الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارة في توراة السفح: الفصل الرابع عشر/ 5

دلور ميقري

2020 / 1 / 21
الادب والفن


آلت الأحوال في الشام إلى كابوس دائم، يعيشه الأهالي ساعة بساعة. في كل مكان تشابهت الحكايات في السنة الأولى من الحرب، خاصةً عن وحشية الجندرمة، المكلفين بجمع الشباب وإرسالهم إلى الجبهات البعيدة. في السنة الثانية، بدأت تظهر أولى بوادر المجاعة سواءً في المدينة أو الريف. في بعض الأحيان، تبادلَ سكانُ كلا الجهتين المكانَ أملاً في أن يكون الوضع أكثر ملائمة لاستمرار العيش. لكنهم كانوا يصابون بالخيبة، فيعود قسمٌ منهم إلى بيته هاذٍ من الجوع، وقسم آخر يقضي نحبه في المسغبة على أطراف الطرقات، مردداً: " الخبز، الخبز.. ". المجاعة، زحفت حتى على دور الأعيان بعدما فرغت مخازنهم من الأغذية والغلال. مع أنهم، في المقابل، كان باستطاعتهم دفعَ المال للضباط المرتشين كي يجنبوا أولادهم السوق إلى الجندية.
وها أنّ المعلّم، عليكي آغا الكبير، يظهرُ في المشهد مروَّعاً كل ساعةٍ بنبأ جديد، يأتي به معاونه حمّاد عن تزايد نفوق الماشية من ندرة العلف. احتاجَ التعجيلُ بذبح الخرفان المحتضرة لمعونة ابن امرأة المعلّم، وذلك لينضم إلى صبيّ الإسطبل. جزء من الضحايا، كان يذهب إلى مخزن زعيم الحي لإعانة العائلات المفتقرة، وكان عددها يزداد يوماً بعد الآخر. كان عليكي آغا الكبير إذاً في مكتب أعماله، يصطلي بنار الموقد، ينتظر وصول علي، ابن امرأته. أمس، هدّأ مخاوفها بالقول أن البستانَ آمنُ للشاب من البيت ما لو داهمه الجندرمة كي يسحبوه إلى الجندية. على حين فجأة، تناهى إلى سمعه ضجةٌ آتية من الخارج، راطنة بمفردات مبهمة. فتحَ البابُ على الأثر، وما عتمَ أن دخل ضابطٌ شرس المنظر برفقة ثلاثة عساكر. دونَ حاجةٍ لتوضيح، أشارَ بيده نحوَ الرجل الجالس وراء مكتب أعماله: " ضعوا الحديدَ في يديه! "، قالها باللغة العثمانية.

***
وصل الخبرُ بعد قليل إلى الزعيم، وكان جالساً بدَوره وراء مكتب أعماله. مَن تعهد نقل الخبر، كان صبيّ الإسطبل: " طلبَ مني معلّمي أن أسلمك هذه المفاتيح، وأن تطمئن حرمه بكون أمر توقيفه مجرد سوء تفاهم ". تناول الحاج حسن المفاتيح، متسائلاً وهوَ يضيّق عينيه: " ألم يكن حمّاد هناك؟ ". أجاب الصبيّ بنفس النبرة المنفعلة: " ساقوه أيضاً مع الآغا، ولكنه لحقَ أن يدفع علي باتجاه الغيضة قبل أن يراه الجنود. كذلك اعتقلوا حمّوكي، وكان في طريقه إلى البستان "
" لا حول ولا قوة إلا بالله. لن تخبر أحداً بمكان علي، أليسَ كذلك؟ "، قال الحاج للغلام ثم استدركَ: " عليك يا بني العودة إليه، كي تفتح له بابَ الإسطبل. الليلة باردة، والجنود لن يعودوا مرة أخرى ". تناول الصبيّ رزمة المفاتيح، فاستل أحدها، وما عتمَ أن أسرعَ بالخروج من المضافة.
إبان وجود الزعيم في المضافة، وبينما كان يتداول مع نفسه كيفية تنفيذ وصية قريبه المعتقل، دخل ابنه سليمان: " دعوتني، أبتاه؟ "
" نعم. من صباح الغد عليك إدارة محل الماشية، العائد لعمك عليكي آغا الكبير، وإلى حين عودته بالسلامة "
" وعملي عند عمر آغا، ماذا بشأنه؟ "
" سأجعل موسي يدبّر الأمرَ، دونَ أن يُزعَج خاطرُ الآغا "، رد الأب بنبرة يغلب عليها التهكّم. لم يكن يقدّرُ ذلك الرجل، برغم أن أياً من ابنيه لم يتشكَّ من معاملته. كذلك ما قلل عمر آغا، مرةً قط، من احترام الزعيم: مأخذه عليه، هوَ نظرته الأقرب إلى الاحتقار لأبناء جلدته من سكان القسم الشرقيّ من الحي، بسبب تمسكهم بلباسهم التقليديّ ولغتهم القومية.

***
عقبَ ذهاب ابنه، أخرج الزعيم ساعته ونظر فيها. كان ثمة وقتٌ بعدُ لاجتماع مجلس الحي. قام من خلف الطاولة، المحتفية بجهاز التليفون، ليتوجه إلى داخل الدار. ذلك الجهاز، كان ما يفتأ يثير رعبَ المراجعين حينما يصدر رنيناً ثم يقوم هوَ برفع السماعة ويبدأ في التكلم مع نفسه ـ كما كان يظن أغلب أولئك الناس.
سارة، كانت في حجرة الجلوس تتكلم مع ابنتها الكبيرة، المتكوّر بطنها بالأشهر الأخيرة للحمل. التقط بضع كلمات من حديثهما، الموحي بوصول خبر الاعتقالات الجديدة في هذا اليوم. لذلك دخل مباشرة في الموضوع، موجهاً الكلام لامرأته، " لسوء حظ حمّوكي، أنه كان أيضاً في طريقه إلى مناوبته الليلية في البستان حينَ وقع بيد الجندرمة. عليك أولاً بمقابلة السيدة نورا، لتقنع زوجةَ حمّاد بوضع ابنتيّ حمّوكي في رعايتها "
" ها هَوْ..! إن عيشو لا تطيق ابنَ زوجها، فكيف ستهتم بابنتيّ شقيقته؟ "، نطقتها سارة بنبرة بين الأسف والسخرية. تفطن الحاج برغم قولها إلى أنها ستنفذ طلبه، فانتقل إلى موضوع آخر: " بخصوص المسكينة زوجة عليكي آغا الكبير، لا خوف عليها طالما أن سير العمل في تجارته لن يتغير كما أتمنى، فضلاً عن أن أهلها وأقاربها على مقربة منها ".

***
اكتمل عدد أعضاء مجلس الحي وفي مقدمتهم الشيخ البوطاني، إمام مسجد سعيد باشا. في الأثناء، تواردت أنباء اعتقال المزيد من الرجال وغالبيتهم تقترب أعمارهم من الخمسين. أعضاء المجلس، كانوا ثلاثة رجال إضافة لشيخ المسجد. الحاكم العسكريّ لم يكتفِ باستثناء الثلاثة من السوق للحرب، بأعمارهم المراوحة على حد الأربعين، بل وتكرّم أيضاً على أولادهم بتجاهل وجودهم. مع ذلك، علّقَ الزعيم على الاعتقالات الجديدة بالقول: " هذا الحاكم الشديد القسوة، ذكّرني بما كان المرحوم والدي يذكره عن فؤاد باشا، وكان الباب العالي عينه للتحقيق في حوادث طوشة الشام ". كان يعني جمال باشا، القطب الثالث في قيادة الاتحاديين، المهيمنين على مقدرات السلطنة عقبَ ثورة الدستور، وكانوا قد وجهوه إلى سورية مع بداية الحرب بالنظر إلى أهميتها الإستراتيجية.
" أنا أيضاً أتذكّر تلك الأيام، ولكن ما كان ثمة شكوى من ناحية الأمور المعيشية "، علّقَ شيخ الجامع وكان أسنّ من الزعيم بنحو عشرة أعوام. هذا الأخير، هز رأسه موافقاً فيما كان ينحني على المقرأ، المنتصب أمامه على طاولة العمل. كان ثمة أمر رسميّ، وصله في ذلك النهار، وما لبثَ أن تلاه على مسمع الأعضاء. غبَّ انتهائه من القراءة، داعب لحيته البيضاء بعصبية ثم سأل الحضور: " ما رأيكم بالأمر الجديد؟ ". واستأنفَ، كمن يُبدي أولاً وجهة نظره: " الحاكم العسكريّ، مثلما سمعتم، يفرض حكم الموت على أيّ شخص يتخلف عن الجندية، ويطالب زعماء الأحياء بتقديم لائحة بأسماء الهاربين ممن أعمارهم بين الثامنة عشرة والثامنة والثلاثين. أي أن علينا أن نعمل مثل جهاز الخفيّة، الذي ادعوا أنهم ثاروا على عبد الحميد لتخليص الخلق من شروره ".
أضحت ملامح الزعيم أكثر صرامة، كما لحظ أولئك الرجال الأربعة، الذين نقل بصره في ملامحهم. قال مقترحاً طريقة الخلاص من المأزق، " لن نتمكن، بالطبع، من عصيان الأمر العرفي، لكن في وسعنا الالتفاف عليه: سنقدم أسماءَ بعض أشقياء الحارة، ممن لا رجاء في إصلاحهم. وأكثرهم، على أي حال، مختفٍ عن وجه العدالة إن كان في كهوف الجبل أو في الغوطة والريف. ما رأيكم، أيها الأخوة؟ ". نظر الأربعة إلى بعضهم البعض، وهم يهزون رؤوسهم علامة على تحبيذ الاقتراح: في حقيقة الحال، أنه دأبوا على قبول ما يعرضه الزعيم عليهم دونَ مناقشة تقريباً، نظراً لوظيفته ومكانته كعالم دين. الصفة الأخيرة، كان الحاج حسن يغض النظرَ عنها في حضور شيخ المسجد وذلك توقيراً له.

***
نظرة الحاج حسن كانت بمحلها، فيما تعلق بهمّة امرأته. كان من نتيجة ذلك، أن رد السيدة نورا اتسمَ بالإيجابية. وهذا ما عوّل عليه الحاج، لإدراكه مدى تأثيرها على ابنة عمها. كذلك كان على علم بأنها لم تعد تهاب الزوج، برغم فقدانها السند بوفاة والدها: كانت الوريثة الوحيدة لمحمد آغا، الذي سبقَ أن ترك جانباً من التركة لشقيقتها الكبرى، الراحلة، في حياتها.
ما ظنّه عليكي آغا الكبير سوءَ فهم، تحوّل إلى كابوسٍ مقيم. ولم تنفع مراجعة الزعيم من أجل إعفاء قريبه من التجنيد؛ هوَ المقترب سنّه من الخمسين، علاوة على كونه المعيل الوحيد لأسرته. في تالي الأيام، تفكّر الزعيم في سخرية القدَر: كان الرجلُ متلهفاً على وصول رسالته إلى مازيداغ، التي تحث أخاه الوحيد على العودة إلى الشام، وإذا به يُساق إلى تلك الجهة نفسها؛ أين تقع على مقربة منها جبهةُ الحرب مع الروس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ