الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رقصة العاشق -قصة قصيرة

أحمد اسماعيل اسماعيل

2006 / 6 / 2
الادب والفن


قلت لها: لن أحضر عرسك، اعفيني من هذا أرجوك، فأنا لن أستطيع رؤيتك وأنت في ثياب الزفاف إلى جانب رجل غيري، هذا ما لا يمكنني تصوره أبداً.
ولكنها ألحت علي بشدة، قالت: أرجوك يا عدنان حقق لي هذه الأمنية، لا تحرمني من سعادة رؤيتك في هذا اليوم أيضاً.
قلت بمرارة:
ستكون سعادة وهمية يا شيرين، وموجعة أيضاً.
قالت:
لابأس، إني راضية بها.
وحضرت العرس، وليتني لم أحضره، ليتني رفضت بإصرار شبيه بإصرارها على حضوري، لكن رغبة قوية في داخلي وافقتها فانسقت خلفها كالأسير.
في العرس كان كل شيء يفيض حيوية وبهجة، صوت المغني والموسيقى الطروب التي ملأت مسامات المكان، المصابيح الملونة المتناثرة في جنبات العرس، عبق التراب الذي رش لتوه بالماء، الوجوه الصغيرة والكبيرة المعجونة القسمات بنفور، والمنسرحة الملامح بجاذبية وملاحة، الأجساد والقامات وقد اكتست بأثواب مختلفة الألوان والأشكال، وهي.. ملاك مجلل بالبياض هبط لتوه من السماء.
ما إن أبصرتها متربعة على كرسيها، حتى وجدتني كالمسحور أحملق فيها، التقت نظراتنا الملهوفة للحظات، فسُرَّت وحزنت معاً، تنهدنا بحسرة.
بغتة، برز وجه رجل في اللوحة التي تحتويها، مط رقبته كالقطة وأسرّ في أذنها بكلمة، ثم ابتسم بتكلف، تنافرت تقاطيعه واختلطت أمام عيني، ارتجت أعصابي وأحسست بالنفور منه.. وسرعان ما سحب الرجل وجهه من اللوحة، وأعاده فوق جسده المحشو في بدلة سوداء، فصفت اللوحة، وأشرق وجهها بابتسامة عذبة، عدت مرة أخرى أطيل التحديق في وجهها الصبوح، ونسيت تماماً وجه الرجل النافر القسمات، وجسده الملتصق بها.
سألتني مرة وأنا أطيل النظر في وجهها:
- ماذا ترى في وجهي حتى تؤخذ به هكذا ؟!
وكمن فقد ذاكرته أجبتها ساهياً :
- لا أدري.
- كيف لا تدري ..؟! سألت باستغراب.
لم أجب، وظللت أتوغل في فضاء عينيها وأنا نهب لمشاعر عصية على الوصف.
بدأت أجساد الراقصين تتمايل وتتثنى على أنغام الموسيقى الطروب، تعلو وتهبط في حركات متسقة ومنسجمة، فاحتجبت عن أنظاري، وبقي وجهها وحده يلوح لي من بين المناكب للحظات، يشرق بابتسامة سريعة تارة، ويلمع بنظرة خاطفة تارة أخرى، كقمر مسافر يتوارى خلف غيوم متناثرة، وعلا صوت المغني، وراح وجهه الأسمر يحتقن من شدة الانفعال، وتمايل جسده على إيقاع الموسيقى، وكأن سرور الدنيا كله قد سكب في قلبه، فشعرت بالحنق نحوه، ووددت أن أقوم إليه فأصفعه صفعة مدوية تشفي غليلي وتطفئ لهيب غيظي، وبالكاد أقصيت هذه الرغبة المجنونة التي استبدت بي وتذكرت سؤالها المعتاد لي كلما كنا نحلم بليلة عرسنا:
- عدنان، مَن مِن الفنانين سيحيي عرسنا،
- ما رأيك بمروان صبري؟
وباندهاش ممزوج بالغيظ كانت ترد:قلت من؟! أعوذ بالله.
- طيب، فليكن الفنان سعيد يوسف.
- ولا هذا أيضاً.
وكنت أختم الحديث الساخن بمزحة:
- إذن، لم يبق أمامنا سوى كاظم الساهر.
وبدلال ترد:
ممكن، أمري لله.
ومعاً نضحك ملء أفواهنا، وحده كان قلبي يبقى منقبضاً لأنه كان يحس بأنني لن أستطيع إقامة أية حفلة عرس مهما تواضعت.
امتدت يد معروفة نحوي، قبضت على كتفي وجذبتني بإصرار إلى حلقة الدبكة، تشابكت أصابعي بأصابع الراقصين، ورحت أتمايل معهم بلا مبالاة وأنا ساهٍ أحدق في وجهها، برقت عيناها بنظرات غريبة وهي تبصرني أرقص، وتراكضت سحب عديدة في سماء وجهها، قالت عيناها لعيني:
- هاأنت ترقص أمامي ؟!
أجابت عيناي:
- ألم أعدك بأن أرقص أمامك ليلة عرسك؟
- لكنك لست العريس؟!
- المهم أنك أنت العروس.
وبخوف وحرج قالت عيناها:
- حقاً أنت مجنون.
فأجابت عيناي بهيام:
- بحبك..
علت الموسيقى صادحة بصخب، وازداد انفعال المغني، واشتد حماس الراقصين، علت أجسادهم وهبطت برشاقة، ومعهم علا جسدي وهبط، تمايلت.. تثنيت بانفعال زائد، فانهار السد الذي كنت قد بنيته طوال سنين في داخلي، وحجزت خلفه مشاعر وأحاسيس عاتية كالأمواج الهائجة، فتدفقت حرة مجنونة بلا قيد، حررت يديَّ من أيادي الراقصين واندفعت نحوها أرقص أمامها كغزال، وكراقصة في معبد إله الحمر العابث، كان جسدي يتمايل برشاقة وعنفوان ونشوة، ولم يخطر ببالي لحظتئذ أن أتساءل من أين جاءتني هذه المقدرة العجيبة على الرقص، وكيف تسنى لجسدي أن يتحرر من صلابته وجموده، كيف؟ وأنا الخجول الذي لم يسبق له أن شارك في دبكة أبداً ..؟!
دنوت منها أكثر، طفت حولها مرات عديدة كفراشة قزحية الألوان، انحنيت لها بخشوع، لمست قدميها الصغيرتين بأطراف أناملي كمتعبد بوذي، نظرت في عينيها الهلعتين بلهفة وألم وهيام.. فبادلتني النظرات ذاتها، مددت يديّ إلى يديها الرقيقتين اللتين طالما تمنيت احتضانهما بكفيّ وتقبيلهما صباح مساء.. وجذبتها نحوي فاستجاب جسدها، ورحت أراقصها بنشوة سكرى، وكحمامتين غادرتا العش في أول صباح ربيعي، حلقنا معاً في سموات صافية زرقاء.
لحظات سعادة معتقة مرت مهرولة ونحن نغوص في لجة السماء. بعدها، وعلى حين غرة، أنَّتْ بتوجع مرٍّ، فجفلت وأنا أبصر وجهها البهي يحتقن ويشحب، وجسدها اللّدن الذي احتضنته للمرة الأولى ينسل من بين يدي كالطيف.. ويتهاوى متلوياً ليسبح في بركة حمراء قانية دوائرها راحت تنداح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي