الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تغريبة الفتى عباس الثاني

نقوس المهدي

2006 / 6 / 1
الادب والفن


ها هي المدينة أخيرا..
المدينة التي طالما سمعت عنها..
عفريت بالليل وغول بالنهار..
أرصفة وجدران مقروءة بالعيون واللواحظ ..
وصلت إليها هذا الصباح.. هذا الصباح فقط وصلت ونزلت من الحافلة في محطة هذه المدينة..لم أكن أرغب بزيارتها لكني أتيتها مكرها..مخلفا ورائي قريتي الملغاة من تخطيطات الخرائط .. تسوقني قطعان أحلامي الندية.. وأحمل فوزي المبين بعد أن ودعت إخوتي وهم يزدردون مخاطهم ..وأمي وفد علقت بعنقي تميمة من صوف الأنعام.. وأبي وهو ما فتيء يردد على مسامعي ضرورة الاحتراس من مقالب اللصوص والنشالين حتى وهو يلوح للحافلة بعمامته.. تحسست جيوبي أشيائي في مكانها ..الأشياء هنا تختفي كالفقاقيع.. الألوان باهتة ..والأضواء تخطف الأبصار..الكثير ليس فيه بركة..الخبز كالفخار..والصحة صحة عدوك.. والصداقات صداقة ذئب.. الجار مجرور/ وظلم ذوي القربى أشد مضاضة / .. الأحياء في عذاب.. والأموات اشد عذابا.. كل شيء بالمال.. التبول بقدر والخراء بضعفه.. عندنا كل شيء بدون مقابل..الأكل والشراب والحب..نأكل من هبة الطبيعة ونرتوي من ماء النبع.. مراحيضنا الفلوات والمزارع والمنعطفات.. أسخياء نحن.. ما يطعم عشرة يكفي لعشرين..وكل من تصادفه يستقبلك باحتفالية نادرة.. حتى كلابنا تعترضك بحفاوة بالغة.. هي هنا لها أسماء ومربوطة بسلاسل...
الساعة الآن السابعة صباحا.. وموعد المقابلة التاسعة..أمامي ساعتان أتمشى خلالهما قليلا...اكتشف هذه المدينة التي طالما سمعت عن غرابة سلوك مسلميها .. بدأت التحرك كانت الشوارع تتحرك .. والساحات والحيطان والنواصي أيضا وأيضا..عالم غريب مسكون بالهشاشة والارتجال والضجيج والترقب..والمارة ماكرون يغدون السير لا يكلون من المشي والنميمة متأبطين شرورهم..
لايلتفتون..
ولا يتوقون..
ولا يتكلمون..
يلتقون.. ويتصادمون..
ويراوغون أوهامهم
ويتشابكون..ويسبون الملة والدين والذي خلق...
متعبون..مغبرون..تعطلت لديهم لغة الكلام..كأنما ورثوا هموم الدنيا.. يحدقون بأبصار طاعنة في الشرود..لا يحملون مصابيح كما فعل الجد ديوجين الكلبي/ لأنهم لا يبحثون عن الحقيقة / ..ورواد المقاهي يحاصرونك ببلاهة النظرة ووضاعة القناعة..غوغائيون..ضوضائيون..متعتعون بيانا وعلما..راكبين رؤوسهم..لا يشق لهم غبار..يناقشون في الجنس والطب والدين والزرع والضرع..وتعجبت كيف يمكن لشعب يقضي وقته في الكلام الفارغ أن ينتج ويتقدم.. ولا اعتقد أن الاختراعات والثورات تخرج من المقاهي..ولم اصدق كيف تتعايش هذه المتناقضات في هذا الحيز الضيق من الأرض لا شك أنهم يحيون على المصائب والمكائد والدسائس والبخل والرياء....
وصلت إلى وسط المدينة.. لم تكن لها قلب..فقط مدائن فوق مدائن فوق مدائن.. والباعة يعرضون أكواما من السلع والمأكولات لم أشاهد مثلها في حياتي.. خاطبتها في سريرتي / مواعيدنا الجنة / وابتلعت ريقي .. دنوت من البناية.. قرأت العنوان على الصفيحة الجدارية.. قرأت العنوان على ظهر الرسالة..تحسست جيوبي.. ووقفت مشدوها أرنو لشموخ الطوابق.. قلت أيها المزخرف من الظاهر كيف أخبارك من الباطن.. ورميت بجثتي.. طفقت أجوس عبر الممرات المعتمة..والأدراج الملتوية التي تنتهي بعتمة.. كانت أبواب الحجرات موصدة.. ولم يكن ثمة ما يشي بالحياة.. فقط كتيبة من الصراصير توقع مارشا صراصيريا.. خلت أن اليوم يوم عطلة.. لكن اشراع أبواب العمارة والهمس والخشخشة وراء الجدران أكدا عكس ذلك..لاحظت أيضا تناسق المعمار قلت يخلق من الشبه أربعين..وضحكت في دخيلتي من هذا الشبه العجيب والغريب...
هممت بطرق الباب/أنا محسوبكم عباس / الذي لا يقيم دجاجة عن بيضها هممت بطرق الباب..رفعت يدي بتثاقل..أفردت سبابتي وعقفتها..كان قلبي يدق بعنف..والدم يضج في العروق .. أحسه ساخنا ينساح عبر خلايا الجسد محدثا دوائر تحتضن دوائر كبركة دماء..حاولت ضبط أنفاسي..أنا الآن على مشارف ميادين القتال.. ومقبل على حرب ضارية لا هوادة فيها..لا بد من استنفار كامل قواي../ وأنا ليس لدي ما اخسره في الجيب ليأتيني ما في الغيب / على رأي المثل كما يقول إخواننا المصريون... سفائني أحرقتها ساعة خلفت في هدوء البراري والفلوات انسانيتي.. واتيت دالقا لساني انشد نعمة الوظيفة وحضوة الجاه..
هممت بطرق الباب../ وكأنما كان يراقبني ابن الذين/ اطل وانتصب أمامي كالمارد... حاجب الإدارة على حدود الظلام الخفيف الغير المفهوم والغامض..
ـ قلت له صباح الخير يا استاذ..
هز كتفيه
ـ سألته عن اسم الإدارة
حرك رأسه كالثور..
ـ أفهمته أني جئت من بعيد ابحث عن عمل..
رد بطرفي عينيه وهو يرمق الجواب ويرمقني..
ـ استفسرته إن كان حضرة المسئول موجودا..
مط شفتيه تبرما واختفى..
تركني ..وذاب وسط عتمة الأبهاء..احتضن نجاح سنوات العمر.. لا ادري كم غاب المهم انه غاب دهرا بأكمله.. كانت خلاله الأرض تدور تحت شمس يونيو.. وغلال الكروم والفواكه تصطلي بصهد وحرارة شمس العنصرة..
وتذكرت يوم الخامس من يونيو الجريح وذات هزيمة...
في الخامس من حزيرات انكفأت الجيوش العربية وتفرقت شراذمها واندحرت فلولها..
في يونيو لم تعلق رقاب الجواسيس والخونة بل زينت بالنياشين وجدائل الحرير..
في حزيران لا نجيد سوى لغة الخيانة والدموع ..
من أين يأتي كل هذا الكم من الدموع .. وعلى شاطىء أي بحر تتلاطم هذه الأمواج من الحنين و الأحزان ..وما اسم هذا البحر.. نحن لا بر لنا ولا بحر.. صدقت يا محمود يا درويش..لا دار لنا ولا قبر لنا..
حزيران فاتحة الانكسارات ..
يونيو بداية الخسارات..
تذكرت كل هذه الأشياء..وتعجبت كيف تدخل هذه الهلوسات دماغي وفي هذا المكان المتمترس بالخراب..
رددت على الحاجب رغبتي ..حدجني باحتقار وضيق..ومد يده لجرابي.. دقق جيدا في محتوياته.. نظر لكسرة الخبز السمراء والبيض المسلوق بتقزز..وطرحه أرضا..وقادني عبر متاهة الممرات..وصلنا أمام إحدى الغرف..استأذن قبل أن يفسح لي الطريق..ترجلت خارجا / داخلا من ظلام البهو إلى حلكة أخرى.. ليل قائم بذاته.. ليل أعمق من ليل.. ليل مولج في النهار.. لكنه اشد ألقا من ليل حقيقتنا الضائعة في دياميس الزمان.. وان لم احدد ملامح المكان الذي احتواني بداية الأمر..هذا هواء وهسيس رفرفة مروحية يصلني عن قرب..وهذا فراش يميد تحت قدماي..تلفت بحذر شديد..أمامي مباشرة يقف شخص فاحم..تراجعت إلى الخلف..صار طوله يوازي نصف قامتي.. راقبت الشبح من فوق/ راقبني الشبح من تحت.. رفعت يدي أتقي لكمة محتملة...هذا ظلي معلق على الجدار يسامرني ...وظهرت من خلفه الملفات والرفوف والجوارير ترمقني ببرودة الجماد..تركت الظل مشبوحا ورائي واستدرت بسرعة.. وجدتني أمام مكتب من خشب رفيع..ومجلة وخيط دخان وكمشة ضياء منحسرة على الورق المشرع... تسمرت في مكاني انتظر ما سوف تسفر عنه المجلة التي يحمل غلافها صورة لامرأة عارية..لا شك أن ورائها بطل لا يكل من النزال..الآن عرفت سر المثل القائل بأن وراء كل عظيم امرأة..
قفز إلى مخيلتي ما قرأته يوما عن شبقية الخليفة هارون الرشيد عندما ضبطته زبيدة وهو يتلصص عليها وهي تستحم كما وضعتها أمها في بحيرة الصفحة 337 خلال الليلة 410 من ليالي ألف ليلة وليلة في مجلدها الثاني للمطبعة الشعبية ببيروت المحروسة.. ولما أبصرته اخفت فرجها بيديها خجلا فقال الرشيد والرواية للأميرة شهرزاد والشعر للحسن بن هاني من جملة أبيات:
نظرتني سترته / فاض من بين اليدين
....
كانت ملابسي ملتصقة ببدني ورجلاي تحملانني على مضض..لم أنم طيلة البارحة..ولم أطعم غير الغبن والخيبة وسهاد الليل .. ليل الطريق الطويل..
تحركت المجلة..وظهرت رأس صلعاء حمراء شحماء ..وامتدت يد بضة ثخينة...أزالت نظارات طبية عن عينين منتفختين ومحتقنتين من اثر النعمة.. ودعست ذخينة في منفضة بلورية..مددت يدي محييا... لم تمتد لي اليد الثخينة..ولم تمتد لأوراقي..أفردتها أمامه.. لم يكحل عينيه بشهادتي..صرف نظره عنها باحتقار وسلطه علي.. كانت ملامحه تشي بالكلل والبلاهة والكراهية..طأطأت رأسي.. نظرت إلى هندامي متفحصا.. سروالي ليس مقلوبا وان كان رثا..وقميصي أيضا وأزراره في مكانها..تحسست أذني وقفاي ومؤخرتي..وخفضت له جناح الذل من المسكنة والبهدلة..
لا ادري كيف أشار للحاجب الذي لكزني بذراعه..جمعت أوراقي..تبعته.. قادني عبر الممرات إلى قاعة أخرى.. فتح الباب.. دفعني وانصرف.. وجدتني إزاء صفوف من المكاتب فوقها أوراق وكؤوس وأباريق شاي وصواني وقناني... بكرات صوف وهواتف.. وتحتها أزبال وقشور فول سوداني ودوار شمس وبذور قرع وأعقاب سجائر.. أشياء عديدة أهمها سحنات شاحبة وعيون مليئة بالأسى والإحباط ..
مررت بخطاي أمام المخلوقات القابعة وراء خشب المناضد..ذرعت أرضية القاعة..وأوراقي بيميني..كانت الغرفة مضاءة جيدا...وخيط شعاع رفيع يمتد من كوة بأعلى الجدار إلى الزاوية السفلى المقابلة.. مغطاة بأكداس من الرسائل بعضها مفتوح وبعضها مغلق..
درت حول المكاتب نصف دورة... وحول نفسي دورة كاملة..أخدني دوار وغثيان ..افتعلت ابتسامة صفراء كي أداري بها خيبتي ..لم تتحرك المخلوقات ..كانت غارقة في خدمة هذا الوطن السعيد...أنا الأحمق الخامل .. الأخرق.. المعتوه.. اللقيط .. الأبله.. الفاسق.... العبيط ... القبيح..الضعيف.. السخيف... المـأفون...المتسخ..الخامل... الفاشل..الجبان..الخسيس.. الرعديد..الصفيق... الحقير... السفيه...الدنيء... الأهوج ..الكريه..الشقي...السافل...الجاهل .. الأمي.. المتعجرف... المتخلف..المتسلط..السليط اللسان.. العديم الحياء.. الآتي من مراتع البقر والحمير.. لا أراعي الأعراف.. ولا اعمل حسابا لاحمرار عيون الحكومة وسطوة ووقار الوظيفة...أنا الفاعل التارك الذي ضحك عليه كارل ماركس ولينين وتروتسكي وتشي غيفارا وروزا ليكسمبورغ..وملأت سفاهة الكتب التافهة يافوخه بفكرة الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا والمساواة بين المواطنين وحقوق الإنسان والحرية والسلام والديمقراطية والأممية الاشتراكية والكومونات وثورات الفلاحين وحرب العصابات الطويلة الأمد وصداع الرأس..
توجهت نحو أحدهم كان قد صحا من النوم لتوه...تنحنح وفرك عينيه...وضعت أوراقي أمامه..شرعت أفسر له أني أتيت من بعيد ابحث عن عمل كي أعيل أسرتي واشد أودها..نظر إلي محملقا..ونظر إلى أصدقائه..نظروا إلى بعضهم البعض بغرابة... ونظروا إلي جميعهم بشماتة..الرجال والنساء نظروا الي بتمعن.. كما لم ينظر إلي من قبل الرجل الذي ولدني...وضحكوا حتى أبانوا على النواجذ..كانت أسنانهم مدببة وصفراء وعليها بقايا أطعمة.. كنت لا زلت ألغو.. قام احدهم بتثاقل..تمطط حدست من حركاته انه يود التوجه إلى دورة المياه..توجه نحو الزاوية..أخد حزمة من الرسائل وخرج... كنت لا زلت أتكلم عن اصلي وفصلي ونجاحي وفقري..أول الأمر لم أصدق أذني..حسبته أنينا أو شخيرا..لكن حينما تكررت الزمجرة ارتعدت فرائصي...كانوا قد بدأوا يكشرون عن أنيابهم...وكانت وجوههم الصقيلة قبل حين.. قد كسيت بالحراشف والزغب وأذانهم استطالت قليلا..وأضحت عيونهم حمراء كلهب الكوانين...وشرعوا في العواء..تراجعت إلى الخلف هلعا مرتاعا... وقلت لخيلي ما قاله امرؤ القيس بن حجر الكندي / كري مرة بعد إجفال/.. لم أتذكر تماما كيف خرجت من البناية .. هل قفزت الأدراج..أم انشق الاسمنت المسلح... لكني أتذكر أني خرجت وحسب... واني كنت اجري ولا التفت... كان النباح قد أخد يشتد ويرتفع وهو يتعقب أثري..والمارة ينظرون إلي ويضحكون... وصلت إلى مشارف المدينة..كان العسس قد شرعوا في إغلاق البوابات.. ودوريات الشرطة وفرق خفر السواحل تجوب المنطقة...وقبة السماء قد ازدانت بنجوم المجرات...والقمر حزين حزين... استلقيت على الأرض...كنت متعبا وجائعا.. سروالي تمزق...والعرق ينسكب من جسدي وثيابي مبتلة..وعروقي نافرة...ورائحة الغبار ممتزجة بلزوجة الجسد المهزول....كنت كجرو يخرج من معركة كلابية خاسرا مكسورا مدما وممزقا ..تذكرت إخوتي وأهلي .. وصحت في خاطري قرابين أمي .. دعواتها وشموعها ووعودها.. ووصايا أبي الصارمة ووعيده...وأمنيات خليلتي...وصداقة الكلاب والقطط التي رافقتها ردحا من الزمن واقتسمت وإياها الخبز والملح..وددت لو أقابلها وأعانقها وأسند عليها راسي وأبوح لها بانكسارات العمر الجميل..
نزعت قميصي لوحت به للسيارات الآتية باتجاهي...كان أربابها يمعنون في السرعة...لا شك أنهم علموا بحكاية الفتي القادم من بادية الرحامنة ليعمل بالمدينة..كنت ألوح بيدي وقميصي.. كان الظلام قد عم تماما...وأضواء المدينة باهتة كالنمش تأتي من بعيد ولا تصل ...تغرق في لجة الأطلسي الأزرق المحيط الجميل السخي الودود....وفيما كنت أتثاءب وامشي وأصيخ السمع لصياح الديكة والطيور..ويترامى الى مسامعي آذان الفجر.. كان النباح لا يزال يترصدني في الأحراش والغابات والوديان والفجاج المجاورة...
أوقفت إحدى الحافلات ..ارتميت وسطها على عجل..كانت ممتلئة عن أخرها..افترشت أرضيتها المتسخة الباردة... كان كل ركابها يضحكون وكنت بمفردي أبكي ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادل إمام: أحب التمثيل جدا وعمرى ما اشتغلت بدراستى فى الهندس


.. حلقة TheStage عن -مختار المخاتير- الممثل ايلي صنيفر الجمعة 8




.. الزعيم عادل إمام: لا يجب أن ينفصل الممثل عن مشاكل المجتمع و


.. الوحيد اللى مثل مع أم كلثوم وليلى مراد وأسمهان.. مفاجآت في ح




.. لقاء مع الناقد السينمائي الكويتي عبد الستار ناجي حول الدورة