الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ربع قرن من العزلة

نبيل ياسين

2006 / 6 / 1
الادب والفن


درجة الحرارة في بغداد فوق الاربعين. في الركن المطل على حديقة الدار هناك برد خفيف فيما رذاذ المطر يتساقط في الخارج, وانا احن لصيف بغداد فالصيف لم يقترب بعدهنا, وما ازال اذكر خريف 1974 الذي كتبت فيه قصيدة مدن موجعة.. خريف موجع, حيث سكون الشمس الدافئة مايزال في احساسي الان وحيث الوان الاشجار بدأت تعطي مسحة من الظل الداخلي والشحوب الاخضر وحيث شوارع المدينة بدأ اسفلتها يعكس غموض ضوء يتقلص بين الشدة والارتخاء, وهو الخريف الذي ظل يرافقني في كل خريف في المدن الغريبة التي عشت فيها وتنقلت بينها, وانا اقاوم خريف الروح , واتتبع خريف الاشجار والوانه, وقبل يوم قلت لتحرير السماوي, جارتنا وصديقتنا ونحن ننظر إلى الفضاء المحيط بالبيت :انظري انه ليس الصيف هنا في لندن , انه مايشبه الخريف: انكسار الضوء ولون الاشجار العميق وسكون الكون المحيط بالاشجار. انه ايلول عراقي بامتياز, ام انه خريف في روحي ؟ دعونا من اوجاع الخريف فواحد من اهم الاخبار التي تاتي من العراق هو الموت. القتل الاهوج الذي لايميز احدا, والعراقيون بدأوا يشكون بمن يحيط بهم. طوال الاف السنة ومن حول العراقيين يستولون على اور وبابل واريدو والوركاء ونينوى والانبار والحيرة, وياخذون كبير الهة الرافدين مردوخ إلى عواصمهم لكي يعبد هناك.ولكي اتجنب شظايا الاخبار, اذهب إلى طفولتي قليلا. اقلب في رفوفها اللقى والتعاويذ والالواح والاضابير والسجلات وبقايا صغيرة متناثرة هنا وهناك؟
كانت سكة حديد غربي بغداد تذهب إلى كربلاء.كانت المحطة مبنية على الطراز الانجليزي : بناية من الطابوق .سياجات خشبية بيضاء ومصاطب خضراء واشجار دفلى. حل محل المحطة معهد لتخريج موظفي الخدمة الخارجية مع علومهم المخابراتية ورواق صدام للفنون بعد ان انهى المحطة كراج علاوي الحلة.
استمتعت في طفولتي بالقطارات . قطار إلى كربلاء. قطار أخر إلى السيد محمد, قطار ثالث إلى بعقوبة, ورابع إلى خانقين , وخامس إلى الحلة, وكان جسر المسيب من اهيب المناظر التي تواجهني حين يعبر عليه القطار, وربما كانت سدة الهندية التي يعبر عليها القطار فقد ظل المشهد حيا في ذاكرتي وربما طمر في زاوية من الذاكرة اسم المكان. لكن ماهو مهيب ذلك الارتفاع الشاهق, ربما كان شاهقا في عصر الطفولة لاغير.
كنا نلعب وراء سكة الحديد, وكان القطار يمر في بعض الايام, كما يمر اليوم في الهند, محملا بالجنود والرجال الذين يجلسون على سطوح العربات او يمسكون بتلابيب الابواب المفتوحة, وكان بعض الجنود يمشي على سطح القطار وهو يمر مسرعا نافثا دخانه الحار الذي كنا نخشى ان يصيبنا اذا ما اقتربنا من قاطرته الاولى.
ظلت القطارات بالنسبة لي حلما حتى تحولت إلى كابوس وانا اقف في معابر الحدود بجوازي العراقي الذي اضطررت لتوزيره بعد نفاد مدته.كان شرطة الحدود يتصلون بالعواصم للتاكد من صحة الجواز, فيما يقف القطار تحت الثلج في درجات حرارة تصل إلى عشرين تحت الصفر.لم تعد للقطارات متعة, ولم يعد للسفر متعة, فكل سفرة تبدأ او تنتهي بعذاب الجوازات وتهمة العراقي وتهمة العراقي المعارض حتى كرهت السفر والفيز والمحطات.ولم يبق في ذاكرتي من قطارات الليل سوى زجاج نوافذ العربات منعكسا عليه ضوء القمر. لقد كانت عزلة ربع قرن انسحبت من القطارات والطائرات لتبقى في المقاهي او ركن البيت او رفقة مع كتاب او كتابة او قصيدة حتى كففت عن كسب الاصدقاء واكتفيت بالعدد الهائل من الاعداء منذ وقت مبكر. فبعد رحلة شاقة لاثني عشر يوما عبر اوربا بالقطارات والسيارات والجبال والانهاروالمنعطفات والغابات والسهوب والمقاهي على الطرق الريفية الطويلة وتحت الامطار ونوم على الحدود في ظلام الليل قرب الذئاب والضواري وصلت إلى بيروت نهاية عام 1980 لاكتب قصيدة
:
!يالحياة المنفى ياناظم حكمت

أعدُّ لزهرة حبي
سلالم َ من حجرٍ
ومرثيةً
وشوارع َ ضيقة ً
اقود خطاها البطيئة َ عبر العواصم ِ ,
اوقفها في المحطات ِ,
اسألها : اين ارض العراق ِ..
فتذبل
لمن كان هذا السفر؟
اقولُ, ونمضي معا
ثم نعبر ُ بين العواصم ِ,
نعبر ُ بين المحطات ِ,
نلمح عبر زجاج ِ القطارات ِ ضوء القمر
اعدُّ لزهرة ِ حبي
مكانا بقربي
ونمضي معا عبر منفى ومنفى
فمنفى له سعةُ الارض ِ ,
ضيقة ٌ بابٌهٌ
ومنفى بقلبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??