الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 1

دلور ميقري

2019 / 12 / 31
الادب والفن


وقتما جاءت والدة عمر في ذلك المساء الربيعي، لمقابلة أمها، ظنت زَري أنها ظفرت بحبيبها إلى الأبد. فيما بعد، لم تعُد تفهم ما جرى؛ وكيفَ اختفى الشاب بشكلٍ نهائيّ، كأنه ما كان سوى وهماً، حَسْب؟ لقد سلت حتى كراهيتها لشقيقها، وعلى أيّ أساسٍ قامت حقاً. امرأة هذا الأخير، وكنا على علمٍ بكونها السند الروحيّ للفتاة، انتبهت بالطبع لمآل التغيير الحاصل على نفسيتها وأنه سيؤدي إلى أوخم العواقب على صحتها، وربما على أعصابها أيضاً: " إنها مع فطنتها ومواهبها، لم تسلم من مزاعم الآخرين عن خفّة عقلها "، أسرّت سارة لنفسها. لكنها ما اكتفت بالملاحظة وكبت القلق، بل قامت بمفاتحة والدة الفتاة بطريقة مباشرة: " زَري، في حالةٍ سيئة للغاية. ربما يحيق بها شرّ كبير، لو لم نبادر في الحال لإخراجها من كآبتها ويأسها "
" ما الأمر، حفظنا الله من كل شر؟ "، هتفت الأم في شيء من الذعر. لكنها تمالكت نفسها، ولم تلبث أن استوعبت كلام الكنّة. بدَورها، كانت قد انتبهت، ولا ريب، لما دهمَ ابنتها من تحوّل، بعيدَ فضّ موضوع طالب القرب على خلاف ما تمنته هذه. راقبت الابنةَ المسكينة في حسرة، وقد أضحت شبيهة بالشبح لشدة شحوبها علاوة على ما في حركاتها من ترنّح وتعثّر.
" نعم، أنتِ محقة يا عزيزتي "، استدركت أمّو وهيَ تهز رأسها دلالة على الأسى. ثم أضافت بلهجتها العملية، " سنبدأ أولاً بعرضها على مولانا، حامي الحي، بغيَة التشفع بكراماته. وستكون مناسبة، لمنح دراويش التكية بعضَ الهدايا ".
انتظرت أمّو مجيءَ يوم الجمعة، لتنطلق مع زَري وسارة صعوداً باتجاه تكيّة مولانا النقشبندي، غبَّ إعلام الحاج حسن بهدف الزيارة. وكان هذا قد عقّبَ على موضوع الشفاعة بالقول، متنهداً، " ليكن التوفيق حليفكن، بإذن الله وبعون الغوث الأكبر ". أمام نظرتها الباردة، تلعثم وهوَ يتساءل عمن بقيَ في الدار كي يهتم بأولاده الثلاثة. أجابت أمّو، " امرأة عليكي الكبير، أخذتهم مذ بعض الوقت.. ألم تشاهدهم معها؟ ". هز رأسه نفياً، ثم ما عتمَ أن شيّعها بنظراتٍ حزينة وهيَ تغادر حجرة المضافة: لعله كان يُدرك مسئوليته، بشأن ما حاق بالشقيقة الوحيدة من كربٍ ورّثَ السَقَم. هذا برغم اقتناعه، أنه كان على حق برفض طالب القرب على خلفية عدم التناسب في السنّ!

***
التكية، ربما أول شيء يلفت نظر الغريب، القادم إلى الحي من أي جهة كانت؛ هيَ المتربعة فوق هضبة جرداء تقريباً، يهيمن عليها ظلّ قاسيون الأزرق، الممتد على السفح كله. لذلك تبدو التكية للبعض مثل جزيرة، بأشجارها الباسقة من نخيل وجميز وصفصاف مع نباتات تصبح أشواكاً في فصل الصيف، فيما القبور الرخامية، المطوِّقة عمارتها، أشبه بطيور بيضاء. لكنها لاحت كهَوْلَةٍ لعينيّ سارة، التي تراها لأول مرة عن كثب؛ هولة، مغلّفة بالغموض، لن تلبث أن تطرح أحجيَةً مُعَجِّزةً على مَن يبغي دخول المدينة المقدسة عبرَ باب السرّ.. المدينة، لمن يقف على أرض الواقع ثمة على الهضبة، تظهر بدَورها لعينيه كشريطٍ رماديّ وسط خضرة الغوطة، تنبثق منها كالحراب، مناراتُ المساجد وبالأخص أكبرها وأقدمها؛ الجامع الأمويّ.
" آخر مرة رأيتني فيها هنا، وقتما رافقتُ شملكان كي تتوسل من أجل حفظ حياة ابنها البكر، حاجي "، خاطبت أمّو رفيقتيها بنبرة من يأمل خيراً في زيارة المقام. كونه يوم جمعة، وجدوا المكانَ وقد كاد يختنق من كثرة الخلق، الساعين إلى حضرة القطب الأكبر وكل منهم يحمل بين جنبيه أمنية مرجوة أو هماً قائماً. في أوان الحج، يُمكن رؤية مريدين آسيويين من مختلف الألوان والأشكال، قدِمَوا من بلاد سومطرة وسنغافورة والصين والسند والعجم، وسيمضون لاحقاً برفقة المحمل الشريف إلى أرض الحجاز. الباب العالي، خليفة الإسلام في العالم، كان بنفسه من أهل الطريقة النقشبندية؛ كرّم قطبها بهذه العمارة الفخمة، كذلك جعله تقليداً ثابتاً، أن يكون شيخ الآستانة من نفس النِحْلة.
بشق النفس، في غمرة تلاطم الموج البشريّ، تمكنت نسوتنا الثلاث من ارتقاء درجات المقام ومن ثم الولوج خِلَل المدخل ذي القوس الحجريّ، المتوّج بطغراء مرمرية مع كتابة منقوشة باللغات العثمانية والفارسية والعربية، تخيم عليها جميعاً أغصانُ شجرة زيتون مباركة. هنا تحت قبة المقام، يقبع ضريحُ مولانا الشيخ خالد النقشبندي، مجللاً بقماشٍ أخضر، وعمامته البيضاء عند رأس صاحبها. راحت أمّو تدفع ابنتها باتجاه الضريح، مجاهدةً الحشدَ المتواجد تحت القبة وغالبيته من الإناث مع أولاد صغار. كان مريعاً، صراخُ وبكاء وعويل طالبات الشفاعة، حتى أن بعضهن سقطن مغميات على الأرضية، المغطاة بالسجاجيد الأعجمية الفاخرة. بيد أنّ مشهداً أكثر رهبة كان يُمثّل هناك، خارج القبة، أين غلبَ على جمهوره الجنسَ المذكّر.
كان الوقتُ قد أضحى على حد الغسق، أنيرت في خلاله جوانب المكان بالمشاعل الكبيرة، بينما السماء تكرّمت على المريدين بنقاط نجومها ذوات البصيص الخجول من النور. أنغام الموسيقى، هيَ في الواقع مَن جذبت نساء آل حج حسين كي يخرجن مع أخريات إلى صحن التكية، بينما تتناثر الأصوات بجملٍ كردية من قبيل: " الرجال المجذوبون سيبدؤون عروضهم الآنَ..! ". كان القصد أولئك الدراويش، بملابسهم البيض وعلى رؤوسهم طرابيش حمراء؛ منهم الذي أمسك مشعلاً كي يُطلق النار من فيه المملوء بالنفط، وذلك المستل من كمه أفعى رفيعة ليجعلها تطوّق رقبته، بينما رفاق لهم يدورون برقصة المولوية وقد شبك الواحد منهم يديه على صدره وثوبه مثل المروحة، أو غيرهم ممن يدوسون مراراً على الجمر المشتعل دونما أن يشعروا بالألم.
على حين فجأة، بزغَ رجلٌ مجذوب مكحل العينين، ليقف أمام شاب عاري الصدر وبيده سيف رفيع ( شيش ). ما عتمَ الشابُ أن شكّ المجذوبَ بالسيف في مكان بجنبه لينفذ من الجهة الأخرى بلا أثر للدم. كانت الجموع تصرخ مهللة للمشهد، باسم الجلالة: " الله، الله.. "، عندما سقطت زَري على الأرض وهيَ تتلوى بعنف قاذفة الزبدَ من فمها: هذه، كانت أولى نوبات الصَرَع، التي ستدهم الفتاة الثلاثينية منذئذٍ وإلى نهاية عُمرها. زيارة حضرة مولانا، كانت ولا شك شؤماً على زَري، وعلى عكس المُرتجى منها.

* مستهل الفصل العاشر/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ