الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعلام على الطريقة البولندية واعلام على الطريقة المالوية

هشام القروي
كاتب وشاعر وروائي وباحث في العلوم الاجتماعية

(Hichem Karoui)

2006 / 6 / 3
الصحافة والاعلام


تدخل اليوم جريدة "العرب" سنتها الثلاثين منذ تأسيسها يوم 1 يونيو 1977 في لندن. وتحل بنا هذه الذكرى متشحة بحزن عميق على وفاة المؤسس الحاج أحمد الصالحين الهوني , رحمه الله , يوم 18 ابريل الماضي. ننتهز هذه الذكرى للتذكير بأن الأشخاص يمرون , ويتركون فينا ذكراهم, ويتركون حولنا آثارهم. فتلك سنة الحياة, لا مبدل لها. وقد كان الحاج الهوني رجلا عمل واجتهد, ولكنه ما كان ليحقق ما حققه لو لم يعرف كيف يجتذب اليه الناس, وكيف يجعل فريقا من الصحفيين والتقنيين - ومن لا نراهم من الساسة ورجال الأعمال والدبلوماسيين فضلا عن المؤسسات - يتحمسون لمشروعه ويساندونه. وقد سمعت بنفسي الحاج - رحمه الله - عندما سئل عن كيفية تأسيس "العرب " , يذكر شخصا طيبا - رجل أعمال ليبي - قدم له شيكا بمبلغ كبير, قائلا له : " استعن به لمشروعك, ولا أسألك بعد ذلك سوى دعاء خير".
أيها القراء الأعزاء, الجرائد أيضا كالاشخاص , تولد , وتعيش, وتموت... إذا حان أجلها. غير أن مؤسس هذه الجريدة أراد لها أن تستمر من بعده, ولهذا السبب فقط , لا نزال في خدمتكم. ومن الضروري القول ان ارادة شخص واحد - أيا كانت - لا تكفي لاستمرار المؤسسة التي تنهض بها جماعة كاملة. فلا بد لهذه الجماعة من ضوابط , وقواعد سلوك, وطرق عمل, وهدف مشترك, وعلى أساس كل ذلك يتحقق النجاح.
لقد شاءت الصدفة أن يقع أمام نظري في هذه الآونة, مقال عن الاعلام بقلم تيم كارينغتون ومارك نلسون, من معهد البنك العالمي. فهما يقولان إن قيام وسائل إعلام حرة ونشيطة، تلك التي ارتبطت بكل الديموقراطيات الناجحة منذ زمن طويل، يبدو أن لها نفس الارتباط الوثيق باقتصادات السوق القادرة على النمو، وتكوين فرص للعمل، وخفض مستوى الفقر.
ففي نظرهما أن ارتباط وسائل الإعلام النشيطة بالتقدم الإقتصادي قد فصل المسائل المتعلقة بحرية الوسائل الإعلامية وقابليتها للحياة عن مجال النقاش السياسي البحت. ذلك انه إذا كانت الصحافة المزدهرة تبدو وكأنها تسير يداً بيد مع تحقيق نتائج إقتصادية أفضل , فإنه يترتب على مؤسسات مثل البنك العالمي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، والحالة هذه، أن تبدأ بمساندة قيام وسائل إعلامية كأحد العناصر التي تساهم في التطور الاقتصادي والاجتماعي الأوسع.
وهما يسوقان بعد ذلك مثالين عن الطريقة التي تحل بها بعض وسائل الاعلام مشاكلها التقنية والسياسية والمالية :
الاول من بولندا. فهناك عانت الجريدة اليومية الكبرى، غازيتا فيبورجا، من السنوات المروعة للأحكام العرفية الشيوعية، حيث كانت تُشغّل المطبعة باليد وتناضل من أجل دعم العاملين لديها القابعين في السجون. وأدت الديمقراطية، إضافة إلى إنهاء الرقابة الحكومية الحديدية، وإعادة الترتيب العام للإقتصاد، إلى تغيير جذري في البيئة المحيطة بنشاط وسائل الإعلام. في منتصف التسعينات من القرن الماضي، تمّت خصخصة جريدة غازيتا؛ وأضافت الجريدة الإذاعة، والتلفزيون، والإنترنت إلى أنشطتها؛ وتوجهت إلى القطاع الخاص النامي في بولندا للحصول على الإعلانات. أجرت زوفيا بيدلينسكا، المحررة في إحدى الصحف التي كانت تعاني من المشاكل في ما مضى، ، بعض العمليات الحسابية في إحدى مراحل توسعها واستنتجت أن أسهمها في شركة الوسائل الإعلامية التي اشترتها في أوائل المرحلة الإنتقالية بأسعار تفضيلية، قد ارتفعت قيمتها بصورة هائلة لتبلغ مليونين وثلاثمئة الف دولار أميركي.
غير أن المؤسسات الصحفية لا تتبع دائماً هذا المسار, وهنا نأتي الى المثال الثاني : ففي كانون الثاني/يناير 1999، أطلق أندرسون فومولاني، وهو مراسل مقدام ومُحرّر من مالاوي، صحيفة "بزنس ووتش"، وهي مجلة فصلية مستقلة تغطي التطورات الاقتصادية والأعمال في الدول الإفريقية الجنوبية التي تحولت إلى الديموقراطية مؤخراً . فهو "اقتصد" إذ شغل لديه صحفيّين يمروّن بفترة تدريب ولا يتوقعون الحصول على أجور عالية، هذا إن حصلوا عليها، وعمل دون كلل لاجتذاب الإعلانات من القطاع الخاص في مالاوي. لكن، بعد إصدار أربعة أعداد - لم ينجح أي من هذه الأعداد في كسب أكثر من خمسمئة قارئ دفعوا ثمن الأعداد - توقفّت "بزنس ووتش" عن الصدور. وبدلاً من أن يحسب السيد فومولاني كم ازدادت قيمة أسهمه، ظل بعد مرور سنتين على انهيار مطبوعته يراجع الفواتير. قال شاكياً، "حتى الآن لم أنتهِ من تسديد فواتير الهاتف."
ويجدر بكل ادارة جريدة تعاني من أزمة ما - وما أكثرها - أو من "مرحلة انتقالية", أن تسأل نفسها وتجيب بصدق ودون أوهام ومغالطة ذاتية : هل الطريقة البولندية أفضل أم الطريقة المالوية في ادارة اقتصاد المؤسسة؟
وفي رأينا أنه للوهلة الأولى تبدو الطريقة المالوية أفضل, ففيها اقتصاد كبير للموارد. ولكن التجارب تعلمنا أن الناس لا يشتغلون حقا بحب وتفان إلا إذا كانوا يتوقعون مكافأة جيدة على جهودهم. ودون ذلك, فالعمل يكون "بلا همة ولا قيمة". وهذا ما ساهم في اغراق العديد من المؤسسات التي كانت في وقت ما ناجحة. وأما "الطريقة البولندية", ففيها فعلا عمل جماعي ومعاناة جماعية , تجعل الناس يشعرون بالمساواة, ويوحدون جهودهم من أجل هدف مشترك, وهذا ما يسمح لهم برفع كل أنواع التحديات , السياسية منها والمالية. وهذا هو سر النجاح.
ولا يبقى بعد هذا لمن يجدون أنفسهم يعملون في مؤسسة "مالوية" - وهم موجودون أكثر مما تتصورون في العالم العربي - سوى أن يتمنوا على البنك العالمي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية أن يساهما مساهمة بسيطة في دفع أجورهم المتخلفة أو "المثقوبة".
وليرحم الله الحاج الهوني... فقد كان خير ملجأ لكل من يحتاجه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش