الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: بقية الفصل العاشر

دلور ميقري

2020 / 1 / 3
الادب والفن


4
آبت سارة من مسقط رأسها، وذلك بعد قضاء أسبوعٍ حافل، شهدت خلاله عُرسَ الخال الوحيد. في حقيقة الحال، أنّ الحاج حسن أرسل امرأته إلى الزبداني كي تحاول إقناع والدتها بالعدول عن مشروع الاقتران من شاب يصغرها كثيراً في السنّ. لكن المهمة فشلت، كونها ليست سهلة أبداً، مواجهة سيدة مثل أديبة؛ المرأة المعتدّة بنفسها، وفي آنٍ واحد، المسلوبة الإرادة في أمور القلب. قالت الأم للابنة في حينه، مبررةً الشروع قي الزيجة الجديدة: " لو أنّ المرحوم أباك كان مخلصاً، ولم يَخُني مع امرأة أخرى، لما كان ثمة رجلٌ غيره في حياتي ". وجدتها الابنة حجّة منطقية، مع أنها امتنعت عن ذكرها للحاج حسن حينَ قدمت له تقريراً عن الموضوع. أثبط نيّتها، ولا شك، ما نعرفه عن خلقه الأقرب إلى الفظاظة في شأن قناعاته الفكرية ونظرته للمرأة: كان يُنكر على الإنسانة المتزوجة حقَ الطلاق، مبرراً ذلك بأنه " أبغض الحلال عند الله ". في قادم الأيام ـ لو سمحنا لأنفسنا بالقفز فوق مراحل السيرة هذه، سيُكرر الحاج حسن موقفه المتعنت تلقاء شقيقته حينَ اقترنت بقريبها، المدعو " شيخي "، قائلاً أن المرأة في وسعها لو كانت حكيمة وعاقلة استيعابَ خلق رجلها مهما كان منحرفاً وغليظاً.
في أعماقها، كانت سارة تكبت نزعةَ التمرد والحرية، المكتسبة من السيدة أديبة، وكان ذلك بسبب إخلاص الحاج حسن وحُسن معاملته لها. الطبيعة المشتركة مع الأم، كان من الممكن أن تضعها في مواجهة معها لولا أنّ إحداهما تقيم في مكان بعيد عن الأخرى. برغم هذه الحقيقة، ارتبطت سارة بعلاقة ود ومحبة مع والدتها، كانت من العمق أنها أغضت الطرفَ عن تصرفاتها الطائشة فيما يخص الرجال مع كل ما يُنتج عنها من هضم لحقوقها وشقيقها كوارثَيْن وحيدين، مستقبلاً: بأعوام عُمرها، المقتربة من الخمسين، كان من المستبعد أن تخلّف السيدة أديبة من زوجها الجديد. هذا، لو تذكّرنا أنها لم تنجب لمحمد أفندي ذريّةً، وكان على الأرجح يرغبها كي يعزز من وضعه كزوج ويتحكّم بها كامرأة متسلّطة. كيلا نعود لهذه المسألة، سنفترض أن الأمرَ متعلقٌ بحالة عُقم أصيبت بها السيدة أديبة على أثر إجهاضٍ ما وكانت ما زالت على ذمة زوجها الأول: مبعث فكرتنا، كون سارة قد أنجبت آخر أبنائها ( وهوَ والد كاتب السيرة ) بعدما بلغت السابعة والأربعين من العُمر؛ ودائماً بحَسَب افتراضنا المُسبق، أنها من مواليد عام 1870!

***
قبل ذهابها للزبداني بفترة، أنيط بها مهمّة أخرى وهذه المرة بتكليفٍ من أحد أقارب زوجها. هذا الأخير، كان في مكتب أعماله بالمضافة مساءً، يتأمل طرقَ المطر للواجهة الزجاجية، لما ارتسمَ عليها هيكلٌ بشريّ بطول فارع. وإذا هوَ عليكي آغا الكبير، ابن صديقه الأقرب السيد نيّو. كان الرجل قد جربَ حظه بالزواج للمرة الثانية، أملاً في أن يحظى بولد. امرأته الثانية، كانت بدَورها أرملة ولكنها أم لطفل صغير. مع مرور الأشهر دونَ نتيجة من الزواج، دبّ الفتور في العلاقة بين الرجل وامرأته. هوَ ذا يدخل على الحاج حسن، ليُسمعه كلاماً مُستغرباً: " نويتُ بعد الاتكال على الله أن أقترن بامرأة أخرى، عسى أن أرزق هذه المرة بخلفٍ "
" إنك جربت امرأتين من قبل، أليسَ كذلك؟ "، عاجله الزعيمُ بسؤاله رأساً وهوَ يحملق في سحنته بمزيد من الدهشة. تضرج وجه الرجل، وتلعثم بالرد، " نعم، إلا أن هذا لا يعني أن العيبَ فيّ ". أومأ الآخرُ موافقاً، طالما أن العُرف الشائع لا يُجيز وصمَ الذكر بالعقم. لعل الحاج حسن، كعالم دين، استعاد اتهامَ المشركين للنبيّ بأنه أبتر. على ذلك، لم يكن منه إلا مباركة عزم قريبه على الاقتران بأخرى. تنحنح عليكي آغا الكبير على الأثر، ولاحَ مُحرجاً من جديد. قال بعد وهلة صمت: " قررتُ جعلَ أرملة المرحوم أوسمان شريكة حياتي، آملاً أن أكمل معها العمر "
" على رسلك، يا صاحبي "، هتفَ الزعيمُ وقد عادت نظرته تجوس في ملامح الضيف. ثم أردف، " كأنك لا تعلم أن السيدة شملكان قد تجاوزت الأربعين، وربما لن يكون في وسعها الإنجاب؟ ". تسبب ذكرُ عمر المرأة المقصودة مزيداً من ضيق الضيف وحرجه، فبدا كمن اتهمَ بقول حماقة من الحماقات. استدرك الحاج، وقد رأى مقدار تأثر الرجل، قائلاً: " أنا آسف، لكنني وددت ألا تسلو تلك المسألة بما أنّ هدفك من الزواج هوَ الحظوة بذريّة "
" قطعاً إنه هدفي الأساس، فضلاً عما في ستر أرملة من أجر عند الله "
" ماذا في وسعي أن أخدمك، إذاً؟ أتريدني أن أرسل والدتي إلى السيدة شملكان؟ "
" أشكرك على تفهمك، يا حاج "، رد الضيف ثم استطرد في شيء من التردد، " لو أمكن أن تقوم حرمكم بالمهمة، كونها صديقة مقربة لأرملة المرحوم أوسمان. بالطبع من بعد إذنك، ولو شاءت والدتكم أيضاً الذهاب معها، سيكون خيراً وبركة! ".
أدرك الزعيمُ مغزى طلب قريبه، أن تتعهد سارة بالمهمة: إنها غريبة في العشيرة، وفي التالي، لن ينتشر الخبر على لسانها مما لو قامت غيرها بالمهمة.
" وهوَ كذلك. سأرسل حرمتي لوحدها إلى قريبتنا، والله يعطي الخير "، قالها الزعيم دونَ أن يتطلع هذه المرة في ملامح الضيف؛ وكانت تشي بخجله المستعر.

5
عليكي آغا الصغير، كان هوَ الرجل الباقي في المنزل، وذلك على أثر وفاة كلّ من مالكيه؛ والد ليلى ورجل شملكان. لقد نزل عند رغبة امرأته، التي ألحت مذ كانا خطيبين بعدُ على سكناهما في بيت أبيها، الكائن في منتصف الزقاق المنسوب للعشيرة الآله رشية. هذا مع العلم، أنّ منزل السيد نيّو، الكائن في مدخل زقاق الحاج حسين، كان كبيراً كفاية لأسرتي ولديه، خصوصاً أنهما بقيا لوحدهما على أثر رحيل والدتيهما الواحدة بأثر الأخرى. لكن الابن الآخر، الأصغر، ظل في بيت أبيه. في المقابل، جمعت تجارة الماشية كلا الأخوين وكان مقر عملهما على طرف بستان المرحوم موسي، والد ليلى. لعلنا ذكرنا فيما مضى، أنّ الأخ غير الشقيق، عليكي آغا الكبير، استمد لقبه من طول قامته مع كونه أصغر عُمراً. كان ما يفتأ شاباً، بمنتصف العقد الثالث من العمر، وسيماً ورقيقاً. أبهرَ الحارة بحكاية حب عاصفة مع فتاة من حي الصالحية، أفضت إلى تسليم أبيها بزواجهما، مرغماً صاغراً. غبَّ وفاة امرأته، وكانت في ريعان الشباب، اقترن بأرملة من الحارة ولم يشأ حرمانها من رعاية ابنها الصغير. مثلما ذكرنا أيضاً، يلوح أنه فقد الأمل بإمكانية إنجابها لطفل آخر، ما دفعه إلى التفكير بامرأة أخرى.
مساء اليوم التالي للقاء الحاج حسن مع خاطب ود السيدة شملكان، اتجه مع امرأته وأولاده الثلاثة إلى منزلها بهدف انجاز المهمة تحت غطاء زيارة عائلية. معلومٌ أن ثمة ممراً بين الزقاقين، وقد اجتازه الزوجان والعيال في الطريق إلى المنزل المقصود، وكان يقع في الطرف الآخر من الممر. كونها أمسية خميس، عوّل الحاج على وجود رجل البيت، الذي يأتي من عمله مبكراً في هكذا يوم. بالفعل، فتحَ البابَ عليكي آغا الصغير وكما لو كان بانتظارهم. تعانق الرجلان، بما أنهما قلما يلتقيان في العادة، وتبادلا كلمات خجولة عن الشوق والسعادة بالاجتماع. زوج ليلى، لم يكن أقصر قامة من أخيه، حَسْب، بل وأيضاً لا يدانيه في الوسامة. لكن قسماته الكبيرة نوعاً لا تخلو من التناسق، فيما بنيته متينة ورشيقة في آنٍ معاً. عيناه، وكانتا أجمل ما فيه، بريئتان ووادعتان مثلما يُرى عند الأطفال. بينما قاد المضيفُ صاحبَ المقام الجليل إلى حجرة الضيوف، كانت ليلى بدَورها تستقبل ضيفتها بالأحضان مع القبلات. همست سارة ببضع كلمات، فأومأت الأخرى رأسها دلالة على الفهم، ثم ما لبثت أن نادت بصوتٍ عال على السيدة شملكان.

***
موسي، بكر سارة، ترك شقيقيه حيثما كانا مع أطفال الدار ثم سار مع حاجي؛ أكبر أبناء شملكان. وكان هذا الأخير يشكو من إعاقة ذهنية غير خطيرة، وفي وسع المرء أن يتبين ذلك من مظهره الفوضويّ؛ ملابسه الخَلِقة والمتسخة، كما وشعر رأسه الملبد مثل فرو الماعز. لم يفتقد، مع ذلك، الملامحَ الجميلة المستمدة ولا شك من الوالدة. برغم نحوله، عُرف بقوته واندفاعه للدفاع عن الأخوة والأقارب الصغار لدى أيّ اعتداء على أحدهم في هذا الزقاق أو ذاك. ما أن انفرد بقريبه، في حجرة أبيه الراحل، إلا وأخرج من أحد المخابئ مدية طويلة النصل، فعرضها على أنظار الضيف: " إنها حادة للغاية، يُمكنها بتر رقبة جمل. لكنني أود فصلَ رأس خروف العيد عن جسده، بضربة واحدة، لو أذنت لي أمي بذلك! "، قالها متباهياً.
" أنا أمتلك مذ بعض الوقت طبنجة، ألمانية الصنع، يتسع مخزنها لست خراطيش. سأريك إياها يوماً، وفي وسعك أيضاً مشاهدتي حينَ أتدرب على إطلاق النار "، تكلم موسي ببطء وفي نبرة أقرب للخفّة. هتفَ الآخر من فوره، متحمساً: " وتدعني أجرب إطلاق النار؟ "
" ليسَ لمن في سنّك، لكنني أعدك أن تمسك الطبنجة حين نكون معاً في رَزّي آني "، رد موسي بإشفاق هذه المرة. المكان الموصوف، ويقع أسفل الزقاق على ضفة النهر، يعني " كرم الأم "؛ أخذ اسمه تيمناً بصاحبته فاتي، ابنة محمد آغا ديركي، التي توفيت قبل ذلك ببضعة أعوام عقبَ ولادتها بوقت قصير.
" أنتما هنا؟ "، أطلت بهذه العبارة فتاةٌ في نحو العاشرة من العُمر. إنها نظيرة، المختصر اسمها إلى " نازو "، وكان جمالها النادر يتفتح رويداً في هذا المنزل، مُدعَّماً بوصفات الخالة شملكان. كانت الطفلة تعي حسنها برغم سنّها المبكر، وأيضاً بفضل الخالة بشكل خاص. أرملة أوسمان، اعتادت أن تجدَ متعتها، حدَّ الوَجْد، في ضفر جدائل ابنة ربيبتها أو تسريحها كي تنهمر مثل شلالٍ ذهبيّ. كذلك دأبت على القول، أنها لن تسمحَ لهذا الجمال الملائكيّ أن يخرج من بيتها: كانت تعني الابن الثاني، " صالح "، طالما أن بكرها المسكين علمنا عن حالته الصحية. لكننا لو قلبنا صفحات السيرة قُدُماً، وصولاً إلى الكتاب التالي، لرأينا أنّ " ريما " ذات الأعوام الخمسة آنذاك، وكانت أصغر أبناء ليلى، هيَ من ستتزوج مستقبلاً الابنَ الثاني لأرملة أوسمان.
أما الشقيقة الكبيرة، نازو، فإن القدَرَ سيهوي عليها بضربات متتالية، وذلك بسبب تعلّق قلب موسي بها. وقعَ ابنُ الخمسة عشرة عاماً في هواها للفور، مذ أن رآها تدخل حجرة المرحوم أوسمان في أمسية الخميس تلك، التي حضرَ فيها والداه إلى منزل الأقارب في مهمةٍ تم التكتّم عليها جيداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ