الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الرابع عشر/ 3

دلور ميقري

2020 / 1 / 18
الادب والفن


والدة سارة، كانت آيلة إلى الانهيار مادياً ونفسياً حينَ ظهرَ قريبُ الحاج حسن في البلدة. لما مثلَ بكر في حضرتها، راحت تزنه وتروزه، متضايقة إلى حد ما من مظهره وسذاجته. بشأن المظهر، كان قد أكّد لها زوجُ ابنتها، المزكّي إياه، أن الرجلَ فلاحٌ في آخر المطاف. فيما يتعلق بالشق الآخر، قال لها الزعيمُ ضاحكاً: " إنها سذاجة القرويّ، المبطنة بالمكر والدهاء! ". أغضت بصرها عن كل ذلك، وكانت سعيدةً بالمناسبة، كونها جعلت صهرها يقدم على زيارتها مع مشاعر طيبة جديدة عليه. منذئذٍ وحتى وقت اشتعال الحرب العظمى، صار تقليداً سنوياً زيارة الحاج حسن وأسرته للزبداني. من ناحيته، كان يكتفي بالمكوث بضعة أيام نظراً لمشاغل عمله. في أثناء الزيارة، كان يعاين ما حققه قريبه من تقدم في المغترب الأكثر جدّة.
لم ينجح بكر فقط في إدارة أرض السيدة أديبة، وإنما عمد أيضاً إلى إصلاح حقلٍ مهجور سبقَ أن رحل صاحبه عن الدنيا دونَ ذريّة. ثم فاضَ المالُ بين يديه، فاشترى الكوخَ من السيدة وجعل له مدخلاً خاصاً مع سورٍ يفصله عن حديقة منزلها. كذلك أحيا مناحل العم عمر، مطلقاً كائناتها في متاهة الجنّة الأرضية المحيطة بالدار. أرملة هذا الأخير، كانت قد أخذت مهمته في جلب الماء العذب من أحد الينابيع القريبة. إلا أن آمنة هرمت، وتعذر عليها القيام بالمهمة. ما جعل سيدتها تدفع مالاً لأحد السقائين، بغيَة مدها بالماء. هذه المشكلة، تولى حلّها الجارُ الجديد، بأن أتى ببعض العمال المتخصصين بحفر الآبار. على ذلك، ما كان غريباً أن تتوثق علاقة السيدة أديبة بامرأة بكر؛ وكانت هذه إنسانة طيبة، متفانية في خدمة الآخرين ومساعدتهم. في بادئ الأمر، شعرت المربية بالغيرة من المرأة الغريبة. لكنها ما لبثت بدَورها أن صادقتها بكثير من المودة، عقبَ اختبار أخلاقها فضلاً عن متعة حضورها: شأن زوجها، كانت المرأة الغريبة ذكية ومنفتحة الذهن، بحيث أنها تعلمت في وقت قصير العربية بالمحكية المحلية.

***
أربع سنين على الأثر، حين اشتعلت نيران الحريق العالميّ، كانت سارة قد قاربت منتصف الحلقة الرابعة من عمرها؛ أمضت نحو ثلاثة عقود منها في كنف الزوج بدمشق. في مستهل الحرب العظمى، التي دعاها السوريون " سفر برلك "، رزقت بابنٍ بهيّ الطلعة، أطلق عليه الأبُ اسماً رومانسياً؛ " فؤاد ". بعد شهرين، لما أنجبت امرأةُ موسي غلاماً، أعطاه الجد هذه المرة اسمَ " دياب "، كيلا يقرب منه ملاك الموت. لكن الملاك كان مشغولاً عن الأطفال، وذلك باستعمال منجله في إهلاك الكبار، سواءً المتورطين مباشرةً بأتون الحرب أو العالقين على هامشها.
منذ بداية الحرب، التي زج فيها الاتحاديون السلطنةَ إلى جانب الألمان، بدا واضحاً ليسَ عجز جيشها أمام الحلفاء حَسْب، بل وأيضاً مدى هشاشة عقيدته القتالية؛ عقيدة، اعتمدت منذ عدة قرون على محاربة السكان المحليين ونهب أرزاقهم وسبي نسائهم. سرعان ما عانى الناسُ من نقص جسيم في المؤن الغذائية، نتيجة إحكام الأسطول الإنكليزي حصار موانئ بلاد الشام. ثم تفاقم الحال إلى مجاعة عامة، بإيعاز الضباط الألمان المتغطرسين للسلطات بمصادرة الغلال لصالحهم جيوشهم، التي تقاتل على عدة محاور في أوروبا وآسيا وأفريقيا. حل الخراب في الأرياف كذلك، حينَ تم تخليصه من خيراته، وبالأخص عراجن الحبوب. عقوبة الموت، كانت في المقابل جزاءَ كل من يخفي ولو كيساً واحداً من الدقيق.

***
لأول مرة في تاريخه، تُنتهك عزلة الحي الكرديّ من قبل الجندرمة. حتى في فتنة عام 1860، احتُرمت حرمةُ الحي واكتفيَ بإجراءتٍ طالت مَن ظنّ أنهم على علاقة بالحدث، إن كانوا من العامّة أو الأعيان أو العسكر. في هذه الحرب، كلّف الجندرمة بمهمة جمع الشباب لسوقهم إلى الجبهات على خطوط الروس واليونان والإنكليز في القوقاز والبلقان ومصر. عندما عمد الأهالي إلى إخفاء أولادهم المطلوبين للخدمة، في كهوف قاسيون أو قرى بر الشام، ردت السلطات بتجنيد الرجال الأكبر سناً. في حقيقة الحال، أنّ العديد من العائلات كانت قد غيّرت كنياتها، استباقاً ليوم كهذا. وإلى الآن، تجد أولاد عمومة في الحارة بأسماء شهرة مختلفة: كان أجدادهم مَن فعلوا ذلك، احتياطاً منهم كي يخدعوا سلطات التجنيد في زمن الحرب العظمى أو ربما في حروب أقدم.
لحُسن حظ بكر، المقيم في الزبداني مع أسرته للعام الرابع على التوالي، أنه لم يملك سجلاً مدنياً في البلدة؛ وإلا لكان مصيره شبيهاً ببعض أقاربه وأصدقائه، المساقين إلى الحرب. عن طريق السيدة أديبة، المتواصلة مع ابنتها من خلال الاختراع العجيب المسمى " تليفون "، نم لعلمه أولاً بأول ما جرى آنذاك في حي الأكراد. لما أبدى لجاجةً ذات مرة، مدت له سماعة الهاتف: " هاك، تكلم مع الحاج حسن واستفهم منه عما بدا لك ". لكنه أصيب بالرعب عندئذٍ، وهوَ يسمع صوتَ الرجل عبرَ السلك الأسود اللون، فارتجفت يده وبالكاد تمكن من الكلام. فيما بعد، أضحى أكثر ثقة بالنفس أمام الجهاز الشيطانيّ، لدرجةْ طلبه من الزعيم في كل مكالمة استدعاءَ هذا وذاك من معارفه كي يحادثهم ويطمئن على أحوالهم. في كل مرةٍ أيضاً، كان يهتف أمام للسيدة أديبة مسمياً أحدهم: " لقد سحبوه إلى الجندية! "؛ وكما لو كانت هيَ على علم بمن يكونه الشخص المعنيّ. لكن العدوى انتقلت إليها تدريجياً، مع أن شيمة الفضول كانت قد اضمحلت لديها مع مرور الزمن. ذلك كان في العام الأول من الحرب، فيما أن الأعوام التالية جعلتها لا تهتم سوى بإنقاذ نفسها ومن حولها من غائلة الجوع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ