الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 1

دلور ميقري

2020 / 1 / 4
الادب والفن


شمس اليوم الأخير من القرن التاسع عشر، كانت قد اختفت منذ بضع ساعات، تاركة المكان للظلال ومن ثم للعتمة، الزاحفة رويداً ببطء موجة هادئة، حينَ انفجرت سماءُ الشام بالمفرقعات النارية، التي خلّفت بأصواتها ووميضها الدهشةَ في نفوس الكثيرين من ساكني السفح. بينما كانت الأضواء تتناثر مثل زجاج ملوّن، مهشم، مع الصدى البعيد كصوت دفوف دراويش التكية النقشبندية، امتلأت أسطح البيوت بالخلق، كباراً وصغاراً، لمشاهدة عجائب الليلة. فما لبثت صرخاتهم أن طغت على تلك الأصوات، وكل منهم يؤوّل ما يحدث على سجيّته. للوهلة الأولى، ظن البعضُ أنه أمامَ مشهد رُعبٍ، مشابه لما جرى في المدينة قبل نحو أربعين عاماً وما أضحى يُعرف في قاموسها ب " طوشة الشام "؛ أي أحداث الهجوم على حي النصارى في صيف عام 1860: كان هؤلاء محقين في مخاوفهم نوعاً ما، كون الأسهم النارية كانت تنطلق فعلاً من جهة ذلك الحي.
" لا شيء من هذا، يا أخوان "، هتفَ عليكي آغا الكبير من مكانه أمام مضافة الزعيم. حال البعض من رجال الزقاق، كان قد هُرعَ إلى المضافة على أثر تصاعد الدفق الأول من الأسهم النارية. لكنه في المقابل، كان هادئاً وغير منفعل، طالما نمّ لعلمه مبكراً نيّة نصارى المدينة الاحتفال بحلول القرن الجديد بهذه الطريقة الصاخبة والفريدة. متباهياً، أوضح لجمع الرجال ماهيّة الأسهم النارية، وأن مصدرها وكلاء القناصل الأوروبيين: " أحدهم عميل لنا، وهوَ من أخبرني بشرائه للمفرقعات من تجار بنادقة في مدينة بيروت ". علاوة على الزعيم وقريبه السيد نيّو، كان هناك عمر كُرّي عيشة مع صديقه عبده خالد. ثم ما عتمَ أن انضمّ إليهم آخرون، وكان من بينهم الرجل البدويّ، الأرمل، صهر محمد آغا ديركي.

***
" حمّاد " هذا، وكان أجيراً لدى ابنيّ السيد نيّو، ارتفع مع اقترانه بابنة الآغا إلى مراتب السادة. ربما لأنهما اجتازا محنة مشابهة، ما لبث حمّاد ومعلّمه السابق، عليكي آغا الكبير، أن صار صديقين حميمين. كذلك يدخل في السياق نفسه، تبادلهما الأدوار في شأن اختراق العُرف المعمول به في الحارة، لناحية حصر الزواج بالأقارب والعشيرة في غالب الأحيان. كونه رجلاً، نُظر إلى عليكي آغا الكبير بشكل مختلف، ولا مِراء، حينَ اقترنَ بالبنت الصالحانية بطريقةٍ أقرب للخطف. فيما ظلت فعلة حمّاد لا تُغتفر، لما هربَ مع ابنة آغا كرديّ إلى مضارب أهله في البادية وتزوجها؛ هوَ مَن كان في الحارة أقرب إلى صفة العبد، قبل أن يعمل في زريبة تاجر الماشية، الذي تحوّل مؤخراً إلى صفة الصديق. إذ ظفرَ الأول بابنة عم امرأته الراحلة كزوجة، فإنّ الآخر كان ما ينفك يأمل خيراً بمسعى امرأة الزعيم مع مَن عشقها ورغبَ بها كشريكة حياة.
عقبَ انتهاء عرض الألعاب النارية، ترك كلاهما المكانَ وانحدرا معاً في درب الزقاق، الغارق في الظلام. لو أنّ الوقتَ نهارٌ، لبدت ملامح الرجل البدويّ الوادعة، غير المنسجمة مع الشارب الكث، المستنبت بين الأنف المقوس كما لدى الصقر والشفتين الغليظتين المذكرتين بالجمل. حركاته أيضاً، المتسمة نوعاً بالاضطراب والخجل، كانت تعطي الانطباع لدى كل من يراه أنه رجلٌ غريب. على ذلك، لم يكن غريباً أن ينفتح قلبه لصداقة معلّمه السابق، حدَّ مشاركته في هواية تربية الحمام وإطلاق سربه في سماء الحي. كون منزليهما في مقابل بعضهما البعض، تفصلهما الجادة الرئيسة، اعتاد كل منهما أن يخاطب صاحبه بلغة الصفير والإشارة في مكانه على عليّة السطح، المنذور كمأوى للطيور المؤهّلة.
" هل الأمور على ما يرام؟ "، سأل حمّاد صاحبه بصوت خفيض بعيد الابتعاد عن المضافة. ربما أدرك عليكي آغا الكبير مقصدَ السؤال، وأنه يُداور حول موضوع سعيه للزواج مجدداً. قال بنبرة موحية، " نسأل الله أن تغدو الأحوال ميسّرة في قادم الأيام ". ثم ما لبثَ أن استفهم بدَوره الآخرَ عن أحواله، وما لو تحسّنت غبّ اقترانه بابنة عم امرأته الراحلة. بقيَ حمّاد صامتاً لحظات، بعدما هز رأسه في حركةٍ غامضة لم يلحظها صديقه بسبب العتمة.
على غرار ما جرى لمعلّمه السابق آنَ ترمل، مرّ هوَ أيضاً بفترةٍ من الكآبة كادت أن تقضي على مداركه العقلية. أهمل كلياً عمله، كوكيل لأعمال حميه، وغدا أشبه بالمتشرد لا يستقر في مكان، مطلقاً لحيته كأحد دراويش التكيّة. بيت الزوجية، وكان من أملاك محمد آغا، بما أنه مفتوحٌ بشكل مباشر على كرمه الكبير، فإن الصهرَ الملول صارَ يمضي بين صبّاره وأشجاره أغلب ساعات النهار والليل. مع مرور البعض بإزاء الكرم، أينَ الدرب المفضي إلى البساتين، تهيأ لوهمه أنه طيفُ ابنة الآغا مَن كان يهيم في العتمة بلا هدى: مبعث الاعتقاد ذاك، وكان قد أضحى خبراً مثيراً تناقله أهالي الحارة ( وسيصبح كذلك اعتقاداً راسخاً للأجيال المقبلة )، هوَ اعتياد حمّاد على لبس العباءة العربية ذات اللون الأبيض والتي جعلته في غبس الليل أشبه بالطيف!

* مستهل الفصل الحادي عشر/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ