الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل الرابع/ 4

دلور ميقري

2020 / 2 / 1
الادب والفن


العام الرابع للحرب، كان شتاؤه قاسٍ للغاية، زاد من معاناة الناس، الذين نجوا من المجاعة والأوبئة. الأكثر علماً منهم، أملوا بأنه العام الأخير للحرب بل وربما للسلطنة نفسها. استند هؤلاء على أنباء انتصارات الحلفاء في كل الجبهات، علاوة على الفوضى الضاربة أطنابها. عودة العديد من المحاربين، هرباً من ساحات المعارك، أكّد تلك الأنباء. وبالفعل، وصل عدد منهم إلى الحارة في حالة يُرثى لها، ولاحوا لأقاربهم كما لو أنهم كبروا عشرين عاماً. هذا دفع زوجة عليكي آغا الكبير إلى الزعم أن بمقدورها معرفة مصير أيّ مجند، باستعمال بلورة من الكريستال قالت أنها تصوّر مكانه المطلوب. البلورة، كانت قطعة من ثريا، وصلت بطريقةٍ ما ليد صديقة النجوم. تناهى إليها سخرية إحدى النسوة، التي قالت: " أليسَ من الأولى أن تطمئن على مصير زوجها؟ ". ردّت بالتأكيد، على قرب وصول عليكي آغا الكبير سالماً معافى. لكن موجة برد قارص، تبعها تساقط الثلوج، جعلت الجميعَ مشغولين بأمر تدبير الحطب للتدفئة عن طريق قص جذوع المزيد من أشجار البساتين وبالتواطؤ مع بعض النواطير.
الشبكة المخصصة لأسر الحمام، المرابط على عليّة منزل آل نيّو، كانت ترتعش وتصدر صريراً، وذلك بفعل الريح الهوجاء. كان صوتها يصل إلى أسماع ساكنيه، لكنهم ما لبثوا أن ميّزوا طرقاتٍ على الباب الخارجيّ. الشاب " معمو "، كان مضطجعاً على البساط في حجرة الجلوس، يستدفئ بالقرب من موقد يشتعل بالحطب، الذي جلبه أخوه غير الشقيق من البستان. وكان يُشبه أخاه الكبير بكرشه واستدارة وجهه، لكن بشرته الشاحبة كانت فاتحة. هبّ من مكانه، ليُهرع نحوَ باب الدار، مجتازاً أرض الديار، المترامية الأطراف والغارقة في الدجى الموحش. فتحَ البابَ على هيئة آدمية، ملتحفة أسمالاً خَلِقة، مستندة إلى حافة الجدار. هتفَ بصعوبة، " أبي! "، حينَ تعرّفَ أخيراً على الرجل: كان عليكي آغا الكبير، إذاً، مَن ظهرَ لابنه الوحيد. لقد لاحَ بسحنة ذابلة ملتحية، وخدين خاسفين، وبذراعين متهدلين ما أسرع أن رفعهما لمعانقة وحيده.

***
امرأة الرجل، الهارب من الجبهة مع الروس، لم تجرؤ على إذاعة نبأ انتصارها، المعلن صحّة تنبؤها. اكتفت بسعادة رجوع الزوج، الذي استعاد قليلاً من محيّاه الجميل عقبَ الحمّام. كذلك نفعته مهنته السابقة، كحلاق، في استعمال المقص لجز شعره الطويل ولحيته الكثة المعفرة بالشيب وغبار الطريق. سأل أولاً عن علي، ابن زوجته، فطمأنته هذه أنه بخير ويعمل في مكانه بمحل الماشية. بعدئذٍ استقبل الأسئلة، عما لاقاه في خلال الأعوام المنصرمة. لما ذكر وجوده على جبهة الروس، قاطعه الابن مستفهماً: " هل تمكنت من زيارة منزل عمي في مازيداغ؟ ". بقيَ الأبُ واجماً، وقد تلاشى إشراق وجهه. ثم ما لبثَ أن تكلّف الابتسام، قائلاً أنه جاء عن طريق ولاية حلب. على الأثر، تلاقت عيناه بعينيّ امرأته: دهمها حدسٌ عن مصيبةٍ ما، حلّت بأولئك الأقارب في موطن الأسلاف. بيد أنّ مرآتها السحرية، المعلومة، لم يسبق أن أنبأتها بشيء حول ذلك.
كان سهلاً إخفاء خبر عودة عليكي آغا الكبير، كون البيت خالٍ من الأطفال. مع ذلك، قرر هوَ القيام بزيارة سرية للزعيم في أقرب فرصة. سرعان ما آبَ إلى مزاجه الرائق، بالأخص مع حضور علي من العمل. قال بنبرة مرحة، ناقلاً نظره بين الأخوين السمينين: " كلاكما كان يجب أن يُمنح لقب ‘ كَوشتو ‘، وليسَ أحدكما حَسْب! ". أسعده أن يعلم أيضاً، أنّ ابنه معمو انتسبَ لمدرسة الفرسان وسيتخرج برتبة صف ضابط. في نهار اليوم التالي، كان يتوق للصعود إلى طيوره، لكنه أجّل ذلك لليل، خشيَة أن يلمحه أحدٌ من الجيران. في أثناء تفقده الدارَ، انتبه إلى أن حجرة والدته الراحلة تعبق برائحة البخور والند. ابنه معمو، وكان برفقته، حدثه عندئذٍ باقتضاب أن أمه " تتسلى " بأدوات ومواد تُساعد نساء الحارة على قراءة مستقبلهن ودرء العين الشريرة عنهن، إلى تفسير الأحلام المزعجة والشفاء من الأمراض المستعصية. ردة فعل الأب، كانت العبوس والتمتمة بجملة " ما شاء الله! ". لم يشأ التعليق بصراحة عن رأيه في مزاولة الزوجة لمهنة حماتها، كونه موضوعاً يثير حساسيته وينبش ماضٍ ظن أنه أوصِدَ عليه الباب منذ عقود.
في ثالث يوم عودته، بدأت حجرة الضيوف تستقبل الأقارب ثم الجيران. لم يحضروا بهدف الاستعانة بالعلوم الربانية لربة المنزل، بل للتهنئة برجوع زوجها. تبين أن علي هو مصدر المعلومة، وكان قد حلّفَ أجيرَ محل الماشية ألا ينقله لكائن من كان. فيما بعد، وقفَ خجلاً أمام زوج أمه ليقول مبرراً: " الفتى كان دائماً ملهوفاً على معرفة أيّ شيء عنك، ولم يقصد بالطبع الاساءة لك. إنه نقل بدَوره الخبرَ إلى أخيه الأكبر، وجعله يُقسم ألا يعلم به أحد! ".
في حقيقة الحال، أن إخفاء الخبر كان أمراً نافلاً، بالنظر لظهور العديد من الهاربين من الجندية في دروب الحارة، وبعضهم عاد إلى عمله أيضاً. لسان حال هؤلاء كان يقول، أن الدولة العثمانية هزمت في الحرب ولن يقوم لها قائمة بعدُ؛ على الأقل في بلاد الشام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ