتظاهرون كانوا في صفٍ آخر. لكن الأمر لم يبقَ على حالهة الإنشطار الواضح إلى نصفين متضادين. كثير من أهل السلطة كان لهم أخوة وأقارب وأصدقاء من بين المتظاهرين لذلك لم تعد قوات السلطة متماسكة وتحول البعض منها من موقف الإنحياز إلى السلطة إلى الوقوف ضدها.
شقيق البشير شرح الأمر في حديث لقناة فضائية كالتالي: ذات صباح شعر البشير أن حراسه أنفسهم بدأوا يتململون. أولئك الأشداء الذين كانوا يفدونه بنفوسهم صاروا يتأخرون على تلبية أوامره. أحس في النهاية أن النهاية قادمة فلم يكن أمامه غير أن يريح ويرتاح.
ليست القصة العراقيية شبيهة التفاصيل تماما مع أختها السودانية, لكن الأهم في القصتين أن ثمة سلاح مدمر إستعمله كلا الشعبين .. السلمية. لو أن المتظاهرين حولوها إلى ساحة عنف لتماثلت الساحتان مع الساحتين السورية والليبية. كان ممكنا للثورة العراقية أن تحقق أهدافها بذات السياقات السياقات السودانية وأن يسير الأمر إلى نفس الخاتمة.
ولكن ...
ــــــــــــ
في السودان ظل العامل الإقليمي والدولي مًحيدا لذلك لم تجد السلطة ما تسد به حاجتها إلى تشغيل نظرية المؤامرة. صار الشعب وقواته المسلحة, وحتى بعض سياسي النظام على جهة في حين بقيَ البشير مع البشير.
قصة العراق بدأت تأخذ منحى آخر. دخول أمريكا على خط الصراع بدأ يربك المشهد سريعا. كان ذلك هو الذي تحتاجه المليشيات لتشغيل نظرية المؤامرة وتحشيد أنصارها من جديد حتى لا تفلت أغلبيته للوقوف مع المتظاهرين.
فجأة صار لأعداء الله قضية.
وفجأة عادت الحياة لنظرية المؤامرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عواقب كبيرة.. ست مواقع بحرية عبر العالم يهددها خطر الاختناق


.. تعيش فيه لبؤة وأشبالها.. ملعب غولف -صحراوي- بإطلالات خلابة و




.. بالتزامن مع زيارة هوكشتاين.. إسرائيل تهيّئ واشنطن للحرب وحزب


.. بعد حل مجلس الحرب الإسرائيلي.. كيف سيتعامل نتنياهو مع ملف ال




.. خطر بدء حرب عالمية ثالثة.. بوتين في زيارة تاريخية إلى كوريا