الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 3

دلور ميقري

2020 / 1 / 6
الادب والفن


أبلغت سارة قريبَ رجلها بالخبر السعيد، وكانت هيَ سعيدةً أكثر من أجل زوجته المسكينة؛ لما علمناه عن نيّته الإتيان لها بضرّة، متحججاً بعدم حبلها. كون امرأة الزعيم من منبتٍ ريفيّ، فضلاً عن الدماء الكردية بعروقها، أضحت مقربة لزوجة عليكي آغا الكبير. وكان الحاج حسن بدَوره صديقاً لهذا الأخير ووالده، وذلك بحُكم القرابة وأيضاً منصبه المحتم عليه معاشرة كافة الأجيال. في حقيقة الحال، أنه السيد نيّو مَن كان تقريباً من جيل والد الحاج حسن. كان يمر بمرحلة الشيخوخة المتأخرة، مع كل ما تجلبه من متاعب صحية جمّة. إلا ذاكرته، وكانت هيَ من تحثه على الاستمرار بالحياة كي يبقى على تواصل مع الصور القديمة.
قابلة الحارة، عليها كان بعدئذٍ أن تسيرَ إلى منزل محمد آغا ديركي، من أجل أن تعودَ ابنته، وكان حملها في الشهر الثاني. لقد وصلها خبرٌ من جهتهم، يفيد بأن نورا ليست على ما يرام. كانت هذه متزوجة مذ بلوغها الثالثة عشرة، وربما خشيةً من أن تكرر فعلة شقيقتها الكبيرة، الراحلة، التي عشقت شاباً بدوياً وهربت معه ثم أجبرت أسرتها على الاعتراف بزواجها منه. لكن نورا أظهرت اختلافاً بيّناً عن طبيعة الشقيقة المتمردة، في مستهل شبابها على الأقل. إذ رضيت بزوجٍ اختاره والدها، وكان ابن أخيه، في وقتٍ تعيّن عليها مشاركة رفيقاتها الصغيرات ألعابهن ولهوهن. مع ذلك، لم تكن هذه شيمة فريدة في أعراف عصرها.
كان نهاراً مشرقاً، ولو أنه يتنفسُ بعدُ رطوبةَ الأيام الأخيرة الممطرة، حفلَ فيه بالسابلة على طول طريق الجادة الرئيسة. كان بعضهم يركب حماراً أو بغلاً، متجهاُ إلى ناحية سوق الجمعة أو المدينة، ولن تعدم أيضاً مصادفة جملٍ محمّل بالحطب أو بقرة تاهت عن صاحبها وراحت تعبث بقمامة أحد المنازل. علاوة طبعاً على المتسوقين من المحلات على جانبي الجادة، وكانت قليلة متناثرة. على الجانب الأيسر، غير بعيدٍ عن مدخل زقاق الحاج حسين، كانت دار محمد آغا تتمدد بجدرانها السامقة على نصف المساحة الفاصلة عن الزقاق المجاور. سارة، الملتفعة بلباس أسود من قمة رأسها لأخمص قدميها، أحست بمزيجٍ من الغبطة والرهبة، حالما أضحت أمام المدخل الكبير المقوس، ببابه الحديديّ ذي النقوش: رجت الربَ ألا يفتح لها الآغا، كيلا يستقبلها بعينين حادتين تحت حاجبين كثيفين كشوك البراري، وبفمٍ مغطى بنفس النبات القبيح، لا يعرف لسانه مجاملةَ الضيوف ( إن كانوا نساء خصوصاً! )، أو حتى الترحيب بهم.

***
ما يتبادر لذهن الداخل لأول مرة إلى منزل الآغا، أنه في قصر محاط بالخرائب. ولا كذلك سارة، التي كانت تعتبر نفسها في دارها؛ هي من رضعت حليب المرحومة فوزية خانم، إضافة لما ربطها من وثاق الصداقة مع الراحلة الأخرى، فاتي. في الواقع، أن حذرها من سيّد الدار لم يكن له أساس، سوى ما ترسخ في باطنها من ذكريات الطفولة. فإن الرجل يكن تقديراً كبيراً لذكرى جد سارة لأمها، مثلما أنه لم يكن يخفي إعجابه بالسيدة أديبة، كامرأة أعمال متمرسة وشديدة البأس؛ " أخت رجال " على حد التعبير الشامي. لو تركنا كل تلك الاعتبارات، لتوجبَ القول أن مَن تعهد فتح الباب كانت المرأة النوبية، التي كان وضعها في الدار سابقاً بين المربية والخادمة، ثم أوكل إليها أمر المطبخ أيضاً على اثر وفاة الخانم: لن يكون مجدياً، إعادة التذكير بشحّ وحرص محمد آغا، لأن الأمر في حالة المرأة النوبية يتعلق بحُسن التدبير والاقتصاد!
وإذاً، فتح الباب بسرعة على الوجه الأسمر اللطيف الملامح، وكما لو أن صاحبته كانت بانتظار القابلة. لعلها كانت كذلك، ما لو علمنا أنها هيَ مَن أغرت أحد الصبيّة بثمرة برتقال ناضجة شهية المنظر، كي يذهب وينده على حرم زعيم الحي. كان الصبيّ ليفعل ذلك طائعاً، وبلا حاجةٍ لمكافأة، طالما سيملأ نفسه بالزهو. ولجت سارة وراء الخادمة، باتجاه القسم العلويّ من الدار، المقيمة فيه نورا ورجلها. كان ثمة باب داخليّ مزجج، مفتوح المصراعين، يتعين اجتيازه أولاً من خلال درجتين، ومن ثم يجد المرء نفسه مباشرة في الفناء. ثمة، زفرت حديقةُ الدار بأنف القابلة أنفاسَها العطرة من مئات الأزهار والورود والرياحين وعرائش الياسمين. إلى ما تيسّر من عبق زهور شجيرات الحمضيات، المُسكرة نداتها من الأشجار المثمرة كالتفاح والكرز والخوخ والدراق والتين. يفصل أحواضَ الحديقة ممراتٌ محجّرة، يفضي أحدها إلى أيكة صبّار، تقع على الطرف الغربيّ؛ أينَ الجدار المغطى بتعريشة المجنونة، الكامن خلفه الإسطبل وبيت المؤن والحظائر مع عليّة للحمام. لولا الأوراق المسحورة للمجنونة، لكان في الوسع رؤية لوحة مرسومة بشكل سيء على الجدار، تمثل الكعبة، مع كتابة بالعربية أكثر سوءاً؛ وذلك للدلالة على أنّ صاحبَ الدار قد حجّ لبيت الله الحرام.
" تفضلي من هنا، يا سيدتي "، خاطبت مدبّرةُ الدار السيدةَ القابلة ببالغ اللطف والاحترام، مشيرةً إلى الممر الرئيس. عرفتها ولا شك مذ أن كانت طفلةً رضيعاً من أيام أصياف الزبداني، وكثيراً ما حملتها إلى فوزية خانم كي تنهل حليبَ صدرها. ابتسمت سارة على أثر الدعوة، كونها تحفظ الطريق ولو كانت مغمضة العينين. الممر الرئيس، حيث همت باجتيازه، كان مغطى بدقران كرمة من النوع الحلواني، المعروف في الشام ب " عنب الجنّة "، ويتصل مع القسم العلويّ من المنزل، الذي يمكن الارتقاء إليه عن طريق سلّم حجريّ عريض من عشر درجات. هناك، عند عتبة الدرجة الأخيرة، انتصبت نورا بطولها الفارع وابتسامة عذبة على ملامحها الجميلة، الشاحبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ