الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
من طفلة لاجئة (قصة قصيرة)
هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث
(Hashem Abdallah Alzben)
2020 / 1 / 13
الادب والفن
مرحبًا
أنا "طفلة لاجئة" عمري سبعة عشر عاماً وشهرين، ولاجئة سورية من إحدى قُرى
ريف إدلب الجنوبي، وأقطن حاليًا في ُمخيم الأزرق للآجئين في الأردن.
أنا لاجئة، وهذا يعني الكثير...
لن أكتب هُنا، كلمات وعبارات عاطفية رقيقة تستثير المشاعر الجيّاشة، ولن أتناول تفاصيل ُمعاناة
اللاجئين التي باتت معروفة جدًا بل وذِكرها لتكرارها وإعتيادها بات يبعث في النفوس َضجراً وسأم
شديديّن.
أُحاول إستحضار تفاصيل ومشاهد لم تُغادرني أبدًا، ولكنني نجحتُ خلال السنوات الماضية
-ولو قليلاً - في إبعادها عن وعيي وتركيزي...
الآن أشعر بالعجز الممزوج بالخوف واليأس، وأشتمُّ روائح الموت والدم والغُبار والرصاص و...
حسناً، إنني أرى الآن وأنا جالسة في ظلام بيتنا (الكرفان) ، وأمامي طاولة الطعام القصيرة التي
أستخدمها للكتابة، على سطح الطاولة يتمركز شُعاع الضوء المُنبعث من المصباح المُعلّق في سقف
الكرفان، أرى بيتًا تداعى ُمعظمه بسبب قذيفة أو صاروخ أسقطتهُ طائرة، أو أي شيء ُمدّمر، أيَّ
شيء يُستخدم من أفراد لا أعلم كيف ُيحبّون الدمار والموت لدرجة أنهم يُواصلون ليلهم بنهارهم
وهُم يُمارسون ما يبدو بأنه لعبتهم الُمُفضلة، لعبة التدمير والقتل اليومي!
وأرى ُجموع بشرية تهتف بأعلى صوتها: "الشعب يُريد إسقاط النظام". وأرتعشُ خوفًا أو بردًا.
وأبحث عن ُحضن أمي، وأتذكر وفاتها يوم الأحد الرابع من يناير/كانون الثاني عام 2015؛ رحلت وأخذت معها أختي الصُغرى ذات الأربعة أعوام وأخي الأصغر الذي لم يتجاوز حينها عامه الأول، وجدناهم
ُجثث ُمشوهة بعد ساعات من البحث والتنقيب في دمار بيتنا،
كنت عائدة من المدرسة التي ُدمر ُمعظمها كذلك، وكنا نغيب عن الدراسة غالبًا، نحن الطالبات لم نحزن للغياب عن المدرسة كثيرًا، كان حزننا ثقيلًا عندما
قُصفت َمدرستنا، ووجدنا سورها ُمزيّن بعبارة:"لا إله إلا الله محمد رسول الله، هيئة تحرير الشام"، كان ذلك قبل شهرين من قصف بيتنا، حسبما أذكر
قالوا بأن بيتنا قصفته طائرات النظام، ومدرستنا إستهدفها الإرهابيين، بالتحديد: "جبهة النصرة".
غادرنا قريتنا، أنا وأبي وأختي التي تصغرني بعامين، وأخي الكبير، غادرنا للجنوب وقد كان الشمال (شمال إدلب) أقربُ إلينا، ولكنه كان ُمحرمٌ علينا، غادرنا في الخامس من شباط/فبراير عام 2015،
وحملنا معنا ما أستطعنا أخذه من ملابس وأغراض شتّى، في ذلك الفجر الأخير قبل ُمغادرتنا للقرية، أردتُ أن آخذ معي كل شيء وألا سأبقى فاقدةً لشيء ما مهم كالحياة أردتُ أن أأخذ الحوش كلّه بأشجاره الحزينة، وخصوصًا الياسمينة التي جفّت منذ... لا أدري، ربما بعد قصف البيت،
وقبور أمي وأختي وأخي، ومقعدي في المدرسة، وسماء حيّنا ورائحة الياسمين التي تعبق في
أرجاء مسجد قريتنا الكبير، ولم أحمل معي إلا بضعة ملابس وصورة قديمة لعائلتي حيث كنا
ُمجتمعين وعلى وجوهنا ترتسم الطمأنينة والسعادة..!
رحلة اللجوء نحو الجنوب، إستغرقت ثلاثة أشهر، وقد كُنا هاربين من كل شيء تمامًا، والهارب
خائف و ُمحتاج جدًا للطمأنينة أو النهاية. دفعنا الأموال عند الحواجز النظامية وغير النظامية، دفعنا
ثمن حياتنا عند كل بائع للموت، وما أكثرهم في ذلك الحين!
وصلنا الحدود الأردنية، وقد تغيّرنا تمامًا، لم نعد نحن، صرنا ُمجرد أشباح وهيئات للوهلة الأولى
تظنها هياكل عظمية يُغطيها الجلد وفوق الجلد ِخرق بالية، بَهت لونها وأسودّت، من الطين والعرق
والدماء والدموع..
عند الحدود، ولأيام كُنا نستعد لمُغامرة العبور، بالطبع ثمن العبور هو الحياة، فإما النجاة أو
الموت... كان علينا العبور أو الموت هُنا في هذه الصحراء الشاسعة لا خيار ثالث، هُناك لم يكن
للحياة معنى أو قيمة، كان الموت هو الشيء العادي، وبالفعل كُنا أموات لولا تنفسنا للهواء وحركة
أجسادنا المُنهكة من الحياة أيضًا..!
جئنا لهذا المُخيم وقد فقدنا كل شيء تمامًا، فقدنا أنفسنا وبتنا أجسادًا تحمل ندوبًا لا يمحوها مرور
الأيام، وهُنا في هذا الكرفان الأبيض وعلى هذه الأرض الصحراوية التي تحمل فوقها الآف
الكرفانات البيض، بدأنا نُحاول الإعتياد أو التكيّف مع واقعنا هذا أو الرضى والتسليم، بما يراه
البعض قضاء الله وقدره المحتوم، ويراه بعضٌ آخر نتيجة حتميّة لأسباب كثيرة أدت لتدمير وطن
وقتل مئات الآلاف ونزوح ملايين الناس، من ضمنها "عدم إستحقاقنا للحُرية والديموقراطية
وغيرها من المفاهيم المُبتذلة"، نعم لا أفهم في السياسة وإستراتيجيات المعارك والبعثات وغيرها، لكنني فقط أُريد أن أعرف، لماذا قُتلت أمي وأخوايّ؟ لماذا قُصفت قريتنا ودُمرت مدرستنا؟ لماذا نحن هاربون من وطننا؟؟
هُنا حيثُ الجميع موجود لأجلنا، عشرات الُمنظمات الإنسانية ومئات الكوادر الطبية والأمنية التي تعمل في شتّى المجالات وعلى كافة الأصعدة لجعل حياتنا صالحة، ولكن من يستطيع تعويضنا عن خسائرنا الفظيعة، خسائرنا التي جئنا نحملها فوقنا؟
َمن يستطيع تعويض خساراتنا الفظيعة ؟
أنا أعتذر لكم
بالنيابة عن كل اللاجئين ! كُلنا نحمل في أعماقنا أوجاعنا ونرسم دائمًا تلك الإبتسامة الشاحبة على
وجوهنا ؟
ومن هُنا، من بيتنا (الكرفان) أقول بأننا لم نكن سوى حالمين...
كُنا نحلم بغد ُمشرق، بوطن لا يحمل أسم شخص، ولا تتملّكه فئة لتُقصي فئات أخرى، كُنا نحلم بأن
الأمهات يصبحن جدّات ُمقعدات لهُنّ وجوه ُمطمئنة والآباء يشيخون بتردد وببُطئ، وما داموا قادرين
على المُضي َمشياً على الأقدام للصلاة أو للسوق فهم بخير وعافية ! كُنا نحلم، ويبدو بأن الحلم فاقَ الواقع وكان محض أضغاث أحلام ما لبثت أن تبددت وأ ّمحت مع أول إشراق لشمس
ُصباح كئيب!
هذه كلماتي، لا تعاملونها بإستعطاف، بل أقرأو من خلالها حياتنا في منفانا القسريّ...
كلمات لاجئة فقدت أمها (وطنها).
فبراير.شباط، 2019
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس