الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر نزيه أبو عفش والبحث عن الجمال المفقود

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 6 / 1
الادب والفن


الشّاعر نزيه أبو عفش
والبحثُ عن الجمالِ المفقود
" مدخلٌ نظريٌّ إلى التجربة الشّعريّة "


اختار " نزيه أبو عفش " منذ البداية أن يكون المتطلّع باستمرارٍ إلى القيامة . فهو المشبع برؤيا البشارة والخلاص والإخصاب ، وهو الذي كان يرى " الشّمس خلف العتبة " . كما كان يحلمُ بالولادة مع حمامة الثورة . من أجل هذا كان يبشّرُ الأرض بحدّ السّيف ، كما يقول منذ بداياته .
وما اختاره " نزيه " كان من جرّاء إدراك فحوى العلاقة بينه – كشاعرٍ – وبين العالم. هذه العلاقة التي أمضى نزيه عقوداً من عمره الشعري والرُّوحيِّ في تأسيسها وتنميتها ودَفْعِها إلى الأمامِ محافظاً عليها، محصِّناً إيَّاها من عينِ الحسودِ، وهراوة القمع، وقُبح العالم. هي علاقةٌ أساسُها وعيُ الكون واكتشاف هشاشته وقوّته في آنٍ واحدٍ معاً. هشاشته المتجلّية في هذا الكمّ من الاستسلام للحروبِ والمجازر والظّلم، وقوّته المستمدّة من وجود الشعر في صُلْب هذا الكون.
إن الهشاشة والقوّة هنا أمرانِ متنافران بقدر ما هما متآلفان متعايشان معاً في علاقة صراعٍ لا تنتهي. ومهمّة المبدع الحقيقيّ رصد وإضاءة وإدارةُ هذه العلاقة بوعي وحساسيّةٍ وحدوسٍ نبويّةٍ.
وإذا كان هذا هو عمل أيّ شاعر على الإطلاق ، فلنشهد أن نزيه من الشعراء القلائل الذين أخلصوا لمعاينة هذه العلاقة بكل تعقيدها ونتائجها ، بل لقد جعلها شغله الشاغل في الشّعر وغير الشعر ، ممّا يعني أنه تماهى مع دوره إلى حدود قُصوى ، لم يعد معها الأمر مجرّد معاناةٍ من أجل اصطياد مواضيع للشعر ، بل أخذ هذا الأمر عنده صفةَ الشأن الشَّخصي والاجتماعي والنَّفسي . باختصار : صار الأمر نفسه هو نزيه أبو عفش . وهذا ما يبّرر لنا التَّركيز على من هو الأميز بين شعرائنا في استقصاء الثنائي المذكور آنفاً ( هشاشة الكون ، وقوّته ) .
فهو إن لم يكن تماسّاً مباشراً مع جسد وروح وفكر الشاعر ، لا أهمية لحديث الشاعر عنه ، إذ سيصبح الأمر محض ادّعاء . ولا أحد يبّرر لأي شاعرٍ أن يتحّول الكونُ ومعاناتُه واكتشاف متناقضاته إلى مجرد حديثٍ عابرٍ ومن خارج اللَّحظة . لهذا غالباً ما نقرأ شعراً مكتوباً بحساسيّةٍ جامدة لا تمتّ بصلة قربى إلى سيكولوجيا الشاعر ، بما تحتمل من صفاتٍ خاصّة تنفرد بها نفسيّةُ الشاعر. من توتّرٍ حادّ ونزقٍ واصطدام بثوابت الحياة ومعطياتها ، انفعال بالكون وخوائه وحروبه ولا عدالته . إن كثيراً من شعرنا منسجمٌ مع هذا الكون ، وهو مكتوبٌ على ضوء القمر الذي يزيّنُ الأشياء بنوره الفضّيّ . !
إن نزيه أبو عفش لا يعجبُه كونٌ هذا شأنُه ، ولا ينسجم مع أرضٍ صارت ، لا جنّةً تجري من تحتِها الأنهار ، بل جحيماً تجري من تحتها الويلات والمؤامرات والظّلم والظّلامُ والفقرُ والجوعُ . وهو لم يكتب شعراً لهذا الكون وهو متّكئٌ على السَّهر الجميل ولا الشّرفة اللازورديّة ، بل كتبَ شعرَهُ وهو يستلُّ من أعصابه المتوتّرة المرتطمة أبداً بمحيطها وبيئتها ، عصباً خاصّاً بالشعر وحده ، عصباً لا يرضى أن يهدأ ويستقرّ حتّى الرّمق الأخير ، لأن ما يتحسَّسه هذا العصب هو أمرٌ فظيعٌ لا يُحتَمَلُ . فقد طغت كميةُ الضّعف على القوّة ، وغلبت آلةُ الضَّعف آلةَ القوّة . أي أنَّ خضوع الكون للّظلم وانتشار مشيئة الحرب فيه – وهذا موضع ضعف الكون – تغلّب على الجانب الشعري – وهو القوّة الحقيقيّة التي يرجى للكون أن يتمسّك بها ويتّخذها محرّكاً لسيرورته الجوهريّة . ولابدّ للشاعر من أن يُصغي لهذا العويلِ المنبعث من خلايا العالم وقوانينه ، بكل ما يعنيه ذلك من جرأةٍ في إدانة من يستحقّون الإدانة أيّاً كان موقعهم ، خاصّة قضاة هذا الكون وسدنتُهُ الأنيقون ، حرّاس وصاياه وأفكاره . وقد استطاع نزيه بذلك تقديم مثالٍ حيٍّ على أنَّ الكونَ لا يكونُ جميلاً بفعل ادّعائنا أنه كذلك ، بل بفضحنا لبشاعتِهِ وتذكيرهِ بأنَّهُ صار لا يُطاق ، لعلّه بعد ذلك يفطن إلى جماله المفقود .
جمال مفقودٌ ؟ هذا هو مفتاحٌ أهمّ من مفاتيح فهمنا لشعر نزيه ، وهو في الوقت نفسه السَّبَبُ المباشر لهذا اليأس الغامر فيما يكتُبه الشاعر . هو الجمال الذي من المفترض أن يكون المعنى الأوّل للكون ، والإنسان ، ولكن الشاعر يكتشف أنّ الكون أضاع جمالَهُ . وهل بعد هذا سببٌ عظيمٌ لليأس لدى شاعرٍ مثل نزيه ؟ . نستطيع استخلاص رحيق اليأس من شعر نزيه بجدارة . لأنه كتب معظم هذا الشعر تحت تأثير صدمته بالعالم ، ممّا حّول زمنَهُ في قلب هذا العالم إلى ساعةِ موتٍ مستمرّة تتجدَّد عَبْرَ السَّنوات . وفي هذه الساعة التي هي خارج زمن الوقت الفيزيولوجي، كتب نزيه ما رآه من خللٍ بين كفّتي الجمال والقُبح في جسدِ العالم.
أعود فأحدّد: منذ عقود ثلاث يحيا الشاعر نزيه ساعةَ الموت بكلّ أبعادها العربيّة والكونيّة، الروحيّة والمادّية، ساعة طال أمُدها ولم تنته بعد. ومن أجل أن يخفّف من أمدها، من أجل تقصيرها والاحتيال عليها ، كتب نزيه الشعر. كتبَ شعراً ليمارس الَّلعب على معنى الموت، ولينبِّهَ الإنسان – أخاه الإنسان – إلى ضرورة التّوقّف مليّاً عند السؤال الأبديّ: من أنا في هذه السَّاعةِ من الموت؟. ما جدوى وجودي وفحواه؟ وإلى أين يأخذني بقائي على قيد الموتِ ؟ .
شعر نزيه يقيم احتفالاً عميقاً للرّوح اليأس، الباحث عن الحب والجمال والحقّ والخير. الباحث عن جوابِ العدلِ والأغنية والوردة والجسد والطفل ، لكنَّه احتفالٌ تعلو فيه موسيقى فقدان كلّ هذه الأشياء. لأن الشاعر فشل في العثور عليها لأنها قيمٌ جماليةٌ وأفكارٌ حقيقيّة لا يحتملُ ليلُ العالم وجودها . لكنَّها القيم ذاتُها التي لا يحتمل الشاعر غيابها . من هنا نفهم حجم الإحباط والفشل الذي يمتّد على طول الخطّ الشعري لنزيه أبو عفش . ولابأس أن نستأنس هنا بفقرةٍ من نصٍّ فكريّ – فلسفيّ أنتَجَهُ ( مطاع صفدي ) عبر مجلّته (الفكر العربي المعاصر)*، حيث يقول مطاع:
" فَرَحُ الفكرة هو فرح الحب . وهو كلُّ الصّواب الذي يجعلني أتعشّقها . أمَّا اليأس فهو فشلُ الفكرة ، عجزُها عن ملامسة الحقيقة . وعند ذلك ليس أتعس من العيش مع الأفكار المغلوطة، مع أشباه الحقائق المشوّهة، مع أكاذيب الجماعة كحقائق حياتها اليومية . ويبلغ اليأس درجةَ الهاوية من الإحباط عندما تفرض على الناس الأكاذيب الكبرى باعتبارها الصّواب في عينِهِ. فما يدفع إلى الثورة هو رفضُ الكذب العامّ ، هو الخروج على سُلطة الخطأ ".
ما يدفعني لاستعارة هذه الفقرة من نصٍّ فلسفيُّ هو ما وجدتُهُ فيها من معنى عميقٍ لمفهوم اليأس ببُعدِه الفكريِّ ، اليأس الذي لا مهرب للقارئ من الإحساس به وهو يتحرّك في قصائد نزيه الذي يدفَعُهُ الكذبُ العالميُّ ، وفَشَلُ الأفكار وأشباه الحقائق ، إلى أن يجعل من يأسه القوّةَ الوحيدةَ التي يقدر على ادّعائها . لكنَّهُ لا يأس الجاهل ، بل يأسُ من يسمع من الجهة الأخرى لليأس إيقاعَ الوجود الحقّ الذي يدافع عنه الشاعر وييأس من أجله وله. ومنذ فتوّته قال نزيه :
" لا اعترافاتي أفادتني
ولا أرديةُ الرّهبانِ في الكفِّ النَّظيفَهْ
فاشهدي يا فئةَ الموتى على يأسي "
هذا يعني أنّ الشاعر مستغرقٌ منذ اللحظة الأولى في اليأس .
يقفُ الشَّاعر أمام قُضاة الكون وجلاّديه ، ومن يعطون أنفسهم حقّ إدانة بني الإنسان وفرزهم إلى الجنة أو الجحيم، فيرفض الجميعَ ، وعلى طول الخطّ ، يرفض إرادة الكهنوت واللاَّهوت بمعناهما الشامل ، وليس المؤطّر بصيغةٍ دينيّةٍ فقط، رفضهما معاً عندما اندمجا بكهنوتٍ ولاهوتٍ سياسيَّيْنِ يفتّشان في أرواح الناس والمنفيّين عن الملكوت الرّسميّ ، عن أحلامهم وهواجسهم , وكان رفضُه حادّاً لا يهادن فيه أحداً . ولكنّه لم يستعر لإدانته لغةً خارجيّة وأدوات من خارج مقتضيات الموقف ، بل أعلن دخوله على طريقته في منطقة الرّمز اليسوعيّ الشّامل ، وتماهي مع دلالة المعنى الذي يكتنزه رمزُ " المسيح " ، وذلك من أجل تحديد المواقع بشكل واضح ، لا مجال فيه لأحدٍ لأن يُزاود على الشاعر . بمعنى أنّ نزيه احتضن " المسيح " من جوهره العادل النَّبيل النّورانيّ ، وأضاء أعماقَهُ به ، ليواجه به أولئك الذين يتخذون " المسيح " نفسه قناعاً خارجيّاً يسوّغون من ورائه ظلم الإنسان ، باسم عدالته ، ويصدّرون الحروب إلى أقطار الأرض باسم مشيئتِه ، ويدينون الكائنات من وراء مكاتبهم وأروقة جلالتهم البهيّة . قال لهم الشاعر ما قاله " كازانتزاكي " في علاقته مع جوهر الرُّؤيا المسيحيّة الشّفّافة . قال لهم هذا هو المسيحُ الصَّغيرُ ، أستعيدُ معناه الأوّل ، أستردّه منكم ومن أرديتكم السَّوداء ، لأدافع عنه ، لأن دفاعي عنه يعني دفاعاً عن حرية بني الإنسان .
رؤيا نزيه إذاً فيها جانبٌ بعيدٌ من الرؤيا المسيحيَّة الَّتي تتصوّر الأرضَ بلا حروبٍ . وهو يرى بعينِ نبيٍّ أعزل ، فتتّحد عين الشاعر بعين النّبيّ فيهِ في لحظةٍ واحدة تُعاني وتعاين العالم الذّاهب إلى نهايتِهِ . وقد تُصبح رؤياه من شدّة تحديقه في الخراب ، رؤيا عدميّةً . فهو يعرف إلى أين يمضي هذا العالم ، ويعرف مصيره الشّخصيَّ كذلك ، ولا يملك تغيير لا هذا ولا ذاك . ومع ذلك يصرّ – بإرادة الشاعر – على الاستمرار في الموقف ، وعدم التَّخلِّي عن أيّ موقع نظيفٍ اختارَهُ ، حتّى ولو دفع دمَهُ على خشب الصليب ثمناً لذلك . فهو كشاعرٍ – والشاعر الحقيقيّ يتخيَّلُ العالم فيما بعد على هواه يحلم أن موتَهُ كرمزٍ سيحقّقُ قيامةً ما . ولكن أعتقد أنّ نزيه يدركُ أن موتَهُ ذلكَ لا يعني عودةَ النّظام إلى عناصر الكون ، ولا انتشار الجمال فيها ، بل إن ذلك سيبقى على حاله ، وسوف يستغلُّ القُضاة نهاية الشاعر كما استغلّوا نهايةَ النّبيّ ، ويستثمرونها لصالحهم ، وذلك ضمن توظيفٍ أيديولوجيٍّ يلوون من خلاله عنُقَ " الفداء " المسيحيّ لصالح تكريس أوضاع اجتماعية وسياسيّةٍ يعتاشون عليها ...
يقول نزيه :
" جاء دوري الآن لألبس هيئة مسيحٍ حقيقيٍّ يتوهِّمُ أنّه يصارع نيابةً عن خليقةٍ بأكملها ، عن جنس مرذولٍ بأكمله يوشكُ أن يؤول إلى دخان ، في زمنٍ أقصر ممَّا يلزم لانطلاق رصاصةٍ ضغط زنادها للتّوّ " .
وفي إحدى قصائده " النَّشيد المكّيّ " ينوس الشاعر بين لحظتي " المسيح " و " الّلامسيح " في جدل النَّفي والإثبات ، بحيث تؤكّد كلّ لحظةٍ وجودَ الأخرى على أنه ضرورة من أجلها هي ! .
فبقدر ما يمتلئ الشَّاعر بالمسيح ، يريد أن يَفْرَغَ مِنْهُ ويعود إلى واقع خارج المجاز الرُّؤيويّ ، ليُسْقِطَ عن كاهله تبعات الشقاء التي يفرضها رمز المسيح . فمن حقّ الشَّاعر أَنْ يكونَ لَهُ مسيحُه الآخر ليخلِّصَهُ ، لا أن يكون هو تلك الضَّحيّة . . . ثم يعود فيشكِّلُ علاقةً جديدةً يكون فيها هو المسيح ، ليقوم بدوره الفدائيّ ، التّطهيريّ ، وهو نفسُه الدور الذي يلتصقُ بوظيفة الشاعر . وإذا وضعنا في الاعتبار بعض القراءات الّلاهوتيَّة التي ترى في جسد المسيح تجسيداً لـ ( الّلوغوس ) الذي يعني الإيمانُ به ومشاركتُه تعبيراً عن الحياة والوجود ، فإنَّنا ندركُ سبباً غير مباشر لتماهي الشاعر بالمسيح من حيث هو دعوةٌ إلى التّعلّق بالحياة والتّجدّد والدّائم، عبر موتِهِ وقيامته... والتَّفصيل في مثل هذا الموضوع يُفضي بنا إلى عقد مقارنة بين مفاهيم ( المسيح ) لاهوتيّاً وشعريّاً ، وهذا عملٌ يطول أكثر مما نتوقَّعُ .
ونزيه مع كل استبصاره للكارثة الإنسانيَّة ، يملكُ قُدرةً على احتضانِ العالم داخلَهُ، لاستيعاب كائناته بحنانٍ عالٍ، ولم لا ؟ فهو مبعوثُ ملكوت الحق والخير والجمال إليهم ، ليس المبعوثَ المتعالي عنهم ولا المنفصل عن ضروراتهم وانتماءات قلوبهم وشروط فقرهم ، بل هو منهم/إليهم . لا يدّعي امتلاك مستقبلٍ لهم ، لكي لا يخدعهم ، كل ما يملكهُ أن يقدّم لهم دمه وخبزَه ، ويودّعهم على أمل أن يتعلّموا من أمثولتِهِ الكبرى . وسوف يتحوّل الشاعر في وجدان البشر إلى رمزٍ يضيفونه إلى ثروتهم الرمزيّة الَّتي يملكونها في لا وعيهم عبر الأجيال ، رمزٍ حرّك مخيّلتهم كما يحرّكها رمز النّبيِّ المخلّص ... وهكذا يأخذ مفهوم الشاعر مكانَهُ الحقيقي في المخيّلة البشرية إلى جانب القدِّيسين والشهداء والمطوّبين ! ... فالشاعر عند نزيه يموتُ – عندما يموتُ – كأنَّه نيزكٌ بعد أن يكون أدّى الأمانة وصنع كلمةَ " الإنسان " !.
أخيراً ، لابدّ للمتحدث عن شعر نزيه أن يلّخص بعضاً ممَّا يراه سماتٍ فنيّة جمالية في شعره ، هذا إذا لم نعتبر جماليّات الموضوعات السّابقة جزءاً من جماليات النَّصّ النَّزيه! الذي لا وقت عنده للتّفريق بين قوله وشكل هذا القول .
القارئ في أعمال نزيه بعد هذه السنوات ، وبعد هذه العناوين المختلفة من " الوجه الذي لا يغيب " حتى " ما يشبه كلاماً أخيراً " سيكتشف بعين النّاقد طاقةً شعريّةً قادرةً على تجديد ذاتها والصّعود في وتيرةٍ هدفُها التّطور والتَّقدّم ، وهو تطوّرٌ تجري أمورُه بعفويَةٍ ، وعلى نارٍ هادئةٍ ، بحيث أن نزيه ليس صاحب ادّعاءات في تحديث القصيدة ، مع أنه ينجز دائماً هذا التَّحديث بوضوحٍ ، لكن يليقُ بكل مرحلةٍ يحياها حتّى آخر نفسٍ فيها .
كتب نزيه قصيدة إيقاع التفعيلة ، إلى جانب إيقاع قصيدة النَّثر وتأثّر في نثره بمناخات القصيدة اليوميّةِ ذاتِ العلاقة مع الأشياء والعناصر الحياتيّة الوقائعيَّة . خاصّة في فترة السَّبعينات ، فكانت هذه القصيدة تشكّل نظامها خارج حاجاتِ الإيقاع العربيّ بما يطلبُهُ من انتظام وحدودٍ ، وتعتمدُ على الوضوح المتعمَّد ، والهروب من أداء المخيّلةِ ، واستحقاقات الصّورة الشّعريّة . من جانبٍ آخر كانت قصيدة التّفعيلة تعمل وفق حاجة الشعر الحقيقيّ ، وكان ثمة فروقٌ واضحة بين الشَّكلين لصالح هذه الأخيرة ( التّفعيلة ) . وكأنّ الشاعر كان يريد أن يُعطي كل شكل حقَّهُ ، مستثيراً لكلِّ شكلٍ تقنياته وأدواته الخاصّة به . بمعنى أنه كتبَ النَّثَر بما هو نثرٌ ، والشعر بما هو شعرٌ .
لكنّه في أعماله التّالية بعد السبعينات ، تطوّر النَّثرُ باتّجاه الشعر ، والشعر باتجاه تقنيّات النّثر . فأصبحت لغةُ النثر أكثر تكثيفاً واقتصاداً ، وأطلق الشاعر نثره في أفقٍ تخييليٍّ أكسَبَهُ حضوراً داخل الشعر . أمَّا الشّعر فقد تألّق أكثَرَ ، وشفَّ نزيه شفافيةً جارحةً ، وطلع علينا بأعمالٍ شعريّةٍ باهرةٍ ، مكتملةِ البنية ، تحقّقُ أثراً جماليّاً في نفوس المتلّقين ، بما تملكه من مهاراتٍ فنّيةٍ وذكاءٍ في الأداء الشعري العالي ، وهي مهاراتٌ – إضافةً إلى ما حقّقته من تراكم على صعيد تاريخها عند الشاعر – فإنها اغتنت هنا ببعض تقنيّات النَّثر المتقدّم . من سردٍ وحوارٍ ودراميّةٍ في المعالجة وتشويقٍ في التّفاصيل المسرودة بطريقةٍ تأخذُ الأنفاس ، موظّفةٍ لتعميق التَّوتر الشعري الذي يحوز عليه نزيه أبو عفش .
في قصيدة نزيه يبدو التَّشكيلُ، بناءً ولوناً جليّاً، مؤكداً علاقةَ اللّغة بالفنّ التَّشكيلي الذي يمارسه هو مع الكتابة. وأبرز عنصرٍ أدخلَهُ نزيه من التشكيل إلى القصيدة هو كيفية رسم المشهد بمخيّلةٍ مستنفرة، مع درجةٍ عالية من الدّقّة والتَّأني في اختيار العناصر والمفردات والعوالم التي تنشبكُ فيما بينها بعلاقاتٍ مثيرةٍ تمنَحُ كل عنصر ومفردة جماليةَ جديدةً. كما أدخل نزيه عنصر اللون إلى لوحة القصيدة، مستنبطاً من بعض الألوان الرئيسية ما تختزنهُ من موحياتٍ وفاعليّاتٍ تجريديّةٍ تساعد على منح لغة الشعر حركيّةً ودلالاتٍ تمتدّ لتشمَلَ الحسّيَّ والنّفسيّ معاً . وقد كتب نزيه عدداً من قصائده محاوراً فيها جملةً من الفنّانين التَّشكيليِّين استخدم فيها ( الفعل الملوَّن ) إذا جاز التَّعبير ، معتمداً فيها على هاجس التَّشكيل ، لتَقومَ الصّورةُ الّلونية الُّلغويّةُ بمهمّة نقل التّجربة الشعرية . وبذلك كان نزيه يعطي نموذجاً إبداعيّاً على ضرورة زواج الفنون البصريّة من الكتابيّة بهدف إغناءِ لحظة الإبداع بكلّ إمكانيّةٍ محتملةٍ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس


.. ليلى عباس مخرجة الفيلم الفلسطيني في مهرجان الجونة: صورنا قبل




.. بـ«حلق» يرمز للمقاومة.. متضامنون مع القضية الفلسطينية في مهر