الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشرة دنانير*

جعفر المظفر

2020 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


في عام 1969 كان صدام حسين الذي داوم على المجيء إلى مقر الإتحاد الوطني لطلبة العراق في الوزيرية قد إختار صباح مرزا (الكردي الفيلي الشيعي) لكي يكون مرافقه الأقدم. أما أنا, المسؤول عن الثقافة والإعلام في الإتحاد, فقد إختارني عبدالخالق السامرائي لكي ألتحق بالمكتب الثقافي للحزب الذي كان وقتها في بداية تشكيله, وكان مقره في البداية غرفة كبيرة خصصت للدكتور إلياس فرح (سوري) عضو القيادة القومية مع غرفة صغيرة مجاورة خصصت لي في بناية القيادة القطرية للحزب التي كان موقعها مقابل القصر الجمهوري.
ولقد حافظت على وظيفتي كمعيد في كلية طب الأسنان في البداية, ومن ثم معاونا للعميد لشؤون الطلبة, قبل أن تمنحني جامعة بغداد زمالة للدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية, وكان بإمكاني حينها وبعد التخرج مباشرة أن أعمل في عيادة خاصة بي قد يصل مكسبها بضعة مئات من الدنانير, وهو مبلغ كبير بقياس قيمة العملة آنذاك, حيث كان إيجار البيت في مناطق راقية من بغداد في حدود الثلاثين دينار فقط.
رغم ذلك قبلت بإختيارعبدالخالق السامرائي على أن أقضي فترة النهار معيدا في الكلية وأقضي فترة المساء متفرغا لأعمال المكتب الثقافي ومكتب الطلاب, راضيا بمبلغ (الأربعين دينار) الذي قرره السامرائي كراتب تفرغ والتي كانت ستضاف على مرتبي من الكلية, ومتخليا بالتالي عن الإمتياز المالي الذي كانت العيادة الخاصة ستوفرها لي مثلما كانت عليه حالة الخريجين من أمثالي.
وبالنسبة لرجل أعزب وبدون إلتزامات مالية مكلفة أو حاجة ملزمة للتوفير كمشروع زواج مثلا أو لشراء سيارة أو قطعة أرض كان مرتب الوظيفة ومخصصات التفرغ تكفيان لتغطية مستوى مريح من المعيشة آنذاك. ومع ذلك فإن مخصصات التفرغ لأعمال المكتب الثقافي كانت متواضعة النسبة إلى رجل مثلي بالمؤهل الأكاديمي والمهني اللذين كانا سيعيناه للحصول على فرص أفضل.
لكن علينا أن نتذكر أن هذا ما كان عليه حال العمل السياسي في تلك المراحل, ففي تاريخ الدولة العراقية, وعلى مختلف عهودها, سواء من جانب رجال الدولة أو من جانب المعارضة, كان الإندماج في العمل السياسي أو النقابي معناه وضع طموحاتك الشخصية على الرف والقبول بكل ما يترتب على ذلك العمل من تضحيات وضياع فرص شخصية. ويوم تكون في مواجهة رجل كالسامرائي يكون من الصعوبة بمكان أن ترد له طلبا, بل كان من المؤكد أن تعتبر ما يطلبه منك تشريفا.
بقيت أربعة سنوات عاملا في المكتب الثقافي تحت مسؤولية السامرائي راضيا بمبلغ الأربعين دينار. غير أن إنتقالي من الشقة في منطقة "رخيتة في الكرادة الشرقية" إلى دار صغيرة في "منطقة 52", كان زاد من تكاليف معيشتي نظرا لفارق الإيجار, وإن هو لم يفقرني.
لذلك قررت, لكن وبعد كر وفر مع رغبتي طلب الزيادة, وبعد دراسة كيفية التغلب على خجلي وترددي, أن أدخل إلى غرفة السامرائي شاهرا عليه طلبي, وكأنني أرتكب ذنبا قد يقلل من قيمتي أمامه, وهذا أمر لم أكن على إستعداد لتحمله حتى ولو كنت أعمل بالمجان. لكن ما العمل فالظرف قد إختلف وعلى الرجل أن يفهم الحالة, خاصة وإنني لن أطلب غير مبلغ متواضع.
بقيت واقفا أمامه بعد إلقاء التحية. طلب مني الجلوس لكنني فضلت البقاء واقفا طمعا في أن يمنحني وضع الوقوف شجاعة التخلص من خجلي وترددي.
نظر إلى وجهي المتردد ثم كأنه حاول أن يشجعني على الكلام : لا بد أنك تريد أن تقول شيئا أم أنك تنوي الوقوف هكذا إلى ما شاء الله.
أريد زيادة على مرتبي فأنت يا استاذ أبو دحام تعرف إنني منذ أكثر من سنتين وأنا لا أتقاضى سوى أربعين دينار.
ضحك الرجل ثم قال وهو يتطلع بي مليا .. لو أنا كنا في مكان آخر لأعطيتك الزيادة قبل أن تطلبها, لكنك في المكتب الثقافي, حيث أتطلع أن يكون كل من فيه نموذجا لقيادي المستقبل. عد إلى غرفتك وأنجز الموضوعة المكلف بكتابتها وفكر مليا بما قلته لك الآن.
علينا أن نتذكر أن هذا ما كان عليه حال العمل السياسي في تلك المراحل, ففي تاريخ الدولة العراقية, وعلى مختلف عهودها, سواء من جانب رجال الدولة أو من جانب المعارضة, كان الإندماج في العمل السياسي أو النقابي معناه وضع طموحاتك الشخصية على الرف والقبول بكل ما يترتب على ذلك العمل من تضحيات وضياع فرص شخصية. ويوم تكون في مواجهة رجل كالسامرائي يكون من الصعوبة بمكان أن ترد له طلبا, بل كان من المؤكد أن تعتبر ما يطلبه منك تشريفا.
إنها عشرة دنانير فقط وليست مائة دينار او الف. صحيح أن الوضع المعيشي لم يعد كما كان عليه في السابق لكن الصحيح أيضا أن العراق كان خاليا من الفساد بوضعيه فوق الطاولة وتحت الطاولة. وإني لست الآن بصدد الحديث عن ذلك بالتفصيل, لأنه سيأخذني حتما إلى حدث طويل حول نزاهة الملك ورجالاته وعبدالكريم قاسم وكبار موظفيه وعبدالسلام عارف وأخيه وصولا إلى البكر أيضا.
أما الحديث عن صدام فهو لا شك سيطول.
لكن .. كم سيكون مؤلما الحديث عن فساد النظام السياسي الحالي, والذي لا وجود له حتى في الخيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن بوست: صور جوية تكشف ملامح خطط إسرائيل لما بعد حرب غزة


.. المعارضة الكردية الإيرانية تصف طلب إيران بجمعها في مخيمات بـ




.. عشرات القتلى والمصابين في هجمات إسرائيلية على مناطق عدة في ا


.. دانيال هاغاري: قوات الجيش تعمل على إعادة 128 مختطفا بسلام




.. اللواء الدويري: الجيش الإسرائيلي يتجاهل العوامل الغير محسوسة