الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستقرار السياسي ومسألة الاختلاف.. سوريا مثالاً

فاضل فضة

2006 / 5 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


تظهر حدة صراع الاختلاف في البلاد العربية بقوة من خلال عدم قدرتها على إيجاد ارضية مشتركة لسلوك عملي في ميدان التجربة. لكنها تبقى مسالمة على مستوى الخطاب الذي يفوق إسقاطه العملي، لا بل تكبر الفجوة بين الكيانات المذهبية والسياسية المغطاة بالخطاب الرسمي، الذي لا يعزز من فرص الحلول الدائمة إلا نادراً.
يظهر التباين بين الاختلاف سلماً في مجتمعات غربية أو شرقية على أي مستوى، لكنها تحل بشكل مسالم، خاصة فيما يتعلق بالسلطة السياسية المحددة بقانون واضح، يؤمن للجميع الفرص المناسبة والاشتراك على كافة المستويات في مواقع الدولة المتعددة.
كان الاختلاف في العصور السابقة للبلاد العربية يرتبط بمذهب ديني أكثر من تبعيته لقضية قومية أو عرقية، إذ كان الإسلام يجمع بين الناس، وإن كانت العلاقات القبلية والعشائرية تؤثر فيها. وكان الولاء ولا يزال الى اليوم صيغة للتآلف بين الحاكم والمحكوم واتباعه، بغض النظر عن تربع البعض من مذاهب مختلفة في بعض المواقع. واستمرت قصة الاختلاف المحكومة بثقافة الولادة بمذهب ما، أو بالتحول إلى مذهب ما ضمن ظروف معينة. واتخذت طابعاً سياسياً غطى على مسألة الانتماء الديني في بدايات القرن الماضي، ليغيّب المذهب نظرياً امام مفهوم الوطن، أو الأمة، أو الدولة.
ولأن القضية لم تحل بشكل تحاوري، وعقلاني، وسلوكي على مستوى الأداء، بقيت مسألة الاختلاف في البلاد العربية مسيطرة على شعارات الأحزاب السياسية في مشروع نهضوي “غير واضح بتفاصيله” تميزت بها الحركات الدينية التي امتطت قطار السياسة، لكنها لم تنج من تلك المسألة حتى ضمن الدائرة الدينية والمذهبية الواحدة، بسبب التفاوت والتباين بين طروحات البعض لطريقة الحكم ومشروع الدولة.
في سوريا، كان للأحزاب ان تطلق شعارات تعبر عن وجهات نظر باختلافات جذرية، حزب البعث الذي اطلق شعار الوحدة العربية “لشعب لا يؤمن كله بالعروبة”، والحزب الشيوعي الذي نادي بالأممية “لشعب لم تتضح له معالم كيانه”، والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي نادى بسوريا الكبرى “لشعب لا يرغب كله ان تحدد الجغرافيا بتلك الحدود”، والأحزاب الإسلامية التي تطالب بتطبيق الشريعة على كل أبناء الشعب “المختلف في أديانه، ومذاهبه، وقومياته”. لاقت هذه الأحزاب صدى كبيراً لدى مؤيديها ولدى فئات عديدة من الشعب السوري، وكان لشعار الوحدة العربية الامتداد الجماهيري، حيث تفوق نسبياً على شعارات الأحزاب الأخرى، لكنه كغيره لم يتحقق منه أي شيء، لا لسوئه، أو سوء أي شعار آخر، بل لطبيعة الأحزاب نفسها، وقدرتها الضعيفة على تطبيق شعاراتها المبنية على زخم عاطفي اكثر منه عقلاني أو حواري عملي.
تشكلت تلك الأحزاب زارعة الاختلاف الجذري في ما بينها، بينما غيبت بعض الأحزاب الأخرى المؤلفة من برجوازية صغيرة، كان لها دور إبان زمن الانتداب، انحسر رويداً امام صدى الشعارات الخلابة والكبيرة للأحزاب الأخرى. تمثل خطاب تلك الأحزاب بمد معنوي على شرائح الشعب الذي كان يردد تلك الشعارات بشكل عاطفي من دون قدرة على مناقشة الواقع بشكل سليم لفترة النشاط السياسي الخصبة آنذاك، حيث كانت الانقلابات تفصل بينها كل فترة. لم تستطع نخب تلك الأحزاب في غليانها واختلافها الجذري في بعض القضايا، الجلوس على طاولة للقيام بحوارات استراتيجية تبرمج الأهداف العملية لمشروع بناء الوطن، وتحوّل من خلال ذلك شعارات “الاختلاف” فيما بينها إلى شعارات ثانوية. لقد عمل كل حزب على انتشار واسع وكبير لدى كل طبقات الشعب. لكن الظروف الغت مشروع الأحزاب في أول وحدة بين مصر وسوريا، حيث حلت كلها، وشكل حزب واحد مشابه لحزب البعث في أهدافه، ليسود حكم شمولي، وليشرّع أجهزة الأمن التي لم تكن تعرفها سوريا بهذا القدر آنذاك.
واستمر التناحر بين الأحزاب بعد انفراط عقد التجربة الوحدوية ليشتد بعد انقلاب الثامن من مارس/ آذار، وما تبعه من تصفية للناصريين، والانحسار التدريجي لجماهيرية معظم الأحزاب السياسية الأخرى “المختلفة” فيما بينها لمصلحة حكم شمولي تجسد إلى يومنا هذا بعد انقلابات داخلية آخرها عام 1970. لم تسمح تجربة العمل السياسي في سوريا بتطورها لمصلحة الوطن، لعدم نضج القائمين عليها وحديتهم في طروحاتهم، وجذريتهم في بعض المفاهيم غير القابلة للنقاش، إلا عبر الانشقاق فيما بينها حول بعض القضايا، “التي قد لا تؤثر عملياً في مسيرة الحزب أو في الوطن”، وكونها مرتبطة بنظريات أو إيديولوجيات يمنع مناقشتها أو صلاحيتها للدول والمجتمع، كما حدث مع الحزب الشيوعي السوري، وحزب البعث بعد الانقلابات الداخلية، وغيرها.
لم تكن النخب السياسية السورية قادرة على مناقشة موضوع الوطن بعيداً عن مفهوم النظرية أو الإيديولوجية، ولم تسمح لها الظروف خلال فترة التغييب التي فرضها نظام الحكم الواحد عليها منذ عام 1970 وإلى اليوم القيام بنقد ذاتي لتجربتها، وإن تم تشكيل مايسمّى بالجبهة الوطنية كتجمع لبعض تلك الأحزاب، أو ماتبقى منها وهمياً. دخلت الأحزاب السياسية السورية في غيبوبة دامت اكثر من ثلاثة عقود، رافقها حدوث تحولات عالمية كبيرة، اظهرت من خلال نتائجها ان بناء الدولة قد لا يحتاج إلى نظريات أو إيديولوجيات. فانفرط عقد منظومة الدول الاشتراكية السابقة، وعادت إلى تطبيق نظام السوق بأحزاب تحرر معظمها من الماركسية والشيوعية. كما استطاعت بعض الدول الآسيوية ان تطور اقتصادها الوطني وتحول دولها مما كان يسمّى بالدول النامية إلى دول متقدمة مثبتة للعالم ان القضية لا تتحكم بها نظرية أو شعارات أو إيديولوجيات، بل هي عبارة عن مصداقية في اداء وطني يستمر بمعايير الرغبة من قبل السلطة السياسية للقيام بالنهضة والتطوير واكتساب تكنولوجيا ومعارف العصر. استطاعت التجارب الآسيوية الناجحة والتحولات في منظومة الدول الاشتراكية السابقة من خلال نظام غير مؤدلج ان تثبت للعالم، ان طريق التقدم والتطور والإصلاح، يعتمد على مبادئ بسيطة لكنها عملية وجدية في مشروع البناء.
بالمقابل لم يستطع النظام العربي، ولا احزابه في عديد من اقطارها، ان يعيد صياغة مشروعه الحضاري عبر تجاوز الاختلاف لدى أحزاب ليست قادرة وإلى اليوم على القيام بنقد ذاتي عميق يسمح للاختلاف فيما بينها وبين شرائح المجتمع بإيجاد حلول نهائية للتحول من مسألة الصراع “على السلطة” والاختلاف التاريخي، وإشاعة الاستقرار لدول المؤسسات، والسماح بإطلاق مشروع الوطن وبنائه في الدرجة الأولى.
ومازالت معظم هذه الأحزاب وللأسف تنادي بنفس اللغة والشعارات التي كانت سبب مقتلها، عبر استلام العسكر للسلطة السياسية، ناسية أو متناسية ان العالم تغير، وان المسألة الأساسية لدى اي شعب عربي هو حل “مسألة الاختلاف” لإحداث استقرار استراتيجي على مستوى الدولة، والمصداقية وبناء المؤسسات والقبول بالمواطنة والآخر، وليس الشعارات والخطابات والنظريات، كتاريخ مضى أصبح في متحف الذكريات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فندق فاخر في أبوظبي يبني منحلًا لتزويد مطاعمه بالعسل الطازج


.. مصر تحمل إسرائيل مسؤولية تدهور الأوضاع الإنسانية بغزة | #راد




.. نتنياهو يزيد عزلة إسرائيل.. فكيف ردت الإمارات على مقترحه؟


.. محاكمة حماس في غزة.. هل هم مجرمون أم جهلة؟ | #حديث_العرب




.. نشرة إيجاز - أبو عبيدة: وفاة أسير إثر قصف إسرائيلي