الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تعمل الرقابة؟

ماهر عبد الرحمن
باحث وكاتب مصري

(Maher Abdelrahman)

2020 / 1 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


في رواية جورج أورويل 1984 يتخيل الكاتب أن هناك، في دولة ما، أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، أحد هذه الوزارات هي وزارة "الحقيقة" وهي "تختص بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة" وكانت وظيفة "ونستون" الشخصية الرئيسية لهذه الرواية، في وزارة الحقيقة، هي مراجعة كل المطبوعات وإعادة صياغتها بما يتوافق مع ما يراه الحزب الحاكم "فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب." هكذا تعمل السلطة على ضبط المجتمع ومراقبة سلوك الأفراد فيه، فهي تتحكم وتمارس سلطتها ورقابتها على الأفراد ليس فقط بالعنف والقمع المباشر ضد أي خروج عليها وعلى قيمها وأخلاقها السائدة ولكن، أيضا، من خلال إنتاج المعرفة وإعادة صياغتها دائما بما يتوافق مع مصلحتها واستمرار سلطتها. من هنا تبدو أهمية التعرف على الرقابة كآلية من آليات السلطة الحاكمة في أي مجتمع. وإذا كان جورج أوريل قد تخيل مجتمع ما شمولي إلى هذا الحد ويقوم بالرقابة على أفراده وعقاب من يخرج علي قوانينه، فإن الواقع يقدم لنا الآن مجتمعاً عالمياً أكثر تقدماً يستطيع عن طريق الأقمار الصناعية وشبكات الانترنت ووسائل القياس الأخرى أن يقوم بالرقابة على تحركات الدول والشعوب نفسها‏، بل ويسعى لتغيير قيمها واتجاهاتها بما يتوافق أيضا مع مصالحه‏ واستمرار وجوده وتلك حكاية أخرى على كل حال.‏
إن قصة الرقابة وكيفية عملها بفاعلية هي قصة مشوقة ضمن قصة أكبر لعمل السلطة الحديثة كتبها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في أكثر من دراسة، وبالأساس في عمله المهم "المراقبة والعقاب". على وجه الإجمال ينتقد فوكو حصيلة عصر التنوير الأوروبي، الذي ترك لنا، بالإضافة إلى الأنوار، القيود، فتحولت السلطة فيه من الملكية الاستبدادية إلى أنظمة حديثة تقوم على تبدل واقتصاد آليات الرقابة والسيطرة. ويذهب إلى أن مؤسسات الدولة الحديثة هي التي تعمل على تكوين الفرد، أو بالأصح على إنتاجه؛ فعملية تكوين الفرد هي عملية حديثة تماماً كإحدى وظائف السلطة، وهي العملية التي يطلق عليها فوكو "الفردنة" بمعنى تميز الفرد كشخص بالنسبة للعناصر الأخرى في العالم، وأيضاً تميز الشخص بالنسبة للأشخاص الآخرين؛ ومن ثم خلق موضوعات للسلطة أسهل في الرقابة والتحكم والسيطرة، ومن ثم يمكن تحليل طبيعة قوة السلطة وآلياتها من خلال تواجدها وتبديها. فالفرد الحديث يتم إنتاجه من خلال الرقابة عليه و تطويعه و إصلاحه. إن الدولة الحديثة هي بالتعريف مشروع للاستعمار اليومي؛ فكل تعامل مع أجهزة ومؤسسات الدولة هو بمثابة إدماج وإعادة خلق وإنتاج للذات الفردية ضمن هذا الكيان الضخم، يحدث هذا في الأسرة، وفي المدارس، وفي السجون، وفي المستشفيات، وفي المصانع، وفي الخدمة العسكرية.. فالذات الحديثة تولد من إجراءات العقاب والرقابة والتطويع والإكراه. وتاريخ ادماج السكان القسري لهذا الكيان الحديث، تاريخ خلق و"فردنة" ما يسمى "مواطن" هو تاريخ طويل من العنف، الحقيقي والرمزي، ضد السكان لصالح قيام المشروع العقلاني الاستعماري المسمى "بالدولة الحديثة". وقد تجاوز ميشيل فوكو النقد الذي كتبه كارل ماركس عن السلطة أو الطبقة الحاكمة، فكانت أطروحة ماركس الأساسية عن استغلال العمال، بينما ذهب فوكو إلى أن الأجساد -قبل أن تكون "عمال"- كانت قد ادمجت من قبل ضمن إطار تنظيمي ورقابي وعقابي. وبالتالي فإن فوكو يقدم لنا السلطة لا باعتبارها طبقة حاكمة في مواجهة طبقات يتم استغلالها، لكن باعتبارها استراتيجية، كيف تتحقق وكيف تظهر وتتبدى في الأفعال. والفرد، على هذا النحو ووفقا لهذا التصور، لا يتم وضعه في مقابل السلطة، ولا في مقابل الحزب أو الأخ الكبير، ولا في مقابل الطبقة الحاكمة، بل باعتباره أحد آثار تلك السلطة، أو نتيجة من نتائجها. وتخلق هذه السلطة معايير السلوك والقيم والأخلاق من خلال ممارسة المراقبة وفرض الالتزامات وتطوير العادات للأفراد موضوع عملها وتبديها. تلك هي ببساطة شديدة قصة السلطة الحديثة وآليات عملها كما يحكيها ميشيل فوكو، وتقوم مرتكزاتها، كما عرضنا، على تقنيات: المراقبة والتوجيه والعقاب حين يتم الخروج عن النص المفروض من قبلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا