الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوابات امدرمان في القرن التاسع عشر - ذواكر للإجتماع الإنساني وهندسة لعماره الثقافي-

ميرغنى ابشر

2020 / 1 / 31
السياحة والرحلات


تستمد بوابات المدن القديمة وجودها ووظيفتها وهندسة عمارتها تأسيسا من عند وجود الإنسان في المكان وطبيعة علاقته بالأخر . وتتدرج وظيفتها وتتنوع بحسب الطور التاريخي الذي شيدت فيه، ففي طور النمو الاقتصادي وازدهاره، تكون البوابات معبر جباية ورقابة علي الوارد والصادر، وتأخذ مسمياتها من أماكن القوافل والقبائل المتاجرة. وفي فترات انعدام الأمن وتصاعد وتيرة التهديد الخارجي تأخذ الأبواب شكل السكنات العسكرية. ولم تكن مدينة امدرمان في القرن التاسع عشر غير التمثيل الأمثل لهذه القاعدة، فقد كان سورها بمثابة استحكام قصد به الوقاية من الاضطرابات الداخلية والمخاطر الخارجية علي السوا. وكان بها أربع بوابات أشهرها بوابة عبد القيوم من الناحية الجنوبية، وبوابة البحر، وتعرف بالبوابة الكبيرة وبوابة الجمرية، وتقع في الناحية الشمالية الغربية للسور، وأخيرا بوابة الكبجاب في الناحية الشمالية الشرقية من السور. وقد أستلهم الخليفة فكرة السور والبوابات من خلال ما لمسه من الدور الذي لعبته استحكامات وبوابات الخرطوم إبان فترة الحصار ،و تمثل طرز عمارتها خلاصة ثقافات معمارية متعددة. إذ نجد فيها لمسة واضحة للعمارة الكوشية القديمة والعمارة الإسلامية الصوفية. إلا أن هذه البوابات باستثناء بوابة عبد القيوم، اندثرت باضمحلال عمارة امدرمان القديمة ،وانتهاء الأدوار الدفاعيّة والوقائية لهذه الأبواب وسورها الحاضن الذي تجاوزه الزمن بتشييد المدينة الجديدة علي أنقاضه، ودخول المجتمع السوداني مرحلة التمدن الحديث مع الحكم الانجليزي للسودان.
هذا المقال يتناول بوابات مدينة امدرمان في القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ تاريخ ظهورها في العام 1895م في فترة الخليفة (عبد الله التعايشي)(1846-25 نوفمبر 1899م) . يعد هذا المقال الأول في موضوعه،إذ لم يسبق تناول هذه البوابات مجتمعة في أي وثيقة تاريخية أو دراسة علمية رصينة،أو حتي مقال صحفي،وتتفرد فقط البوابة الجنوبية لسور امدرمان والتي عرفت في المدونات التاريخية ب(بوابة عبد القيوم) بحيز مقدر من التناول، إلا انه تناول يفتقر للعلمية وذلك لأحادية مصادره وعموميته وغلبة الرأي الخاص فيه.
كانت أبواب امدرمان تُغلق مساء بعد صلاة العشاء وتفتح مع صلاة الفجر، ويعود السبب في ذلك إلى رغبة الخليفة في تنظيم الدخول للمدينة والخروج منها. فقد يكون هنالك غرباء وجواسيس أو مجرمون ولصوص يهدّدون السلامة العامة للسكان، وأيضا لمراقبة ما ينفذ إلى المدينة من سلع بعضه يحجّر دخوله للمدينة كالتنباك والتبغ، فقد كانت امدرمان المدينة التجارية الأولي في عصر المهدية.
( بوابة عبد القيوم): من المعالم والآثار التي تنماز بها مدينة امدرمان، وتقف البوابة ذاكرة شاهدة لحياة مدنية وعسكرية زاهرة عاشتها المدينة، وتقع البوابة في منتصف الشارع الذي يفصل حي الملازمين عن حي الموردة شرق من الناحية الجنوبية، وبالرغم من قدم البوابة وعراقتها التي عاصرة الدولة المهدية(1885-1899م)، إلا أن الكثير الذي يقال عنها يجانبه الصواب. اختلطت عدة طرز معمارية في البوابة ،وقد يرجع ذلك لسبب التأثير حين البناء فالأجواء وقتئذ يسيطر عليها زخم الإسلام وتحديات الوجود التي تستلهم الإرث القديم لبطولات خالدات. كما لعبت الزيادات والترميمات والإصلاحات اللاحقة لها أثرا يسير لا يذكر. وهي تمثل خلاصة ثقافات معمارية متعددة، إذ نجد فيها لمسة واضحة للعمارة الكوشية القديمة تمثلها الأكتاف المائلة ومواد البناء الحجر والطوب وسماكة العرض، فهي تشبه ولحد كبير بوابة بيوت مدينة (حلفاء القديمة) التاريخية التي تتميز بالارش أو القوس.كما ويمثل أيضا الاحدوداب والقوس اعلي البوابة طراز العمارة الإسلامية الصوفية. ونوع الحجر المستخدم في بناء البوابة هو الحجر الرملي النوبي(Nubian sand stone)وبعض من حجر الشست ( (Schist وهو نوع من الصخر المتبلور الذي ينفلق بسهولة . وقد أشرف علي بناء السور وبوابته مهندسان محترفان هما (حامد النور) والخواجة (بترو) وهما المهندسان اللذان توليا بناء منزل الخليفة أيضا . وفي عام 1957 قام رئيس الوزراء حينها (عبد الله بك خليل) بترميمها بمواد حديثة شملت الاسمنت والرمل والحجر المصقول والطوب و عندما صدر قانون الآثار في سنة 1952م صارت محمية تراثية وفق القانون وتمت صيانتها. وفي عام 1994م قام اتّحاد طلاب جامعة القرآن بالتعاون مع هيئة الآثار بكتابة بعض من أسماء الشهداء في معركة كرري على بعض من محيط البوابة إلي الناحية الجنوبية الشرقية من البوابة على حجر من الرخام .
وحول مسمى (بوابة عبد القيوم) تجدنا نقف علي أقوال وأراء متضاربة ومختلفة إذ أن هناك اعتقاد سائد عند البعض أن (عبد القيوم) الذي سميت عليه البوابة هو و أحد من قواد و أمراء المهدية، وسميت البوابة عليه تخليداً لذكراه. ولكن هنالك بعض الروايات الشهيرة بين سكان (حي الموردة) التي تحدثنا أن (عبد القيوم) الذي سميت عليه البوابة كان خفيراً للبوابة في تلك الحقبة من تاريخ المهدية. يقول الباحث (جمال محمد سليمان الخليفة عبدالله التعايشي) ان عبد القيوم الذي سميت بالبوابة باسمه هو أمين سر الخليفة، فبعد معركة (ام دبيكرات)( الجمعة 24 نوفمبر 1899م) اوصي الخليفة (أبّا عبدالقيوم) بالذهاب بولدي الخليفة "يحي"و"السيد علي" الي منطقة (الرماش) والتي تقع شمال شرق (القضارف) بالقرب من جبل "بان" وهي المنطقة التي توفي فيها (ابّا عبد القيوم) في سنة 1935م ودفن مع ولدي الخليفة يحي والسيد علي. واسمه (عبد القيوم محمد أحمد) وهو من قبيلة الرباطاب وقدم مع أهله لمبايعة (المهدي) في (ابو سعد) وقت حصار (الخرطوم). وقبل مقدمه لامدرمان نزل بمدينة الدامر وتزوج من كريمة الشيخ (المجذوب) وله منها ولد حارب واستشهد في واقعة كرري(صبيحة 2 سبتمبر 1898م)وعند مقدمه لمدينة امدرمان تزوج مرة أخري من السيدة (فاطمة بت شواش بت تمام محمد) من قبيلة الشايقية تسكن وأهلها حلفاية الملوك والتي تقع في الضفة الشرقية لنهر النيل قبالة مدينة امدرمان ويقطن احفاده مدينة سنجة وجزء منهم يسكن في مدينة كوستي. وكان عبد القيوم بمثابة حكمدار السرية التي تحرس بوابة امدرمان الجنوبية، والتي أخذت اسمه فيما بعد. كما كانت للسرية راتب شهري يقبض من بيت المال. و كان للبوابة بابا من خشب السنط يفتح ويغلق.
وقد ظلت بوابة عبد القيوم تمارس دورها التنظيمي في حياة سكان امدرمان القديمة وحتى بعد زوال السور من جنباتها وانتهي الحقبة المهدية. ففي سنة 1948م كانت تشاهد الحاجة (الفريع) بت (الشيخ إسحاق حمد النيل) عساكر الانجليز وهــم ينظمون طابور فتح وإغلاق البوابة عند الصباح وفي المساء وفيما يبدو قد لعب هذا الدور الرمزي للبوابة الذي ينظم حياة المدينة الدور الجوهري في بقائها دون سواها من البوابات الاخري للمدينة التي طواها النسيان.
بوابة البحر: تعرف بالبوابة الكبيرة ولها طابية تعرف باسمها وهي تفتح علي الشاطئ الغربي لنهر النيل و تقع في الطرف الشمالي الشرقي لميدان البحيرة (حديقة البحيرة حاليا) وهي البوابة التي تظهر في (لوحة السُقيا) فكرة وتنفيذ الإداري النمساوي جهير السيرة (سلاطين باشا) والتي تصور (الخليفة عبد الله) يمتطي صهوة جوداه الذي يخوض عباب النيل وحوله الدراويش،وسميت البوابة ببوابة البحر لانها تفتح علي ضفة الشرقية للنيل والذي يطلق عليه السودانيون عادة اسم البحر مجازا. ولوقت قريب وقبيل أنشاء حديقة البحيرة كانت هنالك بعض من آثار هذه البوابة قائمة تتمثل في بقايا كتفي البوابة. وقد كانت أكبر البوابات الأربعة في سور امدرمان القديم. وكان مد النيل في وقت الفيضان يصل للبوابة. اما من حيث عمارتها فهي تشبه ولحد كبير بوابة (عبد القيوم) ولا تختلف عنها الا من حيث الحجم والحلية العليا.
بوابة الجمرية:وتقع في الناحية الشمالية الغربية للسور، وموقعها في الوقت الحالي في الطرف الشمالي الغربي في منتصف (مقابر الجمرية). والجمرية هو أسم البنت الكبري للشيخ (دفع الله الغرقان) وأحيانا يطلق علي البوابة أسم (المعفيات) وترجع تسمية المعفيات لمقولة أطلقها (الخليفة عبد الله) وتتحدث الرواية بأنه بعد وفات الأخت ألصغري للجمرية طلب (الخليفة) من الشيخ (الغرقان) أن يدفن بنته بجوار أختها عسي الله أن يجعلهما من المعفيات علي حد تعبير (الخليفة). فسميت المقابر باسم (مقابر الجمرية) أو (المعفيات)، لتسمى البوابة التي شيدت شمال شرق المقابر علي أسم المقبرة .وهي البوابة التي خرج عبرها (السلطان علي دينار) (1856 - 6 نوفمبر 1916) مع قلة من أتباعه عائدا لمدينة الفاشر ليستعيد عرش أجداده بعد واقعة كرري التي هُزمت فيها جيوش المهدية.
شُيدت (بوابة الكبجاب) في الناحية الشمالية الشرقية من السور بميل أكبر لاتجاه الشمال في المنطقة التي تعرف حاليا ب(حي الكبجاب)، وكانت تقع في الحد الفاصل بين (حي أبوروف) و(حي الدباغة) حاليا و(الكبجاب) نسبة لأحد أعيان المنطقة عرف بالفراسة والكرم، أقام في هذه المنطقة في حقبة الدولة المهدية والاسم يتكون من مقطعين:(الكب) و(جاب) وهي عبارة تعني في العامية السودانية الذي يعطي بغير حساب، دليلا علي الكرم - كب:دلق ودفق،جاب:جلب وفي موسوعة "القبائل والأنساب في السودان" الكبجان (بالنون) هم فرع من قبيلة المسلماب نسبة لكبجان ألمسلمي، والكبج هو عجوز الورل في جبال النوبة(عون: ج5، ص1930).وإبدال النون بالباء وارد ،إلا أن الأرجح رواية أهل المنطقة التي تنسب الاسم لأحد أعيان المنطقة. كما وتعرف البوابة بين أهل امدرمان في ذلك الوقت ب(بوابة القوصي) نسبة للسيد (القوصي) الذي عمل بدباغة وصناعة الجلود في مدينة امدرمان إبان الحقبة المهدية.. وهي البوابة التي دخل بها (كتشنر)( (24 يونيو 1850 بأيرلندة - 5 يونيو 1916) متعمدا تحطيمها وهو يحمل العلم الانجليزي بعد واقعة كرري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي